كل ما خلق الله جل وعلا له وظيفة محددة، ورسالة معينة يؤديها بشكل حتمي لا اختيار له فيه، وعلى رأس ذلك الإنسان، فإن الله خلقه وأهله للقيام بوظائف وتكاليف بينتها الشرائع المنزلة تترى على البشرية، وزوده بطاقات عقلية وروحية، وأهله بقدرات حسية ومعنوية، ثم أكرمه بنعمة حرية الاختيار في كثير من مكتسباته الحياتية، حتى الدين لم يلزم الباري جل وعلا عباده بعبادته كرها وإنما ترك لهم حرية عبادته بعد أن أقام لهم الأدلة والحجج في الكتابين؛ كتاب الكون المنظور وكتاب الوحي المسطور، وأرسل الباري جل وعلا للناس رسله ليبينوا ما اختلفوا فيه من الحق، ويهدوهم إلى الهدى والرشاد،{لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي}(البقرة :255).
غير أن المسلم وهو يختار الدخول في الإسلام، يختار طوعا الدخول في تكاليف وواجبات الإنسان الحقيقي، ويدخل في سلك تحقيق الحكمة الربانية من خلقه : ومن جملة مقاصد خلق الإنسان وكلياتها: قصد عبادة الله، وقصد الشهادة على الناس.
1- وظيفة العبادة لله رب العالمين:
فقصد العبادة لله هو كلي المقاصد، وأصلها الذي تنبني عليه المقاصد الأخرى؛ {وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون}، والعبادة لله لا ينحصر معناها -كما يشيع عند الناس- في شعائر الصلاة والصوم، أو في العبادات دون المعاملات، بل إن كل سلوك وتصرف يصدر من المسلم سواء أكان تصرفا ظاهرا أو باطنا، وأي نوع من العمل؛ طلب علم أو تجارة أو سياسة أو إدارة أو أي نوع من أنواع المعاملات إلا وينبغي أن يبتغى به وجه الله ويحتكم فيه إلى حكم الله، ويوزن بميزان الله، حتى يصير المسلم في كل شيء خاضعا طوعا لا كرها لكل أمر الله، وعندها يستحق المسلم صفة العبدية وما أجله من وسام!! وما أعلاها رتبة!! إنه وسام منحه الله لأنبيائه ورسله، إنها رتبة أدركها ويدركها من باع نفسه وحياته لله، ورتبة يبلغها من أسلم وجهه لربه، فعاش بالله، ولله، ومع الله: {قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} وعندما يتحقق المسلم من هذه الرتبة يصير في أعلى درجات الخيرية والصلاح الذي به يتحقق قصد الاستخلاف وإعمار الأرض كما أمر الله عز وجل .
2- وظيفة الشهادة على الناس أجمعين:
أما قصد الشهادة على الناس فهو تابع للقصد السابق، إذ لما كانت رتبة العبدية لله رتبة خير وصلاح، وهي رتبة الأنبياء والصالحين والمصلحين فقد استوجب الأمر القيام بوظيفة أخرى هي وظيفة إصلاح الناس والحرص على دعوتهم إلى خير الله ورحمته، إلى نعمته العظمى نعمة الإسلام، وبيان الحق لهم، وأمرهم بالمعروف كل المعروف (قيم الخير والحق والعدل والجمال)، ونهييهم عن المنكر كل المنكر (قيم الشر والضلال والظلم والفساد والقبح)، إنها رتبة سامية لم يكلف بها الله جل جلاله إلا من اصطفاهم من رسله: {يا أيها النبيء انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا}(الأحزاب : 46 ) ومن أهلهم من عباده الذين تحققوا من رتبة العبدية: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط، شهداء لله}(النساء : 135)، {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط}(المائدة : 8)، {ليكون الرسول عليكم شهيدا وتكونوا شهداء على الناس}(الحج : 78).
إن الشهادة على الناس ليست كلمة تقال باللسان، ولا دعوى تدعى من غير حجة ولا برهان، إن برهانها هو العدالة والضبط و النزاهة والاستقامة، وعنوانها هو حب الخير للناس، ودعوتهم إلى دينه، وإلى رحمته، وتعليمهم علم الله والقيم التي ارتضاها لهم وكلفهم بالقيام بأعبائها، إنها تكليف بتبليغ الدين وبيانه وتأهيل العباد ليكونوا عبيدا لله اختيارا كما هم عبيد له اضطرارا، إن الشهادة على الناس تقتضي من المسلم القيام بوظيفة الأنبياء والرسل وهي الوظيفة التي أجملها رب العزة في قوله: {لقد من الله على المومنين إذ بعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}(آل عمران : 164).
إن أمة الإسلام تحتاج اليوم إلى إحياء هاتين الوظيفتين التي لا تكون مسلمة بدون تحققها وتخلقها بلوازم وتكاليف وأخلاق هاتين الوظيفتين: تكاليف إصلاح النفس وإقامتها على كل ما يجعلها خاضعة، وإصلاح الغير وتبليغه دين الله وقرآنه وسنة رسوله الأمين، وبيان ذلك خير بيان، وإصلاح مناهج التعليم والإعلام وكل مؤسسات التربية والتعليم والتنشئة من الأسرة إلى المدرسة فالجامعة وكل مؤسسات التكوين في جميع التخصصات والمجالات. فمتى تنهض بواجب العبادة لله رب العالمين، وواجب الشهادة على الناس أجمعين؟ ومتى تعد العدة الكافية لإصلاح منهج الحياة كل الحياة ليستقيم على منهج الله جل وعلا؟