الـفـراغ : دلالات وأحـكـام وآفـات


 مقدمة

لقد أعطى الله سبحانه للإنسان عمرا محددا لا يعلمه إلا هو سبحانه، وسوف يسأله عن كل لحظة من هذا العمر بل  إنه سوف يسأله مرتين يوم القيامة عن هذا العمر، كما ورد في صحاح السنن،إن العبد لا ينصرف من موقف يوم القيامة حتى يسأله الله عن أربع: منها العمر جملة ثم مرحلة الشباب بوجه خاص.

ونظرا لأهمية الوقت في حياة المسلم، فإنه لابد وأن يستثمر وقت فراغه فيما ينفع ويفيد ويحقق التقدم لأمته، وليحذر أن يجني به خسارة ومفسدة له ولأمته، فالفراغ وخاصة للشباب المسلم ذو حدين وقت بناء اذا استغل فيما ينفع، ووقت هدم اذا قتل أو أهدر فيما لا يفيد، ولقد صدق أبو العتاهية في أرجوزته إذ يقول:

إن الشباب والفراغ والجدة         مفسدة للمرء أي مفسدة

مفهوم الفراغ

- أما من حيث اللغة.  فيعني الخلو من الشيء، يقال فرغت من الشغل، وفرغت المكان، أو الظرف اذا أخليتهما، ومنه قوله تعالى: {وأصبح فؤاد أم موسى فارغا}(القصص : 10) أي خاليا وصفرا من العقل والصبر لما دهمها من فرط الجزع والدهش على فراق ابنها \. (الكشاف للزمخشري ).

- أما من حيث الدلالة الشرعية. فالمراد بالفراغ: الوقت الخالي أو المفرغ من أداء العبادة والعمل لأداء حقوق النفس أو الترويح عنها.

تصور الإسلام لوقت الفراغ

ومن خلال الدلالة الشرعية لوقت الفراغ فالفراغ في نظر الإسلام يمكن أن يتنوع إلى نوعين:

> النوع الأول: فراغ ضروري وحاجي يتفرغ  به المسلم من مسؤولية خاصة إلى عبادة، إلى إشباع رغباته الفطرية المباحة، إلى الترويح عن نفسه وجسده لتجديد الطاقة على أداء الواجبات.

وهذا الفراغ في نظر الشرع تيسير على المسلم وتنظيم لوقته وجهده، ونعمة عليه تستوجب الشكر، ولذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، أن ينصب ويجتهد في عبادته والتقرب إليه، كلما فرغ من مهمة التبليغ والدعوة، لقوله سبحانه وتعالى: {فإذا فرغت فانصب}(الشرح : 7). أي إذا خلوت من أداء الرسالة وتبليغ الناس بها، فاتعب في الدعاء والعبادة، كما حث النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين على اغتنام فراغهم فيما ينفعهم دينا ودنيا، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: >اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”. رواه الحاكم وقال: “صحيح على شرطهما، وقال شارح الجامع< إسناده حسن.

كما حذر عليه الصلاة والسلام من تضييع الفراغ، أو الاستهانة به، كما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: >نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ<(1).

وهذا النوع من الفراغ لا يحقق المسلم التوازن في أداء ما عليه من الحقوق والواجبات،إلا بواسطته واستغلاله حق الاستغلال، وهذا ما جعل الشرع يعتبره واجبا على المسلم إتاحته لنفسه، ففي الصحيح عن سلمان: >إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ولزوجك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه<(2) فالفراغ الذي يؤدي فيه حق نفسه من رغباتها المباحة من مأكل ومشرب وملبس وتجميل ونوم إلى غير ذلك من ضروريات النفوس والأجساد المباحة والمشروعة، وهذا الفراغ واجب من الواجبات الشرعية، ومما لا تتم الضروريات إلا به.

> النوع الثاني: الفراغ المخصص لإراحة النفس، وهو فراغ مشروع ومحمود ومنظم في الشريعة الإسلامية، من جانبين :

من جانب التوجيه إلى ما يضمن جلب المصلحة من استثماره، ومن جانب ما يضمن التنبيه إلى دفع المفاسد والآفات إذا أسيء استعماله.

<  الزاوية الأولى: توجيهات في الحث على ترويح النفوس بما هو مشروع ومفيد، تقوية لها على العمل وتهذيبا لها من الخمول والكسل وضياع الوقت في البطالة .

< فمن هذه الزاوية ركز الإسلام على بناء الفراغ الترويحي على أسس ثلاثة: المشروعية، الأهمية والإفادة، الانضباطية.

أ- من حيث المشروعية:

أما مشروعية الفراغ الترويحي في نظر الإسلام فتكون في مجال الاهتمام بحقوق النفس على أساس أنها مطية تحقيق العبودية لله سبحانه، بقوتها وسلامتها يقوى العبد على طاعة ربه وبناء آخرته بدنياه.

وفي هذا المجال اهتم الإسلام بترويح النفوس وتنشيطها سواء، من حيث الترويح على النفس بإدخال السرور عليها وإزالة الهموم، أو من حيث تنشيط وتقوية الأجساد بتنشيطها لأخذ القوة وإراحتها من تعب العمل الواجب وكسر الملل.

أما في إدخال السرور على النفوس وإراحتها من التعب والهموم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، وهو القدوة الحسنة، يمازح ويداعب أهله والمؤمنين ولا يفعل ولا يقول إلا حقا، ويستوي في النيل من ترويح النبي صلى الله عليه وسلم الصغير والكبير والرجل والمرأة ، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقر مزاح الصحابة بعضهم لبعض، ترويحا على النفوس، فعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، قالت: فسابقته، فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: >هذه بتلك<(3).

كما حث النبي صلى الله عليه وسلم على إدخال السرور على المسلم فقد روى الطبراني في الأوسط والكبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: >إن أحب الأعمال إلى الله تعالى الفرائض وإدخال السرور على المسلم<.

أما في تنشيط الأجساد وتقوية طاقاتها، فقد حبذ الإسلام وشجع على أنواع من الرياضات والألعاب: كالفروسية، والعدو، والرمي، والسباحة، والمصارعة، لأنها كلها تخدم الدين والدنيا.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يسابق بين الخيل في المدينة وفي انصرافه من مغازيه. (جامع الأصول)

ب- من حيث الفائدة والأهمية :

وحين شرع الإسلام هذا الفراغ الترويحي ووجه إلى الأعمال المفيدة للنفس والجسد، فَلِمَا لهذا الفراغ الترويحي من الأهمية والإفادة، لعلها تبرز في الجوانب الآتية:

* تحقيق التوازن بين مطالب الروح والعقل والبدن

* اكتساب الفرد خبرات ومهارات وأنماط معرفية

* تنمية الإرادة والانضباط عند تلبية رغبات الذات

* حماية الفرد من الخواطر السلبية، أو من التفكير في الوقوع في الجريمة والانحراف

من ضوابط استغلال الفراغ الترويحي:

ولابد ليتحقق المسلم بفوائد الترويح السالفة الذكر، أن ينضبط لضوابط جعلها الشارع الحكيم موجهات لتحقيق الفوائد السابقة ومنها :

- أولا: أن يعتقد أن الأصل في الترويح على النفس الإباحة بكل ما هو مشروع، وما لا يتنافى مع الأخلاق الإسلامية.

- ثانيا: الترويح وسيلة لتحقيق التوازن النفسي والجسدي وتجديد حيويتها ونشاطها، لا غاية في ذاته.

- ثالثا: الجد هو الأصل، ففي التصورالإسلامي يأتي الترويح على النفس بعد الجد في العمل وأداء الواجبات لإعطاء النفس حقها في الراحة وتجديد النشاط والحيوية.

- رابعا: أن لا تكون في شغل الفراغ الترويحي مخالفة شرعية وهذا الضابط أهم  وأصل الضوابط الأخرى، فلا يجوز أن يكون الترويح على حساب هضم حق من حقوق أخرى ذاتية أو من حقوق الغير، أو مس حدود الشرع ومقتضياته.

- خامسا: أن لا يكون الترويح وسيلة لشغل المسلم على واجب من الواجبات الشرعية سواء تعلق الأمر بالواجبات فيما بين المسلم وربه، أو فيما بين المسلم وأهله وجيرانه وإخوانه، أو فيما بينه وبين محيطه.

الزاوية الثانية : التنبيه على  آفات الفراغ الترويحي

قد ينظر الناس إلى الفراغ الترويحي نظرا خاطئا مما يؤدي إلى ملئه  بما لا فائدة فيه أو بالممنوعات، أو إهماله وقضاءه في ما لا يفيد أو يضر، أو قد يشغلون فراغهم بعشوائية ودون انضباط لضوابط الشرع وفي كل الحالتين يجنون من وراء ذلك آفات تعود عليهم بالخسران وتترك فيهم آثارا فردية واجتماعية سلبية.

ولذلك يتعرض الناس في أوقات فراغهم الترويحي لآفات متعددة تشكل خطورة على حالهم ومستقبلهم، كلما ابتعدوا عن مراقبة الشرع، أو زاغوا عن ضوابطه. منها:

1- عدم فهم الفراغ الترويحي من حيث وظيفته ومقصده في الشرع، وهذه أول الآفات التي تجعل الفراغ الترويحي يكون على صاحبه نقمة مُبيدَة لا نعمة مفيدة.

2- من أخطر هذه الآفات عدم الالتزام والتجرد من القيم الإسلامية في استغلال الفراغ الترويحي وذلك من شان الحضارات المادية التي تعلي الجانب المادي على الجانب الروحي ويعتبر الفراغ الترويحي وقتا لا نتاج فيه وإنما هو مجرد وقت يجب أن يقتل دون التزام أو انضباط.

3- من هذه الآفات النظرة إلى الفراغ الترويحي النظرة الليبرالية التي نرى انه ملك خاص للإنسان له الحرية في استغلاله أو هدره لا مسؤولية له فيه أو عليه، عكس النظرة الإسلامية التي تعتبر وقت الفراغ تحكمه المقاصد الشرعية.

4- ومن هذه الآفات عدم التنظيم والتخطيط لوقت الفراغ مما يجعل المسلم متخبطا في شغله وقد يضطر إلى أن يهدره هدرا أو يضيعه في ما لا يعني.

5- ومن هذه الآفات التأثر بمرافقة من ينظر إلى وقت الفراغ النظرة الخاطئة، أو يشغله في ترويح تجاري محض بما يضر بالدين والعقل والنفس والمال، من وسائل الإعلام المروجة للترويح التجاري على حساب الآخرين، والانسياق وراء المهالك والانحرافات الاجتماعية التي يتم فيها العدوان على أهم المقاصد الكليات الأساسية.

وأخطر هذه الآفات التربية على البطالة والخمول من خلال هذا الفراغ، مما يؤدي بالمسلم إلى مؤالفة إهدار الوقت في أوقات واجباته الدينية والدنيوية.

ذ. سعيد آيت حمو

أستاذ التربية الإسلامية- بتارودانت

———

1- سنن ابن ماجة  حديث  4170

2- سنن الترمذي حديث رقم 2337

3- أخرجه أبو داوود ج3، ص66، ح2578، وابن ماجة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>