الحمد لله الذي من على عباده بنعمة الأعضاء والجوارح وأرشد إلى إعمالها في طاعته فقال عز من قائل: {أَلَمْ نَجْعَل لهُ عَيْنَيْنِ، وَلِساناً وَشَفتيْنِ، وهديناه النَّجديْن}(البلد : 8- 10)، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على معلم الناس الخير، الذي وجهناإلى نوع الصيام المطلوب؛ وهوالجمع بين صيام الظاهر والباطن وصيام الجوارح، قال صلى الله عليه وسلم : ((من لم يدَعْ قولَ الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))(أخرجه البخاري).
فمما لا شك فيه أن من أعظم نعم الله تعالى على العباد بعد نعمة الهداية للإسلام أن جعلهم بشرا أسوياء ومنحهم -بفضله وكرمه- آذانا تسمع، وأعينا تبصر، وألسنة تنطق وتتكلم، ولا تكتمل بشرية العبد إلا إذا حافظ على جوارحه وسخرها في طاعة الله تعالى وجنبها المعاصي الظاهرة والباطنة.
وإن من الأخطاء التي قد يقع فيها بعض المسلمين عدم الاكتراث لزلات الجوارح في أيام رمضان ولياليه، فتراهم يطلقون العنان لآذانهم وأعينهم وألسنتهم، فيستمعون إلى ما لا يجوز لهم وينظرون إلى المحرمات ويقعون في آفات اللسان الكثيرة، وكل ذلك نهى الشرع عنه لضرره على العباد في العاجل والآجل، ومن ذلك عدم تمام أجر الصيام والحرمان من الثواب العظيم، والأوْلى بالمسلم أن يكون أشد حرصا على حفظ جوارحه آناء الليل وأطراف النهار في رمضان، ويستعملها في اغتنام الأوقات في الطاعات ليحصِّل بركة هذا الشهر الكريم والأجرَ المضاعف فيه، فيجتهد فيه بأنواع العبادات والقربات ليتخلق بصفة التقوى ويحقق بذلك أهم مقاصد الصيام،(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}(البقرة : 181).
لقد وهب الله تعالى الجوارح للإنسان واسترعاه إياها، وجعلها مهيأة لفعل الطاعات وابتلاها بشهوة منالشهوات اختبارا وامتحانا {إنا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا}(الإنسان : 2)، ولا نجاح للعبد في هذا الابتلاء إلا بامتثاله توجيه الشارع الحكيم بحفظ جوارحه وبإعمالها في الطاعات وتجنيبها المعاصي.
إنه لابد من مجاهدة النفس لضبط جوارحنا وحفظها في رمضان وسائر الأيام، مستحضرين جوامع كلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم في التربية النبوية التي بينت أن من أصول صلاح الجوارح صلاحُ القلب وكفُّ أذى اللسان، فالمرء بأصغريْه قلبه ولسانه كما قال الشاعر:
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُه
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
قال بعض السلف: أهونُ الصيام تركُ الطعام والشراب، وقال جابرٌ: إذا صُمتَ فليصم سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقارٌ وسكينةٌ، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء، وقال الشاعر في هذا المعنى:
إذا لم يكنْ في السمع مني تصاوُنٌ
وفي بصري غَضٌّ، وفي منطقي صمتُ
فحظّي إذًا من صومي الجوعُ والظمأ
فإن قلتُ: إني صمتُ يومي فما صمتُ
حـفـظ الأذن
إن مما يحز في النفس أن ترى كثيرا من المسلمين في رمضان يعكفون على أصناف كثيرة من اللغو والاستماع إلى لهو الحديث، وإن من منع نفسه الطعام والشراب والشهوة ثم أطلق لأذنه العنان في ارتكاب المعاصي والذنوب فأصغى بها إلى البدعة أو الغيبة أو الفحش أو الخوض في الباطل أو ذكر مساوئ الناس، فإنه لم يحقق التقوى التي من أجلها شرع الصيام، ولا تظنن أن الإثم يختص به القائل دون المستمع ففي الخبر أن المستمع شريك القائل وهوأحد المغتابين.
وإنما خلقت لك الأذن لتستمع بها إلى كلام الله تعالى وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمة العلماء، وتستفيد بها العلم الشرعي الذي يوصلك إلى النعيم الدائم في جنة المأوى، ويكون كل ذلك عونا لك على التقوى وتزداد بصيامك – بإذن الله – استقامةوصلاحاً وتزكية، ولكنك إذا أصغيت بها إلى شيء من المحرمات انقلب ما كان وسيلة للفوز طريقا للهلاك، بسبب استعمال النعمة في المعاصي كفرانا لها، وعدم استعمالها في الطاعة شكرا لواهبها.
وقد ورد في الكتاب ما يحذر من خطورة وعواقب سماع اللغو والباطل ولهو الحديث وأن ذلك من إضلال الشيطان لابن آدم، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(لقمان : 5)، وقوله الله تعالى : {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}(الإسراء : 64).
قال ابن عباس ] عن صوت إبليس :”هو الغناء والمزامير واللهو الباطل” وكذا قال الضحاك ومجاهد.
ولقد أمر الله عباده المؤمنين بدلا من ذلك بالانصات للقرآن الكريم وبالاستماع للقول الحسن لأجل الاتباع والامتثال فقال عز من قائل: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}(الأعراف : 204)، {فبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}(الزمر : 16- 17).
حـفـظ الـعـيـن
أما العين فإنما خلقت لك لتهتدي بها وتستعين بها في حاجاتك، وتنظر بها إلى عجائب ملكوت الأرض والسماوات، وتعتبر بما فيها من الآيات فاحفظها من أن تنظر بها إلى محرم أو إلى صورة بشهوة نفس أو تنظر بها إلى غيرك بعين الاحتقار أو تطلع بها على عيب مسلم.
فالعين مرآة القلب وإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق العبد بصره أطلق القلب شهوته وإرادته ونقش فيه صور تلك المبصَرات فيشغله الفكر فيها عما ينفعه في الدار الآخرة.
والبصر نعمة عظيمة وأداة خير إذا استعمل فيما شرع له النظر كالتفكر في ملكوت الله وآياته في الخلق، كما في قوله تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والارض}(يونس : 101)، وقد يكون البصر أداة شر على صاحبه إذا استعمله فيما لا يرضي الله، وذلك بالنظر إلى المحرمات وتتبع العورات والتطلع إلى فضول زينة الحياة الدنيا والنظر إليها بإعجاب، قال تعالى: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا}(الحجر : 88)، كما أمر الله المؤمنين بغض أبصارهم كما في قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمومنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن}(النور : 30 – 31).
إن النظر إلى المحرمات من أعظم الفتن التي قد يعاني منها المؤمن على وجه العموم والشاب على وجه الخصوص والشاب غير المتزوج على وجه أخص حيث يواجه هذه المشكلة حيثما توجه؛ في الشارع والسوق والعمل وعلى الشاشة والشبكة العنكبوتية…الخ، وإطلاق البصر سبب لأعظم الفتن، فقد ينخرم به صوم الصائم، وقد يفسد بسببه الناسكالعابد، وقد يؤدي بأناس إلى السقوط في مستنقع الفاحشة والعياذ بالله.
ذلك أن النظر أصل كثير من الحوادث التي تصيب الإنسان، فالنظرة تولد الخاطرة، و الخاطرة عند التركيز عليها في الذهن تولد الفكرة، والفكرة تولد شهوة، والشهوة تولد إرادة الفعل، ثم تقْوى هذه الإرادة فتصير عزيمة جازمة فيقع الفعل ولابد ما لم يمنع مانع، ولهذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده، وصدق الشاعر إذ قال:
كل الحوادث مبداها من النظر
ومعظم النار من مستصغر الشرر
حـفـظ اللـسـان
إن المؤمن -كما تقدم- مأمور بحفظ جميع جوارحه ولكن نصوصا شرعية كثيرة جاءت مؤكدة على حفظ هذا العضو الصغير لأن خطره شديد وأذاه كبير؛ {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ الَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(ق :18)، وقال صلى الله عليه وسلم : ((وإن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب))(رواه البخاري ومسلم).
فالمرء قد يتكلم بكلمة ما يتبين فيها ولا يدري ما ضررها ولا عواقبها قد تورده المهالك وتوقعه في سخط الله تعالى، فكيف بمن يتكلم بالكلام الباطل ويقترف لغو الحديث عامداً متعمداً وخصوصا في شهر رمضان؟
ولقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن حصائد الألسنة هي من أهم الأسباب التي تكب الناس في النار على وجوههم، كما ورد في حديث معاذ ابن جبل ] الوارد في سنن الترمذي.
لذلك فحري بالمسلم في رمضان ألا يطلق العنان للسانه ويكفه عن الكذب وقول الزور والفسق والنميمة والغيبة والسب واللعن وخلف الوعد والحلف والأيمان الكاذبة والمزاح والسخرية والاستهزاء بالناس، والمراء والجدال ومدح النفس وعن كل إثم قد يقترفه المرء بلسانه، فالكلام – كما نص على ذلك العلماء – إما لك أو عليك، أو لا تدري أهو لك أم عليك، وفي هذه الحالة تُفضَّل السلامة إذ لا يعدلها شيء، والسلامة لا تكون إلا بالسكوت، ولا ريب أن القول السديد – حين يتعين – أفضلُ من السكوت؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}(الأحزاب : 70- 71)، و{لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نوتيه أجراً عظيماً}(النساء : 113).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ] مرفوعًا: “الصيامُ جُنَّةٌ، فإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يَرْفُثُ ولا يفسق، ولا يجهل، فإن سابَّه أحدٌ فليقل: إني امرؤٌ صائمٌ”.
الجُنَّةُ: ما يستر صاحبه ويحفظه من الوقوع في المعاصي، والرَّفثُ: الفُحْشُ، ورديءُ الكلامِ.
ألا وإن اللسان وسيلة عظيمة إلى أبواب الخير الكثيرة في رمضان فبه يذكر العبد ربه وبه يتلو القرآن العظيم كتاب رب العالمين، وبه يرشد الخلق إلى طريق الحق وكفى به شرفا أن يكون الوسيلة المثلى إلى تحقيق مقاصد النبوة ووظائفها؛ وهي تلاوة القرآن وتوجيه الناس تربية وتزكية وتعليم القرآن والسنة، وفي هذا يقول الله جل جلاله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الامِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(الجمعة : 2)، ” فطوبى لمن شغل لسانه بوظائف النبوة العظمى، واقتفى أثر الرسول في دعوته خاصة في هذا الشهر المبارك.
سبل حفظ الجوارح : السمع والبصر واللسان
ولكي نحفظ جوارحنا الحفظ المطلوب في شهر رمضان المعظم من الآفات المهلكة ونحصل تقوى الله تعالى فينبغي العناية بالأمور التالية:
> الحرص كل الحرص على كل ما يصلح القلب فهو ملك الجوارح كلها وقائد الأعضاء وسائسها، فإن صلح القلب صلحت الجوارح وإن فسد فسدت، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم : ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).
> مجاهدة النفس الأمارة بالسوء بمنعها من الوقوع في معاصي الجوارح في رمضان مثلما نلزمها تماما بالكف عن الأكل والشرب أثناء الصيام.
> شغل النفس والجوارح بسبل الخير في شهر رمضان وغيره، وحفظ الأوقات بإعمارها بما يفيد العبد في دينه ودنياه.
> الامتثال لما ورد في الكتاب العزيز والسنةالمطهرة من أوامر ونواهي وتوجيهات وتشريعات تخص حفظ السمع والبصر واللسان، وكذا بإدراك مقاصد الصيام وتقدير حرمة شهر رمضان، فذاك ولا شك علاج ناجع يحفظ به المؤمن به ظاهره وباطنه عما لايرضي الله تعالى.
> مصاحبة الأخيار ومجالسة رفقاء الخير والصلاح الذين يذكرونك بالله تعالى، فإن أحسنت أعانوك وإن أسأت نصحوك.
> أن نعلم يقينا أننا مسؤولون يوم القيامة عما نفعله بجوارحنا {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً}.
> اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء والاستغفار بقلب حاضر ليوفقنا لحفظ أسماعنا وأبصرانا وألسنتنا وتسخيرجوارحنا فيما يرضيه من قول أوعمل.
خـاتـمـة
وأخيرا وليس آخرا اعلم أن جوارحك إنما هي محض نعمة من الله عليك وهي فوق ذلك أمانة بين يديك ستسأل عنها وتحاسب، وأعضاؤك وجوارحك رعاياك فانظر كيف ترعاها ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))، فلا تستعن بنعمة الله على معصيته فتلك خيانة للأمانة وكفران للنعمة، واعلم أن جميع أعضائك ستشهد عليك يوم القيامة بلسان طلق قال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}(النور : 24)، فاحفظ جميع بدنك وكل جوارحك من المعاصي حتى تكون من الفائزين ولا تدخل فيمن ورد فيهم قول الله تعالى: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون}(الأحقاف : 25).
اللهم وفقنا للصواب، واهدنا للتي هي أقوم في الأقوال والأعمال والأحوال.
د. مصطفى هاشمي