بين مفهوم المحبة ومفهوم الخوف والرجاء
قبل أن أتحدّث عما أحببتُ أن أُفَصِّل فيه في هذه الحلقة من حلقات منزلة المحبَّة أشير إلى إشكال قد يُطرَح و قد ذُكر في كتب القدماء أو بعض القدماء، وذلك أن بعضهم عارض بين مفهوم المحبة ومفهوم الخوف والرجاء، إذ ذكرت سابقا أن ابن القيم رحمه الله تعالى اعتبر ذلك واحدا ومن كلماته الجميلة أنه قال رحمه الله تعالى “الخوفُ سائقٌ، والرجاء حادٍ، والمحبة مركبة”، فلابد من هذه الأشياء جميعا،
الخوف سائق
السَّوق، والمقصود هنا: ساق يسوق سوْقا فهو سائق، ومنه: (سَوْقُ البهائم)، لأن الإنسان السالك أو المسافر في القديم إنما كان يركب جملا أو حصانا أو ما قُدِّر له أن يركب، ولا يكون السائق في هذا المعنى إلا حاملا لأداة السياقة، وأداة السياقة آنئذ هي العصا، فالسائق يخوف الدابة بعصاه ويسوقها ويسوسها، ولذلك قال: الخوف سائق في طريق الله، أي أن العابد يحتاج وهو سائر إلى ربه إلى شيء يسوقه، ذلك السوق هو الترهيب الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، وهو الترهيب من عذاب الله، فتلك هي عصا السوق التي تسوق المؤمن الذي يؤمن فعلا بالنار ويؤمن بعذاب الله ويؤمن بعذاب القبر وبالحساب والعقاب، نجانا الله وإياكم من ذلك كله.
الـرجـاء حـادٍ
(الخوف سائق والرجاء حادٍ)، وقد أشرت إلى أن الرجاء إنما سُمي حَادياً لأن الحُداء هو ضرب من الغناء عند العرب، فكان الإنسان العربي قبل الإسلام وفي الإسلام كما في صحيح البخاري يحدو الإبل حُداء أي يُنشد لها الأشعار ويُلحِّنُ لها ويُطربها تطريبا لتسرع في السير، فإذا حداك الحادي فمعنى أنه غنى وأنشد لجملك أو لإبلك كي تُنصت إلى جَمال الصوت وتسرع الخُطى، ففَرْقٌ بين سَوْقٍ بالعصا وسَوْقٍ بالألحان، الأول يخيف، والثاني يطرب، ولذلك الرجاء أن تطمع في ما عند الله من فضل وأن تسمع إلى آيات القرآن التي تفصِّل جَمالَ الجنة ونعيمَها، والمؤمن لابد له من الأمرين معاً، لأن النفس بين إقبال وإدبار، بين جَزْرٍ ورَجْع، أحياناً لا ينفعها إلا الخوف، وأحيانا أخرى لا ينفعها إلا الرجاء، إذا كَثُر الخوفُ على النفس ضجَّت وصارت إلى اليأس والقنوط، وإذا قل الخوف إلى درجة الانعدام سابت النفس وطغت، فتحتاج إلى خوف ولكن هذا الخوف مؤَدَّب بالرجاء، مُندّى -من التندية والنَّدى- بالطمع في ما عند الله من خير، فإذا كنت تسير بهذين الأمرين فإنما المركبة التي تركبها هي محبة الله عز وجل وهي التي تسير، لأن الإنسان إنما يسير حقيقة إذا كان مُحِباً، لا يستطيع أن يقاوم إغراء الشيطان في هذه الدنيا الفاتنة التي تَصبُّ فتنها من كل حدب وصوب، لا يستطيع إنسان أن يصدَّ كل ذلك عن قلبه إلا إذا كان ما في قلبه من محبة أكبر بكثير من إغراءات الشيطان ومن وساوسه ومن جميع شهوات الحياة الدنيا، إذا فاقت المحبة لله محبَّتَه للدنيا وكل ما فيها، حينئذ لا يَرى الخير والجَمال إلا فيما عند الله عز وجل، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد الصحابة حين قال له: وقد استيقظ من نوم أو قيلولة على حَصيرٍ بالٍ من سعَف النخل، وهو شديد خشن، وليس كحصير هذا الزمان، وإذا صار باليا صار أشد خشونة، نام النبي صلى الله عليه وسلم وليس بينه وبين هذا الحصير الشائك فراش رطب إطلاقا، فاستيقظ من نومه وقد حَزَّ الحصيرُ على صفحة عُنُقه ووجهه فتأسف الصحابي الجليل وقال: لو اتخذنا لك وطاءً -أي فراشا- تنام عليه يا رسول الله، فأجابه: ((ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها))، لم تملأ الدنيا قلبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء لأن حُبَّ الله وحُبَّ ما عند الله كان قد ملأ عليه كلَّ قلبِه، فلم يبق له شيء من قلبه يُعطيه لهذه الدنيا، إذ أعطى الكل لله عز وجل، وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لو كنت متخذا أحدا خليلا لاتخذت ابن أبي قُحافةَ -يعني أبا بكر- خليلا ولكن صاحِبَكُم اتخذ الرحمنَ خليلا))، والخُلَّةُ هي المحبة العليا، وهي المخاللة والمخالطة، لأن محبة الله خالطت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينفك قلبه عن حب الله إطلاقا وهو أعلى مثال في تفسير قوله عز وجل: {والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}(البقرة: 165) والنبي صلى الله عليه وسلم إنما هو نبي الذين آمنوا، سيد الذين آمنوا ومرشدهم، حيث قال: “أما وإني أخشاكم لله وأتقاكم له”، لم يبلغ أحدٌ من العالَمين ما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من درجة العبادة والرِّفعَة والقُرب والاقتراب من رب العالمين ذِكراً وشُكراً ومحبة لله الواحد القهار، إذن لا ينبغي لمؤمن أن يتصادم عنده مفهومُ الخوفِ ومفهومُ المحبة فهما سواء، وقد بينت أن الخوف حينما يُذكر في القرآن لا علاقة له بالخوف الذي يُذكَرُ في المجال الاجتماعي بين الناس، فخوف الإنسان من أمور الدنيا لا علاقة له بخوف الإنسان من الله، خوف الناس، خوف الحيوانات، خوف الحشرات السامة، خوف الضياع، خوف عادي -من العادة- أما خوف الله فهو خوف عبادي -من العبادة- وللعبادة حلاوة، فإذا كانت العبادة لها حلاوة وإنَّ لها لحلاوة، فإن خوف الله بهذا المعنى له حلاوة، أما الخوف العادي فلا حلاوة فيه بل فيه اضطراب واهتزاز، وفيه عدم الثقة بالنفس، وفيه من الأدواء ما قد يُدمِّرُ النفسَ تدميراً، لا تقوم بعده إلا بشفاء يأذن به الله عز وجل،
خوف الله ثابتٌ بالكتاب والسنة
ومن الأمور المأثورة في بعض الكتب، وأَشُكُّ في نسبتها إلى رابعة العدوية، ويحتاج إلى ما يثبت أنها قالت هذا، وهو كلام باطل قالته أو لم تقله، سواء قالته هي أو قاله غيرها، لأن العِصمَة إنما هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والفطن من تمسّك بالسنة ونظر إلى أقوال الرجال بمنظار السنة، لا يستقيم لمؤمن شيء في عبادته لله إلا إذا أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك بل وأرفع ما في ذلك محبة الله، ألم يقل الله عز وجل في القرآن {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}(آل عمران: 31) من يرغب في المحبة حقا وصدقا فإنما عليه الاتباع، فإذا اتبع نال المحبة، {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ}(آل عمران: 31- 32)، نسأل الله العافية من أن نكون ممن يبغضهم الله عز وجل، القول الذي أشرت إليه هو قولهم في مخاطبة رب الكون، “إن كنت أعبدك طمعا في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفا من نارك فأحرقني بها، وإنما أعبدك لأنك أهل لذاك”، أقول هذا تلبيس إبليس، اقرؤوا كتاب ابن الجوزي رحمه الله “تلبيس إبليس” وله أيضا اسم آخر “نقض العلماء”، يعني أن الشيطان أحيانا يُلَبِّسُ على العُبَّاد، سواء نُسِب هذا الكلام إلى ربيعة أو رابعة أو نُسِبَ إلى غيرها، لا يهمنا الآن لمن قيل ولكن يهمنا جدا أنه أصبح ثقافة في المجال الديني لدى كثير من الناس، ينبغي للمؤمن أن يُفكِّر في ما ينفعه مع الله، الكلمات والشَّقْشَقاتُ الفارغة لا تنفع، وقيل رُئِيَ الجنيد مرة في المنام فقيل له يا أبا فلان حدثني عن ما وقع لك، قال لم تنفعنا تلك الإشارات، ولا تلك العبارات، ولكن نفعتنا رُكَيعات ركعناها بالليل والناس نيام، هذا الذي ينفع الإنسان إذا أَخَذَ بالسلوكِ إلى الله عز وجل، لا يُعقَل أبدا، يعني مثل هذا الكلام نَزِنُه على منظار السنة ومنظار القرآن قبل ذلك أيضا، “إن كنت أعبدك طمعا في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفا من نارك فأحرقني بها” ألم يطمع رسول الله في جنة الله؟ ألم يخف رسول الله من نار الله؟ بلى والله، وقد ثبت بالتواتر من كل جهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى خوفا من الله، وحوادثُ بكاء رسول الله خوفاً أكثر من أن تُحصى، نذكر بكاءه عليه الصلاة والسلام وأبا بكر في حادثة إطلاق أسرى بدر حينما اختلف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد أشار عمر بقطع رؤوسهم وأشار أبو بكر بإطلاق سراحهم وقبول الفداء، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فنزل القرآن يُؤَنِّب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أطلق الأسرى، فما كان له أن يكون له أسرى حتى يُثْخِن في الأرض فجاء لوم شديد من الله عز وجل وجعل رسولُ الله وأبو بكر يبكيان خوفا من رب العالمين ومن عذاب رب العالمين حتى أدركهما عمر فقال: ما يبكيكما؟ فإما وجدتُ بكاءً فبكيت وإن لم أجد تباكيت، كيف يبكي رسول الله ويبكي خيرُ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ولا يبكي عمر؟ فذكر له النبي عليه الصلاة والسلام أن الله عاتبه في إطلاق أسرى بدر وأَنَّبَه على ذلك، فهذا خوف.
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا وإني أتقاكم لله وأخشاكم له))، إذا كان هو أخشى الناس فيكون إذن هُوَ أخوفَهم من الله عز وجل، وأكثر من مرة بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع القرآن يُقرأ من غيره وكان يقول: “أُحِبُّ أن أسمعه من غيري”، فكان إذا سمع آية تُحدِّثُه عن العذاب أو تُحدِّثُه عن رسالته هو عليه الصلاة والسلام بكى خوفا من ألا يُؤَدِّيَ الأمانةَ حقَّها فكان أخوَفَ الناس من الله، وبكى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو وجبريل وما أدراك ما جبريل بكيا معا خوفا من الله.
إذن خوف الله ثابتٌ بالكتاب والسنة في حَقِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم، أرجى الناس في ما عند الله من نعم وجنة، ولا يُعقل أن يُغطَّى هذا الكلام بقولهم “وإنما أعبدك لأنك أهل لذاك” نعم نعبده سبحانه لأنه أهل لذاك، يَستحقُّ أن يُعبد عز وجل بذاته وبجمال صفاته وأسمائه، ولكن أيضا لا يتعارض هذا، ولا يتناقض مع أن نَعبُدَه خوفاً منه، ومن أن نعبده رجاءً فيما عنده.
فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
——-
(ü) منزلة الخوف و الرجاء من حلقات منازل الإيمان التي ألقيت بمسجد الجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي .
أعدها للنشر : عبد الحميد الرازي