مــرآة رمـضـان


يمكن اعتبار “رمضان” إحدى المرايا التي تعكس بعمق المنظور الإسلامي للحياة والوجود.. فإذا كانت الصلاة تمثل المحطة اليومية لعبادة الله سبحانه.. وإذا كان الحج يمثل محطة العمر.. فإن رمضان يمثل المحطة السنوية لممارسة عبادة قلّ نظيرها بين العبادات، وهي العبادة الوحيدة التي لا تحتمل أي قدر من الرياء على الإطلاق. فلن يمتنع مسلم ما عن الطعام والشراب يوماً بكامله إلاّ أن يكون عمله ممحّضاً لله سبحانه، ذلك أن فرص خرق هذا الالتزام أو الحرمان، مفتوحة لكل من يريد. بعيداً عن الأنظار.. أو تحت غطاء ادّعاء المرض.. ولهذا قال الله سبحانه في حديث قدسي: ((كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنه لي وأنا الذي أجزي به)).

والصوم كأيّة عبادة إسلامية يحقّق أهدافاً عديدة، كما هو معروف، وتلتقي فيه الرياضة الجسدية بالرياضتين العقلية والروحية.. والفردي بالجماعي.

هذا إلى أن الصوم يحقّق، كأية عبادة إسلامية كذلك، خير الدنيا والآخرة، فثوابه عند الله سبحانه كبير، وهو في الوقت نفسه تتمخّض عنه فوائد صحّية عديدة فيما تحدّث عنه المختصّون بالطب فأطالوا الحديث.

ففي أية ممارسة إسلامية يلتقي بتوافق مدهش كل ما ينفع الإنسان نفسه على كل المستويات العقلية والروحية والجسدية. كما يلتقي الأخروي بالدنيوي، والسماء بالأرض، والخالد بالفاني، والفردي بالجماعي فيما لم يشهده أي دين آخر أو مذهب وضعي على الإطلاق.

وثمة توافق آخر في هذا الشهر المتّميز: ذلك اللقاء الحميم والنادر، بين الجدّ في أعلى وتائره، وبين الفرح والترفيه في صيغهما المتنوّعة، والمنضبطة.. أليس هو حلقة من حلقات الدين الذي يعمل تحت شعار: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً”؟ أليس الصائمون هم تلامذة وأتباع الرسول المعلّم صلى الله عليه وسلم القائل”روّحوا عن أنفسكم ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلّت عميت؟”. أليس الصيام ممارسة تعبدية في سياق دين يطلب من أتباعه التزّين عند كل مسجد، والاستمتاع بطيبّات الحياة الدنيا؟: {قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبّات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة}.. ثم ألم يعد الرسول صلى الله عليه وسلم الصائم بفرحتين إحداهما عند الإفطار والأخرى عند لقاء الله؟

وبمرور الوقت انبثقت عن هذا التوافق الفريد بين الجّد والترفيه، جملة من الممارسات والتقاليد الاجتماعية والشعبية على مدى ديار العالم الإسلامي، منحت رمضان نكهة خاصة وجعلته يرتبط في ذاكرة المسلمين بالكثير من ممارسات الفرح واللعب والبهجة والترويح والأناشيد والأهازيج.. فضلاً عن تبادل الولائم والهدايا والزيارات.

صحيح أن الإسلام يعتبر الحياة الدنيا رحلة عابرة، ولكنه يجعلها رحلة طيبة مترعة بالتوافق والانسجام والفرح والسعادة.. ويجيء رمضان لكي يعكس كالمرآة الصافية هذا كلّه.

وثمة في ذاكرة المسلمين شيء آخر مما يعكسه هذا الشهر الكريم.. تلك الانتصارات الكبيرة التي حققها الآباء والأجداد في رمضان عبر تاريخ الأمة المشرق.. وهي كثيرة جداً ويكفي التأشير على أهمّها مثل: نزول الوحي الأمين، ومعركة بدر في السنة الثانية للهجرة، وفتح مكة في السنة  الثامنة، والعودة من غزوة تبوك في السنة التاسعة، وفتح الأندلس في سنة 92هـ، وفتح عمورية في سنة 221 هـ، ومعركة الزلاّقة في الأندلس سنة 479هـ، ومعركة عين جالوت التي هزم فيها المغول سنة 658 هـ، والعبور الكبير إلى سيناء في العاشر من رمضان سنة 1973م.

     أ. د. عماد الدين خليل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>