الحقيقة الأولى: التغيير يبدأ من الداخل
… لازلنا في قوانين القرآن الكريم، والقانون اليوم قانون التغيير… المجتمعات الإنسانية تتطلع إلى التغيير، تتطلع إلى تغيير الحال، من التفرق إلى التجمع، من التنافس إلى التعاون، من الضعف إلى القوة؛ ولكن هذا التغيير، أولا بيد من؟ وثانيا ما أسبابه؟ وما القوانين التي تحكمه؟
لو اطلعنا على القرآن الكريم لنبحث عن قانون يتحدث عن التغيير لوجدنا هذه الآية التي تعد أصلا في التغيير، الله عز وجل، وكتابه عظيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفضل كلام الله على خلقه كفضل الله على خلقه، الله عز وجل يقول {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد : 15).
هذه الآية على إيجازها، وعلى تماسكها، تسطر حقيقة صارخة ثابتة قطعية، لا تتبدل ولا تتغير، ولا تطور ولا تعدل ولا تلغى. إن التغيير ينبغي أن يبدأ من الداخل، وأي تغيير يأتينا من الخارج لا يسهم في حل مشكلاتنا، ولا في تحسين أوضاعنا، ولا في تماسكنا، ولا في قوتنا… كيف؟ وهل تتصور أن إنسانا في كرة يحكمها، هو وهذه الكرة ضمن كرة كبيرة لا يحكمها، بل تحكمه، قوى كبيرة تملك من أنواع الأسلحة والقوى ما تفرض رأيها عليه، فكيف ينجو من هذه القوى؟ أو كيف ينتصر عليها؟ الله عز وجل يقول {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد : 15) يعني هذه الكرة التي تملكها، والتي يعد أمرك نافذا فيها، هذه الكرة حينما تقيم فيها أمر الله يأتي الجواب “أقم أمر الله فيما تملك يكفيك ما لا تملك”..
إن أردنا التغيير نحو الأحسن، نحو القوة، نحو التماسك، نحو الغنى، نحو السمو؛ ينبغي أن يبدأ التغيير من أنفسنا، ينبغي أن يبدأ التغيير بصلحنا مع الله، “إذا رجع العبد إلى الله نادى مناد في السموات والأرض أن هنئوا فلانا فقد اصطلح مع الله”.
… مشاريع كثيرة للتغيير لم تنجح، لأنها لم تبدأ من الداخل، بدأت من الخارج، أو من استيراد نظم هجينة عن واقعنا، وعن قيمنا، وعن مبادئنا؛ فالله عز وجل {لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد: 15) هذه الحقيقة الأولى.
الحقيقة الثانية: إن لم تغير فالله لا يغير
هناك حقيقة أخرى يمكن أن .. تشمل الأمة بأكملها، أو تشمل أحد أفرادها، وعظمة هذا الدين أنه دين جماعي فردي، فإذا أخذت به الجماعة قطفت ثمار هذا الدين، إن لم تأخذ به الجماعة وأخذ به الفرد قطف وحده ثمار هذا الدين، والأولى أن تأخذ الجماعة بأكملها بهذه … الحقيقة: أيها الإنسان على المستوى الفردي، إن كنت في راحة نفسية، إذا كنت في بحبوحة، إذا كانت أسرتك متماسكة، إذا كان دخلك يغطي حاجاتك، إذا كان أولادك أبرارا، إذا كانت سمعتك طيبة؛ هذا الوضع المريح الذي أنت فيه، إن لم تغير فالله لا يغير، اطمئن {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا}(الشورى : 30).. ينبغي أن تثق بالله عز وجل، وأن تثق أن المستقبل، وأنت مستقيم على أمر الله، لا يخبئ لك إلا كل خير، وهذا معنى قوله تعالى {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا}(الشورى : 30). إن كنت في بحبوحة، إن كنت في رفعة، إن كنت في راحة، إن لم تغير فالله لا يغير، ابق متواضعا، ودائما وأبدا من السهل أن تصل إلى قمة المجد، ولكن البطولة لا أن تصل بل أن تبقى، لأن طريق المجد طريق وعر، فيه أكمات، فيه عقبات، فيه صعوبات، فيه صعود حاد، ويمكن بعد جهد جهيد جهيد أن تصل إلى القمة، ولكن البطولة لا أن تصل إليها بل أن تبقى فيها، فلذلك فإذا كنت على خلق، وعلى ورع، وعلى استقامة، وعلى طاعة، وعلى عطاء، وعلى أعمال صالحة؛ لا تغير هذه الأعمال، فالله عز وجل متكفل لك ألا يغير ما أنت فيه.
الحقيقةالثالثة: غيِّر حتى يُغَيَّر
الآن يقابل هذه الحقيقة الرائعة حقيقة مرة، إن كنت أيها الإنسان في ضائقة، في مشكلة، في خلاف داخلي، في ضعف سمعة، في مشكلات خارجية، إن كنت تعاني ما تعاني؛ ارجع إلى نفسك، لأن الله عز وجل يقول {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم}(النساء :147).. غير حتى يغير، وإن لم تغير فالله لا يغير، فهذه الآية على إيجازها هي قانون دقيق جدا، تحتاجه الأمة بأكملها، ويحتاجه الفرد المسلم، إن كنت في راحة لا تغير فالله لا يغير، وإن كنت في ضائقة غير حتى يغير {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد : 15) لذلك ورد في بعض الأحاديث “إنما تنصرون بضعفائكم” من أجل أن تنتقلوا من الضعف إلى القوة، من أجل أن تتجاوزوا مرحلة الهزيمة إلى مرحلة النصر {إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم} فالضعيف ينبغي أن تطعمه إن كان جائعا، وأن تكسوه إن كان عاريا، وأن تعلمه إن كانجاهلا، وأن تؤويه إن كان مشردا، وأن تنصفه إن كان مظلوما؛ إنك إن فعلت هذا كافأك الله بمكافأتين: الأولى: أن ينصرك على من هو أقوى منك بحكم التوحيد، والمكافأة الثانية بحكم التكتيك، أنت حينما تنصر الضعيف تتماسك هذه الأمة، ويصعب اختراقها، إذن {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد :15).
… من الآيات التي تؤيد هذا الأصل في التغيير، أن الله سبحانه وتعالى يقول {إن تنصروا الله ينصركم}(محمد :7) نصر الله له ثمن، ثمنه أن تنصر دينه، أن تقيم شرعه، أن يكون الأمر عندك مهما، أما حينما ترى أن الله تخلى عن المؤمنين، هو في الحقيقة أدبهم، لأنه هان أمر الله عليهم فهانوا على الله… وأحيانا تكون شدة الأقوياء تأديبا لهؤلاء المؤمنين الضعفاء، قال تعالى {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون}(الأنعام : 129)..
.. لا تنسوا أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}(النور :55) الثمن {يعبدونني}(النور :55).. لذلك حق العباد على الله إذا هم عبدوه ألا يعذبهم {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}(الأنفال :33) منهجك مطبق فيهم، إذن هذه آية دقيقة جدا “يعبدونني” وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من اتى الله بقلب سليم}(الشعراء :89) القلب السليم هو القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، والقلب السليم هو القلب الذي لا يصدق خبرا يتناقض مع وحي الله، والقلب السليم هو القلب الذي لا يحتكم إلا لشرع الله، والقلب السليم هو القلب الذي لا يعبد إلا الله.
…{وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم}(النور :55) فإن لم يُمَكَّن دينهم معنى ذلك أن فهمهم لهذا الدين، وتطبيقهم له، ودعوتهم إليه، لا ترضي الله عز وجل. إذن ينبغي أن نراجع أنفسنا، والكرة في ملعبنا، وفي أية لحظة نصطلح مع ربنا ننتصر على أعدائنا، وتتحسن أحوالنا، ويغير ما بنا إن غيرنا ما بأنفسنا… إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى…
لخبير الجمال الدعوي الدكتور محمد راتب النابلسي