الاتصال بالله روح التدين:
…قانون اليوم هو قانون لقاء الله عز وجل، ولابد من مقدمة بسيطة تلقي ضوءا على محور هذا اللقاء.
… التجارة لها نشاطات لا تعد ولا تحصى، بدءا من شراء المحل التجاري، إلى شراء المستودعات، إلى مكتب الاستيراد، إلى تعيين الموظفين، إلى شراء البضاعة، إلى توزيعها، إلى جمع ثمنها، إلى توزيع الأرباح؛ نشاطات لا تعد ولا تحصى، ولكن هل يمكن أن نضغط التجارة كلها بكلمة واحدة؟ نعم يمكن، إنها الربح، فإن لم تربح فلست تاجرا.
لو أنني أردت أن أقيس هذا المثل البسيط على الدين، نشاطات المسلم لا تعد ولا تحصى، يطلب العلم، يسافر، يلقي محاضرة، يقرأ كتابا، يؤسس جمعية، يتصدق، يصلي قيام الليل؛ هذه النشاطات التي لا تعد ولا تحصى، هل يمكن أن تضغط بكلمة واحدة؟أنا أقول هذه الكلمة هي الاتصال بالله، ما لم نتصل بالله لن نقطف من ثمار الدين شيئا، ما لم نتصل بالله يبق، الدين فولكلورا، عادات، تقاليد، خلفية إسلامية، أرضية إسلامية، نزعة إسلامية، اهتمامات إسلامية، عاطفة إسلامية، تصورا إسلاميا، مشاعر إسلامية؛ لكن الدين شيء آخر، الدين أساسه الاتصال بالله، والإحسان إلى الخلق. يقول الله عز وجل على لسان سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا}(مريم :31).
لذلك حقيقة الدين الاتصال بالله، كل ثمار هذا الدين تقطف من هذا الاتصال، من هذا الاتصال تقطف الحكمة، تقطف الكمالات التي استمدها المصلي من ربه في أثناء صلاته، تقطف الحكمة والحلم، والتؤدة والراحة، والسعادة والسكينة، والحركة الناجحة والعمل الصالح، وما إلى ذلك.
ما في المقدور من صالح الأعمال ثمن الاتصال والكمال
لذلك ما هو قانون الاتصال بالله؟ما هو قانون لقاء الله؟ هنا مركز الثقل، الله عز وجل يقول {قل إنما أنا بشر مثلكم} لولا أن النبي بشر، تجري عليه كل خصائص البشر، لما كان سيد البشر. {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي}(الكهف : 110) ما ملخص هذا الوحي كله؟ كأن الله أراد أن يلخص القرآن كله في كلمتين… {أنما إلهكم إله واحد}(الكهف : 110) التوحيد كفحوى دعوة الأنبياء جميعا. {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}(الكهف : 110) هذه الآية أصل في قانون لقاء الله عز وجل… معنى ذلك أن لقاء الله عز وجل ثمنه العمل الصالح، ذلك أن الإنسان مفطور ومجبول، ومبرمج ومؤلف على حب وجوده، وعلى حب سلامة وجوده، وعلى حب كمال وجوده، وعلى حب استمرار وجوده.
سلامة وجوده في طاعة الله، واستمرار وجوده في تربية أولاده، ولكن كمال وجوده في الاتصال بالله، وهذا الاتصال ثمنه العمل الصالح، فكأن هذه الآية تبين قانون اللقاء مع الله عز وجل {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا}(الكهف : 110).
… الله عز وجل ما كلفنا فوق طاقتنا {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}(البقرة : 285) ما كلفنا أن نقف.. وأن نمنع الطغاة من أن يمارسوا هذه الضغوط، ولكن كلفنا ما نستطيع، الذي نستطيعه أن نقيم الإسلام في نفوسنا، وفي بيوتنا، وفي أعمالنا. من خلال إقامة الإسلام في النفس أولا، وفي البيت ثانيا، وفي العمل المهني ثالثا؛ لو فعل كل مسلم هذا لكان الحال غير هذا الحال.
… هناك حقيقة دقيقة تقول “أقم أمر الله فيما تملك يكفيك ما لا تملك” أنت حينما تقيم أمر الله في نفسك، وفي بيتك، وفي عملك؛ الله عز وجل يكفيك ما لا تستطيع أن تواجهه، هذه حقيقة دقيقة وصارخة، تؤكدها آية كريمة {بل الله فاعبد وكن من الشاكرين}(الزمر : 66).
يعني الإنسان خلال حياته المديدة، حينما يتوفاه الله عز وجل تلخص أعماله كلها في كلمة واحدة، يقول الناس: رحمه الله. والذي عاش لإيذاء الناس وابتزاز أموالهم، وانتهاك أعراضهم، إذا مات يلخص عمله كله في كلمة واحدة، يقول الناس: لا رحمه الله.
… لذلك قضية اللقاء مع الله، والاتصال بالله هو جوهر الدين، تماما، لو عندك عشرات الآلات الكهربائية في البيت، بدءا من غسالة، ثلاجة.. مكواة، مروحة، مكيف، لو جمعت في بيتك كل الآلات الكهربائية، وليس في البيت كهرباء، لا قيمة لها إطلاقا؛ لذلك كل نشاطات الدين، إن لم يسر فيها الاتصال بالله، لا تنفع ولا تجدي، وتصبح عبءا. وقد يمل الناس تطبيق بعض قواعد الدين، إن لم يكن هناك اتصال بالله، فهذا اللقاء من أجل: معرفة قانون الاتصال بالله {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا}(الكهف : 110) يعني سهل جدا أن يكون لك ولاء لجهة أرضية، هذا الولاء لا يكلفك إلا أن ترفع صورة، أو أن تبعث بكلام لطيف يؤكد انتماءك، لكن الولاء مع الله يحتاج إلى استقامة ودقة ووقف دقيق عند حدود الله، ألا تؤذي إنسانا لا بكلامك، ولا بأعمالك، ولا بمالك؛ أنت حينما تؤمن بالله الإيمان الصحيح، وتستقيم على أمره، وتعلن ولاءك له، تكون ملكا، ولا يمكن أن يقبل الله عز وجل إنسانا إلا إذا كان مستقيما، بنى حياته على العطاء لا على الأخذ، ولا على إيذاء الناس.
العطاء والإحسان سر السعادة بلقاء الرحمن
… إذن الولاء لله يعني أن تستقيم على أمره، وأن تعمل عملا صالحا يقربك إليه، لكن الذي يلفت النظر أن الإنسان كما قال الله عز وجل {على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره}(القيامة: 14-15)… حتى أوضح هذا الأمر الدقيق، هذا القانون المهم جدا في الوصول إلى الله، لابد من مثل، لو أن جنديا غرا التحق بقطعة عسكرية، وهذا الجندي الغر يريد أن يقابل قائد اللواء، شبه مستحيل أن يقابل هذا القائد، لماذا؟ لأن ثمة تسلسلا.. أمامه سبعة أو سبعتين، يعني عريف وعريف أول، وثمانية وثمانيتين، مساعد ومساعد أول، ونجمة ونجمتين وتاج، ونجمة وتاج ونجمتين، فيه رتب عديدة جدا تنتهي بقائد هذا اللواء، ولا يمكن لهذا المجند الغر أن يصل لهذا اللواء إلا في حالة واحدة، أن يرى ابن هذا اللواء يسبح، وكان على وشك الغرق فينقذه، بهذا العمل الطيب الذي أنقذ ابن هذا اللواء بإمكانه أن يدخل عليه من دون استئذان، ويرحب به ويضيفه ويشكره… {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا}(الكهف : 110) قال تعالى {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا}(البقرة : 245) أي عمل صالح تجاه أي مخلوق، كائنا من كان، هو قرض لله عز وجل، والقرض لله عز وجل ثمنه المكافأة، المكافأة بسكينة، بسعادة، بحكمة، باستقرار، بتوفيق، بتأييد، بحياة طيبة… حقيقة التدين ليست في بيوت الله، تذهب إلى بيت الله كي تتلقى تعليمات الخالق في خطبة جمعة، أو في درس علم، وتذهب ثانية لبيت الله كي تقبض الثمن اتصالا بالله، ولكن حقيقة الدين في بيتك، وفي عملك، وفي تجارتك، وفي كسب مالك، وفي إنفاق مالك، فإذا كان العمل صالحا، وكنت في خدمة خلق الله، ولم تكذبهم، ولم تظلمهم. قال عليه السلام “من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته” إذن {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا}(الكهف : 110) ثمن الاتصال الحقيقي المسعد بالله، أن يكون عملك صالحا مع خلقه، لأن “الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله”… إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى…
لخبير الجمال الدعوي الدكتور محمد راتب النابلسي