منزلة الـمحبة (الأخيرة) إدراك المحبة رهين بتطهير القلب من الخطايا


بعدما اعتبر الشيخ المحبة جوهراً للقرآن الكريم وأنها مركبة  السائرين إليه عز وجل وبعدما تحدث عن تجليات محبة الله عز وجل لعباده يتحدث في الحلقة الثالثة والأخيرة عن كيفية إدراك المحبة وأنه رهين بتطهير القلب من الخطايا والذنوب

محبة الله نور يقود العبد إلى الله

أسماء الله الحسنى وصفاته العلا توجد في كتاب الله عز وجل وكتاب الله نزل للناس أجمعين ليقرأه كل واحد على وزان نفسه، يقرأ نفسه من خلال القرآن، والإنسان مدعو لمشاهدة نفسه في ميزان الله وإنما ميزانه كتابه عز وجل، لما تقرأ آيات القرآن الكريم انظر إلى نفسك أين أنت من آيات الصديقين والصالحين، آيات الطالحين والكافرين، آيات الخير وشروط الخير، آيات الضلال وشروط الضلال، بين هذا وذاك مراتب شتى أين أنت منها؟   كتاب الله أُنزِل لتبصِر به الله تعالى ولتبصر به الكون وتبصر به نفسك والحياة حولك وكل شيء {أبصر به وأسمع} ما أشد إبصاره وإسماعه، القرآن الكريم يُبَصِّر الناس ويسمعهم فتحتاج إذن إلى أن تفتح فقط بصيرتك {فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وعمى القلوب إنما يكون حينما يكثر العبد من الذنوب ولا يستغفر ولا يتوب، جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((تُعْرض الفِتَنُ على القُلُوب كعرْض الحصِير عُوداً عوداً. فأيّ قلْب أُشربَها نُكتَتْ فيه نُكْتةٌ سودَاءَ، وأيّ قلبٍ أنْكَرَها نُكِتَتْ فِيه نُكْتةٌ بيْضاءُ، حتّى تعُودَ القُلُوب على قلْبَيْن : قلْبٍ أسْود مُرباداً كالكُوزِ مُجَخِّياً، لا يعْرِفُ معْروفاً ولا يُنْكِر مُنْكَراً، إلا ما أُشْرِبَ مِن هواهُ،وقَلْبٍ أبْيَض لا تَضُرُّه فِتْنةٌ ما دَامتِ السّماوات والأرْض)) ((تعرض الخطايا على القلوب عرض الحصير)) والنسيج هو من أشد الأشياء متانة، فإذا نُسجَت الخطايا على القلب صارت غلافاً كالحصير قويا متينا فتُغلِّف القلب تغليفا كما غُلِّفَت قلوب بني إسرائيل “وقالوا قلوبنا غُلف” -والعياذ بالله- والشيطان هذا دأبه وسعيه، يسعى لتغليف القلوب، يحاول تغليف القلب بأسوأ الذنوب، ذنب بعد ذنب وبسرعة قبل أن يتوب العبد، عسى أن يتمكن من ذلك القلب ويلقيَه حينئذ بواد القمامات والقاذورات ولذلك كانت نصيحة محمد صلى الله عليه وسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن))(رواه الإمام أحمد والترمذي) لكن مع الأسف القلوب إذا غُلفت يصعب عليها أن تستفيد من كوثر النبوة، وأتبع : من الاتباع مباشرة إذا أذنبت ذنبا أتبعه بحسنة مباشرة، لا تقل غدا لأن تلك السيئة تنتشر كالمكروب وتقوم بالنسج مع ما سبق في قلبك من سيئات وتغلف قلبك تغليفا، عرض الحصير عودا عودا ولذلك وجب أن تتبع السيئة بالحسنة قبل أن تصبح نسيجا لأنها إذا أصبحت نسيجا يصعب  انتزاعها من قلبك، ((وأتبع السيئة الحسنة)) فعل تعدى إلى مفعولين في لحظة واحدة، وأتبع السيئة المفعول به الأول الحسنة المفعول به الثاني في المكان بفعل واحد مما يدل على تزامن الفعل أنه عمل واحد في اللحظة أتبعها بحسنة قال صلى الله عليه وسلم : ((تمحها)) وهذا يسمى في النحو جواب الأمر، وجواب الأمر يفيد اللزوم، أتبع تمح، اجتهد تنجح، يعني مائة في المائة ليس فيها شك، حينما تتبعها تمسحها كاملة فالعبد إذن إذا تخلص من ذنوبه ذاق حلاوة الإيمان حينئذ، وحينئذ فقط. عندما يتخلص العبد من الذنب ويتطهر منه يتذوق كما يقع للإنسان المزكوم يفقد حاسةالشم وعندما تعود له حاسة الشم  يعرف أنه بدأ يتعافى ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث عن هذا الإنسان الذي تغلف قلبه بالذنوب ((لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا)) فقد اختلطت عنده رائحة الخير برائحة الشر، كأنه مزكوم لا يفرق بين الرائحة الطيبة اللطيفة والرائحة الخبيثة النتنة، فكذلك الذنوب والأعمال الصالحة لدى العبد الذي له قلب يذوق فلكي تدرك المحبة جرد قلبك من الخطايا، يذق المائة في المائة، لو أنك جردت قلبك من الخطايا حقا لذاق هذا المعنى الذي تحدث عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأخبر به الصالحون ممن ذاقوا حينما قال الله عز وجل في القرآن الكريم {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله}  هذا هو المعنى الذي نتحدث عنه، كثير  من الناس اتخذوا من دون الله أندادا يرجعون إليهم في العسر واليسر، يطلبون منهم سواء كانوا أحجارا أوأشجاراً أو غير ذلك،  ساووهم مع الله تعالى في المحبة، يحبونهم  كحب الله، فهؤلاء تساوى الذوق عندهم، الطعام الطيب والطعام الرديء سواء، {يحبونهم كحب الله} بينما المؤمن الصافي القلب أشد حبا لله {والذين آمنوا أشد حبا لله} و”أشد” صيغة تفضيل، العبد يفضل حب الله على كل حب وحب الله أمر لو امتلك على عبد قلبه لما وجد بعد ذلك راحة إلا في الاقتراب منه، الإنسان الذي يحب بلاداً أو يحب إنساناً متى يكون في راحة وسعادة؟

في حالتين : عندما يكون في تلك البلاد قريبا من محبوبه أو من المكان الذي يحبه، أو عندما يكون مسافراً إليه.  فكذلك العبد المحب لربه لا يجد راحته إلا في حالين إما أن يكون إلى جانب ربه و((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) أو يكون في حالة السير إلى ربه ولذلك رتب النبي صلى الله عليه وسلم الحسنات على الخطوات التي يخطوها العبد إلى المسجد وهو يقصد الصلاة، لم يخرجه منبيته شيء سوى الصلاة، شيء عظيم جدا، ألا يخرجك من بيتك أو من متجرك أو من مكان عملك شيء إلا الصلاة، تركتَ المال والأعمال وتركت سكينة المنزل ودفء الفراش تقصد في خطوات مشاءً إلى الله في الظلم وقلبك منير، الظلام على الناس الأخرين أما أنت مع أنك تسير في الظلام فأنت تسير في الضوء، لأن العبد إذا خرج إلى الله لا يقصد إلا الله فقلبه منور بنور الله وبصره مُنوَّر بنور الله فهو يرى بنور الله ويسمع بسمعه عز وجل  ((بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة)) أو كما قال صلى الله عليه وسلم لا يسير إلى الله عز وجل إلا محبٌّ له.

نحن في حاجة شديدة إلى مطالعة آلاء الله في الأنفس والآفاق، محتاجين إلى أن نتأمل ونتفكر ونتدبر هذه المعاني التي تعرفنا من هو الله عز وجل؟ وإن معرفتنا به قليلة جداً وإنها مشكلة، إننا كلما عرفناه ازددنا حبا فيه عز وجل، لأن خلاله سبحانه، وصفاته هي صفات المحبة، كل صفاته تقربك إليه وتحببك فيه وإنما يضيع ويضل من جهل هذا، كثير من الناس يبحثون عن أشياء ترضي أنفسهم، كثير من ألوان الضلال من النساء والشهوات {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}.

الإنسان يسعى ويجري وراء الملذات ليجد راحته، لأن راحته في شهوته {زُيِّن للناس حب الشهوات} تزيين فطري لأن الإنسان يبحث عن الراحة، ولكن المشكل هو في طريقة الوصول إلى هذه الراحة، لو قصد فيها -أقول فيها- الله عز وجل لوجد راحته فيها حقا لأنه لم يقصدها لذاتها وإنما قصدها لله سبحانه، وحينما يقصدها لذاتها يدخل في قوله عز وجل : {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}، فلا يجد راحته لا فيها ولا في غيرها وفي الحديث القدسي : ((عبدي أنت تريد وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد))، كيف تتعارض إرادة العبد مع إرادة الله، إرادة الله قاضية غالبة والله غالب على أمره سبحانه وتعالى : {هو القاهر فوق عباده} ((أنت تريد وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد فإن أطعتني فيما أريد مكنتك مما تريد)) لو تطيع الله فيما يريد يعطيك سبحانه ما تريد أنت، ((وإن عصيتني فيما أريد منعتك مما تريد ولا يكون إلا ما أريد)) فالعبد إذن لو قصد ما قصد من الملذات ولكن بالمنهج الشرعي فمعنى ذلك أنه يعرف لله قدره، فمحبته إذن قاضية على محبة ما دونه. الإنسان بطبعه يحب المال ولكن لأن الله حرم عليه نوعاً من الأنواع فهو يتجنبه طاعة لله عز وجل محبة فيه وهو سبحانه يعطيه من رزقه المال الحلال وتبقى في قلبه محبة الله، ومحبة الله نور يقود العبد إلى الله ولا يحرمه من أي شيء من خيرات الدنيا وخيرات الآخرة ولكن الشيطان يظل الإنسان ويُمنِّيه ويعِدُه الفقر، والله عز وجل هو الغني سبحانه وتعالى، {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.

اللهم اجعلنا ممن يحبك، ويحب رسولك، ويحب الصالحين من المؤمنين.

    فريد الأنصاري رحمه الله تعالى

أعدها للنشر : عبد الحميد الرازي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>