يقول الإمام الشافعي: “من تعلّم اللغة رقّ طبعه”.
لغتكم العربية مشروع نهضوي عريق ضارب في شعاب التاريخ، تدفعكم إلى مغالبة خصومكم وأعدائكم وتحقيق النصر عليهم، لم لا، وهي منبعثة من صهيل خيلكم، وقعقعة فرسانكم، من رهج السنابك والغبار الأطيب؟!
لم لا، ولغتكم حجة العالِم، ونداء القائد، وعدة الفارس، ووقود الملاحم، وصرخات الرجال، وحكمة الكبار؟!
لا ترموا لغتكم بالعقم فهي ولاّدة .. شدّوا عليها بالنواجذ .. لغتكم كفيلة بفتح أبواب موصدة .. وآفاق مغيّبة .. كفيلة بفتح باب الابتكار والأفكار .. ستقدرون بها على ترتيب المعطيات .. ستُضاف إلى أرصدتكم ثروة غنيّة بالمفردات، وثروة سخيّة بالمعاني والعبرات، وروح شفافة رفّافة تحلق في أعالي الفضاءات .. لغتكم هي حياتكم .. فلا تُتعسوا حياتكم بإهمال لغتكم.
الحاجةإلى إحياء القلوب:
قال تعالى: {أم على قلوبٍ اقفالها}(محمد: 24)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرّفه حيث يشاء” صحيح مسلم.
وقال أبو الدرداء: “روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلّت عميت..”.
القلوب تقسو فتكون كالحجارة أو أشد قسوة، بل إن من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء، لكن القلب الذي سدَّ صاحبُه منافذَه أن يصل من خلالها هواء رطب يبلل جدرانه ليضج بالحياة ويضخ الدم في أرجاء الجسم والنفس، هو قلب مقفل جفّ من فرط الخشونة وتشقّق جراء اليبس، فلا يستقبل ولا يرسل.
إن القلب -إخواني وأخواتي – أشرف ما في الإنسان، قال ضياء الدين المقدسي في “مختصر منهاج القاصدين”: اعلم أن أشرف ما في الإنسان قلبه، فإنه العالِم بالله، العامل له، الساعي إليه، وإنما الجوارح أتباع وخدام له يستخدمها القلب استخدام الملوك للعبيد. وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم، والله يحول بين المرء وقلبه، وحيلولته أن يمنعه من معرفته ومراقبته، فمعرفة القلب وصفاتِه أصلُ الدين، وأساس طريق السالكين”.
القلب يمرض: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً}(البقرة: 10) قال ابن تيمية: “ومرض القلب نوع فساد يحصل له، يفسد به تصوره وإرادته، فتصوُّره بالشبهات التي تعرض له حتى لا يرى الحق، أو يراه على خلاف ما هو عليه. وإرادته بحيث يبغض الحق النافع ويحب الباطل الضار.
فلهذا يفسَّر (المرض) تارة بالشك والريب، كما القول الكريم السابق، وتارة يفسَّر بشهوة الزنى {فيطمع الذي في قلبه مرض}(الأحزاب: 32).
ومرض القلب ألم يحصل في القلب، كالغيظ من عدو استولى عليك {ويشف صدور قوم مؤمنين. ويذهب غيظ قلوبهم}(التوبة: 14-15)، فشفاؤهم بزوال ما حصل في قلوبهم من الألم.
والقلب يموت بالجهل المطلق، ويمرض بنوع من الجهل، فله موت ومرض وشفاء، وحياتهوموته ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته وشفائه، فلهذا، القلب إذا ورد عليه شبهة أو شهوة قوّت مرضه، وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من أسباب صلاحه وشفائه {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض}(الحج: 53)”.
والقرآن الكريم هو شفاء ما في القلب من أمراض الشبهات والشهوات .. بالقرآن ينهض القلب وينتشي ويفيق .. يخفق بالآيات .. ويدقّ بالمعاني والكلمات .. صعوداً وهبوطاً، ليناً وحماسة، رقة وقوة..
إن القلب -يا سادة – مستودعُ الأسرار، ومحطُّ الأنظار، الحب ينبثق منه، والشوق هو يحركه، يفيض بمشاعر الود، إنه بريد الحياة إلى الحياة، وإذا ما قسى بالنفس الأمارة بالسوء، وإذا ما جفّ ضرعه بعد الظمأ، فإنه يذبل ويموت، وإذا ما مات، مات صاحبه وانتهى؛ فالقلب هو كل شيء.
لذا قمينٌ بنا أن نعمره بقراءة القرآن، بالتدبر في الآيات، بالتفكر في أسرارها، قال ابن القيم: “قراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب”.
اعمر قلبك بالذكر الدائم لله، اعمره بالعمل الصالح والإنجاز، ليبقى يخفق خفقاناً، ليضخّ الحياة في الجسد الهزيل.
أورد الإمام مسلم عن حنظلة بن حذيم الأسدي قال: “كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا، فذكر النار. قال: ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، قال: فخرجت فلقيت أبا بكر، فذكرت ذلك له، فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر. فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، نافق حنظلة! فقال: “مه”. فحدّثته بالحديث. فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل. فقال صلى الله عليه وسلم : ((يا حنظلة ! ساعة وساعة. ولو كانت ما تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر، لصافحتكم الملائكة، حتى تسلّم عليكم في الطرق))(صحيح مسلم).
أَعْمر قلبك بالخشوع .. {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق}(الحديد: 16)؛ فالقلب يذرف دمعه مثلما تذرف الدمعَ العيون .. أبعد عنه أسباب الفساد .. جنّبه أمراض النفوس، تعال عليها، أترضى أن تلوث قلبك بغلٍّ وحسد وحقد وجبن وخسة وكبر وتجبر ؟! .. لله درّك يا فضيل … -الفضيل بن عياض – كان قبل التوبة لصّاً قاطع طريق .. عاشقاً لجارية .. فاشتاق إليها ليلة وتسلّق دارها .. وبينما هو يتسلق إذ سمع قارئاً يقرأ {ألم ين للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} فاستثيرت مشاعره، واهتزت جوانحه، وقال: يا رب .. قد آن .. يا رب، قد آن .. اللهم إني تبت إليك.
هذا القلب في جانبه الروحي والمعنوي، أما في جانبه المحسوس فعجب أمره .. هل لكم أن تتصوروا وزن القلب لدى الشخص البالغ؟! إنه لا يزيد عن ثلث كيلو جرام، حجمه في حجم قبضة اليد، ينبض حوالي (70) نبضة في الدقيقة، أو ما يزيد عن مئة ألف مرة في اليوم الواحد، أو قرابة أربعين مليون مرة في العام.
القلب -هذه المضخة العجيبة -تدفع الدم إلى الدماغ في ثمان ثوان فقط، وتدفعه إلى الأقدام في أقصى أطراف الجسم في ثماني عشرة ثانية. وإذا توقف الدم عن الدماغ لأي سبب من الأسباب لمدة دقيقتين أصيب الدماغ إصابة بالغة تؤدي إلى غيبوبة قد يفيق منها صاحبه أو قد لا يفيق، فضلاً عن أن تؤدي إلى مختلف أنواع الشلل وإصابات الدماغ.
وإذا توقفت الدورة الدموية عن الدماغ مدة أربع دقائق فقط، فإن هذا الإنسان يعدّ في عداد الموتى؛ لأن دماغه قد توفي ومات، وبموته يموت.
ألا ترون أن القلب بشقيه المعنوي والمحسوس ينطوي على أهمية كبرى، لا نكاد نفرّق بين هذه الأهمية في جانبها المعنوي أو في جانبها المحسوس، فكأن الجانبين متكاملان، كلاهما يؤديان الدور متضافرين، كأن لا فرق حقيقيّاً بينهما. فسبحان من خلق هذا القلب وركّبه في أجسامنا! فلنحي قلوبنا بحب خالقها، لترتقي أرواحنا إلى الملأ الأعلى، وأكرم به من حب:
إذا كان حب الهائمينمن الورى
بليلى وسَلمى يسلب اللبّ والعقلا
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي
سرى قلبه شوقاً إلى الملأ الأعلى؟!
اللهَ اللهَ في قضايا الأمة:
“من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم” .. بلاد المسلمين ذات تاريخ تليد، ضاربةٌ في شعاب المعمورة .. شهدت ميلاد الحياة لما تنفّست الحياة .. حباها الله تعالى بالخيرات والبركات .. وجمّلها الله بفيوض العلم وأنوار الهدى .. فيها نزل قرآن الله تعالى، وفيها هبط الوحي من الله الكريم، ومنها انطلقت مواكب التعمير في الأرض، فأفاقت البشرية كلها على كون يتشكّل، وحياة تنبثق من الموات .. عُمر الكون بكلمة الله، عبر خلفاء الله في أرضه، فكانوا خير مبلّغين عن الله، وكانت كلمة الله هي العليا، لكن الله تعالى خلق الخير والشر، والحق والباطل، فأبى من اقتات على موائد الباطل إلا الزيغ عن الحق، وإلا البغي والعدوان، أراد الله أن يُظهر الحق وقوته وأهله، حين يدخل في صراع مع الباطل وانتفاشه وأهله، فيبتلي جنده، ليستخلص منهم الجديرين ببسط الحق في الأرض، وليميز الله الخبيث من الطيب، فينتصر الحق ساعة، ثم لا يلبث الباطل إلا أن يكسب جولة، وهكذا دواليك..
هذا الباطل -إذن – ماض في طريقه إلى أن تقوم الساعة، احتل بلاد المسلمين، وأفسد فيها، وأهلك الحرث والنسل، ونهب خيراتها.. وفتّتها، حتى ارتفعت أوتاد الفئوية فيها فتمزقت أشتاتاً، وما زال المكر مستمرّاً .. من هنا، وجب على كل مسلم – قدر استطاعته – أن ينهض من كبوته، وسبيل النهضة ميسور .. كلٌّ من موقعه، حسب علمه، حسب عمره، حسب همّته، حسب صحّته، حسب محيطه، يستطيع إنجاز مهمة تسهم في إعادة البعث الإسلامي من جديد .. يضع لبنة فوق لبنة .. ومدماكاً على مدماك .. فتلتقي كلها في دائرة واحدة، في بنيان مرصوص .. كل جُهد يبذل يؤجر المسلم عليه، مهما قلّ أو صغر..
- لا تحقرن صغيرة
إن الجبال من الحصى
- تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً
وإذا افترقن تكسرت آحاداً
كل مسلم في بلده يمكن أن يُسمع صرخته لمسلم في بلد آخر -مهما تناءت المسافات – أليس هو شعور الأخوة الإسلامية؟! .. بلى .. إن المسلم حين يشعر بآلام أخيه .. حين يتحسس أحواله .. حين يقدم له الدعم والإسناد في محنته .. هذا مسلم عالميّ الاعتقاد، عالمي الإنسانية، عالمي التوجه والشعور، عالمي القيم والمبادئ، قال العلامة محمد المبارك: “إن الإسلام نقل العرب إلى الطور النهائي من أطوار الأمم، بأن حمَّلهم المسؤولية العالمية، فنقلهم من مسؤولية القبلية إلى مسؤولية العالم دفعه واحدة، علماً بأن هذه النقلةَ تحتاج في الأحوال العادية إلى مئات السنين”. ألا يكفي قول الله تعالى: {الحمد لله رب العالمين}(الفاتحة: 2) ؟!
يا أخي في الهند أو في المغرب
أنا منك أنت مني أنت بي
لا تسل عن عنصري عن نسبي
إنه الإسلام أمي وأبي
عديدة هي السبل الممكنة لتضميد الجراح: عبر الشعور، عبر المال، عبر الكلمة الجريئة، عبر الدعاء المخلص، عبر وسائل الإعلام، عبر موقع الشغل، عبر الجامعة والمدرسة، عبر المقالة والكتاب، عبر الجهاد إن أمكن، كلٌّ حسب استطاعته وجهده البشري ..
> أحمد طاهر أبوعمر
مدير تحرير مجلة الفرقان الأردنية