لماذا عطلة الصيف ؟
يقبل فصل الصيف فتقفل مؤسسات التعليم ومدارس التكوين أبوابها، وتتوقف كثير من المرافق عن العمل، ويتناوب الموظفون على عُطلهم، لقد حلت الإجازة، حيث يتهيأ الناس لها، فيستعد كل على شاكلته وطريقته، وحسب رغبته وهواه، وإمكاناته المادية، فتخصص لذلك ميزانيات، وتخطط برامج وتحدد أهداف، حتى أضحت العطل حقاً من حقوق الإنسان تُحفظ وتُصان ولا يُتساهل فيها، ولا يمكن تجاهلها ولا الاستغناء عنها أبداً، حيث فَرضت نفسها وأصبحت ضمن البرامج السنوية العامة، وهذا أمر أجمع عليه عقلاء العالم، وتلقته التشريعات بالقبول.
إن حاجة الإنسان إلى الراحة بعد التعب، وإلى الهدوء بعد الحركة، لمن الأمور المسَلمة التي لا يُنكرها لبيب، والإسلام بمنهجه الميسِّر المُراعي للطبائع البشرية، لا يفرض على المسلم أن يكون كل كلامه ذِكراً، أو كل أوقاته شعائر تعبدية، بل جعل للنفس حظها من الراحة والمُتعة منضبطَة بضابط الشرع، ولقد شكا الصحابي حنظلة بن عامر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلُّلَ بعض أوقاته بشيء من ملاعبة الأولاد والنساء والانشغال بالدنيا، فرخَّصَ له الرسول صلى الله عليه وسلم في اللهو والاستمتاع المباح قائلاً له >ولكن يا حنظلة ساعة وساعة<.. ثلاث مرات، أو كما قال عليه السلام.
وإن الذين وضعوا العطل الأسبوعية والفصْلِية والسنوية نظروا إلى أثرها الإيجابي في تجديد نشاط الإنسان واستعادة الحيوية إلى الذهن والبدن، ليتجدد عطاؤه؛ فيرجع إلى العمل بجد وعزم ونشاط، وهذا لا مرية فيه، بيد أن الشيء إذا تجاوز حدَّه، ولم يُمارَس في وضعه الصحيح انقلبت إيجابياته إلى سلبيات، فالعطل والإجازات إذا طالت واتسع أمدها خلَّفت سلبيات كثيرة، وأضراراً جمة، نتيجة الفراغ الذي قد لا يُستغل استغلالاً حسناً، وذلك حينما تُهمل الواجبات، وتُضيَّع الحقوق، ويشتغل المرء بالمفضول ويدع الفاضل، أو يعمد إلى ما لا يجديه نفعا، فيظلم نفسه، ويبخسها حقها من حيث لا يدري.
والإسلام يَعتبِر الوقت أغلى وأنفس ما في الوجود، يسعد بحُسن استغلاله السعداء، ويشقى بسوء تدبيره الأشقياء، وعطلة الصيف هي وقت ثمين وفرصة مهمة وزمن نفيس يستغله الناس للاستجمام والترويح عن النفس والتخفيف عن الجسد من تعب الحياة ونكد المعاش ومشقة العمل طوال شهور العام.
وإن ديننا الحنيف بيَّن لنا أن المؤمن لا ينبغي له أن يقعد عاطلاً، لا هو في شغل الدنيا، ولا هو في شغل الآخرة؛ لأنه لم يُخلق لذلك، وإنما خُلق للعمل والجِد والعطاء، قال الله عز وجل يؤكد ذلك : {لقد خلقنا الانسان في كبد}(البلد)، وقال : {يا أّيها الانسان إنك كادحِ الّى ربك كدحا فملاقيه..)(الانشقاق)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : >أشد الناس عذاباً يومالقيامة المكفيُّ الفارغ<، أي الفارغ من أي عمل، العالة على الناس؛ لأن الإنسان سيُطلَب منه يوم القيامة كشف الحساب، وإظهار نتائج الأعمال بمجرد الوقوف بين يدي الله تعالى، وسيُسأل عن عمره فيما قضاه، وسينبأ بعمله وسيحاسب عليه.
كيف تغتنم فراغك :
إن الأصل في حياة المسلم أنه لا يوجد فيها وقت فراغ وعطلة أبداً، ذلك أن الوقت والعمر في حياة المسلم مِلك لله سبحانه، والإسلام يجعل الوقت أمانة عند المسلم، يؤجر إن استغلَّه في فعل الخير، ويأثم إن فرَّط فيه، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يدعونا دعوة صريحة إلى أن نستفيد من أوقات فراغنا ونستغلها استغلالاً حسناً حيث قال : >اغتنم خمساً قبل خمس حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك<.
ففي هذا التوجيه النبوي الرشيد دعوة لجعل الفراغ موسماً للاستثمار والمتاجرة مع الله عز وجل، إنه توجيهلملء ساعات الفراغ قبل أن تمضي بلا رجعة، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً في اغتنام الوقت، حيث تقول عنه زوجه عائشة رضي الله عنها “ولا رُئي قط فارغاً في بيته”، كيف لا وهو الذي قال له ربه : {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب}(الشرح).
وهو خطاب لكل مسلم من بعده كي لا يمكث في فراغ أبداً، فإذا فرغ من أعمال الدنيا انتصب للعبادة ورَغِبَ فيما عند ربه من العطاء الذي لا ينفد، وإذا فرغ من واجباته الدينية، فلينشغل بعمل دنياه، وإذا انتهى من حاجة بدنه، فليأخذ غِذاءً لقلبه ومتعة لروحه، وإذا أتمَّ شأن نفسه، فليقبل على شأن أسرته، ثم على أمر مجتمعه وأمته.
وهكذا يدرك المسلم أنه لا فراغ في حياته أبداً، فتصبح كل لحظة من لحظاته عبادة وقربة إلى الله سبحانه، الذي يحثنا أن لا نموت إلا مسلمين، قال عز من قائل : {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }، فوجب أن نسلم في كل لحظة ما دمنا نجهل متى يأتي اليقين.
إذا كانت إجازتك سفرا
اعلم رعاك الله أن الوقت مُنقض بذاته مُنصرم بنفسه، ومن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظم فواته واشتدت حسراته، والأوقات سريعة الزوال، فما على المرء إلا أن يعرف قيمة زمانه، وقدر وقته فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، إذ العمر أيام، كلما أزف يوم انخرمت منك شظية، حتى إذا توالت الأيام وتكاثرت الشظايا، أشرفت سفينة المسلم على الرسو، فإما ناج مسرور، أو عاثر مقهور، فحري بك أيها السالك إلى ملاقاة مولاك، أن تتنبه إذا داهمتك ظروف الغفلة واستوحشتك غياهب الضلال، حتى لا يفاجئك الهادم ولما تحزم الحقائب بعد، فارتأيت أن أذكر نفسي وإياك بهذه الخواطر حتى نغنم من إجازتنا، فتكون عونا لنا على سفر الآخرة، لا وبالا علينا يوم تتطاير الصحف، فهلا ألقيت سمعك مصغيا، وقلبك واعيا أيها الحبيب :
> الخاطرة الأولى :
خير الأسفار ما كان في مرضاة الواحد الأحد، سيرا على نهج الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانت أسفاره بعد البعثة دائرة بين سفره للهجرة وسفره للجهاد، وهو أكثرها، وسفره للحج والعمرة، ففي السفر يرى المرء من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده إيماناً بقدرة العزيز الغفار، وما يدعوه إلى شكر نعمة مولاه؛ وفيه انفراج الهم وزوال الغم وأخذ العبرة من الأمم الغابرة، والقرون السالفة، وفيه حصول العلم والآداب وصحبة الأمجاد، فضلا عن راحة الفكر وتجدد الهواء؛ إذ الطبع يمج طول المكوث، فتتوق النفس إلى تلمس أماكن من شأنها تكسير رتابة الحياة.
> الخاطرة الثانية :
الزم حسن الصحبة في سفرك، وتحلّ بالمروءة ومكارم الأخلاق، وتحر الرفقة الصالحة، وتجنب أصحاب السوء ودعاة اللهو والمجون، فإنهم لن ينفعوك ألبتة، واحذرهم على نفسك حذرك من النار المحرقة، فالإنسان ملزم بسبر أغوار من يصاحب حتى لا يورده المهالك، حينئذ لا ينفع نفسا ندمها، فتنادي بصوت متقطع من الحسرة والألم : {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبيس القرين}؛ ورب صاحب يزين الشوك فيحسبه الغر وردا قارب التفتح، وكم سلعة بائرة يميط عنها الإشهار غبار الكساد، فتغدو وقد وجدت لنفسها في السوق موطء قدم، يتهافت على اقتنائها علية القوم، ويتحسر على فواتها المغبون، فالحذر الحذر إن الأمر جد، والمرء يبعث على دين خليله.
> الخاطرة الثالثة :
لقد أسبغ الله عليك نعمة المال والعافية، وغيرك محروم، فلا يكن سفرك إلا لأمر مشروع أو مباح، واحذر سفر المعصية فصاحبه ينتقل فيه من الأنس إلى الوحشة، ومن سرور الأسفار إلى هم مطاردة الأفكار، يقول محمد ابن الفضل رحمه الله: (ما خطوت خطوة منذ أربعين سنة لغير وجه الله عز وجل). واشكر نعمة الله عليك بعدم التطلع إلى المعاصي، وإياك والبذخ في الإنفاق والتباهي بمالك عند فقراء المسلمين، فالمال دُول، وهو عندك وديعة أنت فيها مستخلف، فلا تفاخر بما لا تملك منه من قطمير، ألم يدع فرعون ملك مصر بنهر ما أجراه، فكان مصيره الغرق، واعتد قارون بعلمه فخسف به، وما أسف عليه التاريخ، لقد هوى من حيث أراد الصعود، واختفى عن الأعين لما كان همه التباهي أمام أنظار العالمين.
> الخاطرة الرابعة :
تذكر وأنت مسافر للترويح عن النفس مشقة سفر العلماء لتدوين العلم، وحفظ الدين وهداية الأمة، فلقد سطروا من الأخبار أعجبها، ومن الأحداث أحلكها متعرضين للفقر والجوع والمخاطر رغبة في الثواب ونشر الحق، حيث رحل الإمام إسحاق بن منصور المروزي رحمه الله من نيسابور إلى بغداد سيراً على قدميه حاملاً كتبه على ظهره، يسأل عن مسائل فقهية، وانبرى حجة الإسلام أبو حامد الغزالي يقصد الفيافي ليطلب العلم ولما يبلغ أشده بعد.
إنها همة العلماء وقوة العزيمة ومصارعة الأخطار لخدمة الدين، فحاول النهل من معين هؤلاء الفطاحل، ولتترفع نفسك الأبية عن سفائف من شأنها جذب الهمة إلى أكلة قد يستعاض عنها بغيرها، أو نزوة قد تورث شبهة، وتذكر -وأنت ترحل بأسرتك للترويح عن نفسك فرحاً مسروراً- إخوة لك أُخرجوا من ديارهم قهراً، وشتت أُسرهم بين الأمصار جبراً، وودعوا أوطانهم قسرا، فلم يجدوا مأوى ولا ملاذاً؛ وتذكر آخرين يبيتون في العراء مشتتين، يفترشون الثرى ويتخذون السماء غطاء، وثلة يعانون الويلات من ذل القهر وأسر العبودية ومرارة الاغتراب، وتذكر وأنت في سفرك حفظ العلماء لأوقاتهم؛ يقول الحسن البصري رحمه الله: (لقد أدركت أقواماً كانوا أشد حرصاً على أوقاتهم من حرص أحدكم على دراهمه ودنانيره).
> الخاطرة الخامسة :
قلم التكليف جارٍ على المرء في ظعنه وإقامته، فكن داعية خير في سفرك، ولا تزدر نفسك في الدعوة إلى الله، فبركة الرجل تعليمه الدين حيثما حل ونصحه أينما نزل، وخشيته ربه حيثما ارتحل، واعلم أن الإسلام قد ولج أدغال إفريقيا، وارتقى أسوار الصين بفضل الله ثم بسبب تجار المسلمين، لقد دخل الناس في الدين أفواجا تأثرا منهم بأخلاق أولئك السفراء، وإدراكا منهم للفرق بين الصادقين وأرباب الخرافات، فلا تفوتنك سيرتهم، وانح نحوهم لو قدر لك السياحة في أرض الله الواسعة، ولتعلم أنه لا يكتمل النعيم إلا براحة الروح مع الجسد، وقراءة القرآن وذكر الله يضفي على السفر راحة وطمأنينة، فيجتمع لك النعيمان، وتغنم خير الدنيا والآخرة.
> الخاطرة السادسة :
تعتقد كثير من الأسر أن العطلة هي فسحة للابتعاد عن الدراسة والثقافة والعلم، وأنها فرصة لتخلي الشاب أو الفتاة عن أي شيء له علاقة بالعمل والجد والمثابرة.
إذ يلاحظ على أبنائنا هجرانهم للقراءة بمجرد انتهاء الامتحانات، وسبب هذا يعود إلى أن الطالب لم يدرك أهمية القراءة ودورها في بناء شخصيته وتنمية ثقافته، فهو منذ نعومة أظفاره قد تعود على حفظ دروسه فقط، وما دار في خلده أن هناك قراءة خارج أسوار المؤسسة التعليمية، إذ لم يتعود أن يشتري كتابا أو يهدى له، أو يرى والديه وأهل بيته وفي أيديهم كتاب يقرؤونه أو مجلة علمية يطالعونها.
اعلم أيها الأخ أن المدرسة ليست المصدر الوحيد للعلم، وليست فصولها الأوقات الوحيدة لمتابعة الدروس، بل يوجد الكثير من المشاريع العلمية التي يصعب إجراؤها في أوقات الدراسة، بسبب الانشغال بالتحصيل العلمي الإلزامي،
إن القراءة رسالتنا نحن العرب والمسلمين، ومع ذلك فإننا أبعد الناس عنها.
لابد إذن من تغيير تربوي شامل في هذا المجال، تشترك فيه الأسر والهيآت والجمعيات ودور النشر والكتاب لتغيير الثقافة المتوارثة بكون القراءة فقط هي القراءة المدرسية.
إن قراءة خمسة أحاديث كل يوم تعني أننا نقرأ في الشهر مائة وخمسين حديثا، ومطالعة نصف ساعة في اليوم، تفضي إلى قراءة خمسةعشر ساعة أسبوعيا ومائة وثمانين ساعة سنويا، وإذا علمت أن الكتاب المتوسط حجمه يحتاج إلى عشر ساعات لإنهائه؛ فإنك ستقرأ في العام الواحد ثمانية عشر كتابا؛ هكذا يتعود المسلم المطالعة الحرة التي تنمي مداركه، وتصقل مواهبه، وتحفظ لسانه من الزلل، وتملأ أوقاته بما يجدي.
أيها الحبيب :
لقد جاءت الشريعة بالحفاظ على دين المرء ودرء الفتن والشبهات والشهوات عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه : >ومن استشرف إليها -أي الفتن- أخذته<.
وقد افتتن بعض الناس بالسفر إلى أوربا معرّضين دينهم وأرواحهم للهفوات والمخاطر ومصائد المحتالين، حيث هناك التهافت على المادة وانحطاط الأخلاق والسلوك، والبعد عن القيم والمروءات، فكم عاد منها من مسحور اللب مسلوب الجنان، مستلب الفكر، وكم آب منها من مفتون ومبتلى، وكم ذرفت فيها الدموع أسفاً وندامة، فلتحذر أخي المسافر من حب المشركين وموالاتهم، ولا تغتر بما هم فيه من زخرف خادع أو دنيا قائمة، فإن الله يستدرج الكافر حتى إذا أخذه لم يفلته.
ذ. العلمي الخمري
——
(ü) هذا المقال مستفاذ من مطوية :
“الإجازة الصيفية والسفر” للدكتور عبد المحسن بن محمد القاسم