أوراق شاهدة – جمال:الفتى الــذي جاء من أقصى الغرب يسعى


في قرية من تلك القرى المتربعة بين أكوام من خشاش تبن الحصاد الوافر، ونبتات الصبار المترامية، وببيت من بيوتها العريقة الجذور، التقيت ضمن شباب عائلة الزوج بجمال، الفتى المغربي الآتي من ألمانيا في عطلة صيفية ألف فيها أن يتحمل لفحات الشمس اللاهبة ليظل قريبا من أنفاس العائلة الكبيرة  وعبق تاريخ تقلبها في مناكب الأرض بحثا عن مصدر للعيش الكريم، كما باقي العباد.

تغير جمال كثيرا، من صبي مشاغب يهوى تصيد أقرانه من أطفال العائلة بمقالب ماكرة، إلى غلام يافع، هادئ الطباع. والأعجب في تغيره هذا اللافت  إقباله على قراءة القرآن الكريم والدقة في المحافظة على أوقات الصلاة.

اشترى جمال مصحفا كبير الحجم  باهض الثمن، فاخر الطبعة، متقن الترجمة إلى اللغة الألمانية. إضافة إلى مجموعة من الكتب الدينية المفصلة لمجمل العبادات في الإسلام، هي كل ذخيرته، بل ذخيرته الأروع التي يفاخر بها  أمام أفراد العائلة المنبهرين المتحيرين…

وكثيرا ما تابعت بعينين فضوليتين هذا التطور الهائل الذي أحال طفلا مستغرقا بشقوة طفولية لا تنتهي إلى جدية أخاذة أهالت على ملامحه إشعاعا نورانيا ليس حتما إلا انعكاسا لأعماق تسرب إلى شغافها نور كتاب الله عز وجل فكنس جحافل الظلام التي كانت تعشش عند مداخلها وتحاول النفاذ إلى غورها عند أول سقوط في فخ الرذيلة. تلك الرذيلة التي تنشب أظافرها في لحم أبنائنا حال يطئون أرض الغرب إذ تكشف عن مكامن فتنتها لترديهم قتلى بلا كفن.

أفلت جمال برحمة من الله عز وجل من المصيدة الغربية، وهو ذا، جندي من جنود الله يتشكل على حين غرة في رحمها، وعلى عينيها، على غير ما تشتهيه نفسها الخبيثة، وفي توقيت يقترن فيه الصيف بتسيب الغرائز وإفلات عفاريتها من القمقم للتخلص من أردية العفة مظهرا وجوهرا، اختار جمال أن يركن إلى صهد قرية الأجداد مصاحبا أنيسه الشريف : القرآن الكريم.

{إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى}، هكذا كان يرتسم في مخيلتي مشهد فورة صحوة الشباب المسلم بالغرب.

وكأنها زخات رحمة تساقط على نفسي الكسيرة لهنيهات عابرة إذ أستعرض هذا التكالب الضخم على الأمة، وأحدس بيقين  قرب انبثاق شعاع الخلاص من غياهب الظلام بمقتضى سنن ربانية حكيمة، تقوض حصن الباطل وتحيله إلى قبض الريح، حين يستوي الحق على أديم سفينة النجاة.

وسرعان ما يعاودني الشعور بالانتكاس وأنا أستعيد في مخيلتي تفاصيل حوار دار بيني وبين جمال، قال فيه كلاما بسيطا وعميقا في نفس الآن، يلخص مصدر ذلتنا.

في ذلك الصباح، وأنا أجره  إلى حديث مثقل بشجون الغربة ومظاهر العداء للمسلمين، سدد لي طلقة نارية من العيار الثقيل، وهو يقول لي بلغة عربية متلعثمة بفعل إقامته منذ الولادة في المهجر :

(الناسفي المهجر ليس عندهم شيء يشجع على الإقبال على الإسلام، ومع ذلك يسعون بكل الوسائل للتعرف على الإسلام، وأنتم، كل شيء للتعرف على الإسلام متوفر عندكم.. الدولة مسلمة.. فيها المساجد وكتب الإسلام.. ووو… لكن ليس هناك اهتمام بالإسلام

المسجد هنا في القرية لا يرتاده إلا  القلة من المسلمين )..

بكلامه حرك جمال في قلبي مواجع جمة، وذكرني بتلك الليلة التي امتلأت فيها ساحة القرية المترامية الأطراف بالرجال والنساء والأطفال استجابة لدعوة لحفل مختلط رقصت فيه النساء إلى مطلع الفجر، ثم والمنادي ينادي للصلاة، انسحب المحتفلون إلى مضاجعهم، يهدهدهم الشيطان ويهمس لهم : ناموا فإن عليكم ليلا طويلا.

وأمسى وأصبح وظل المسجد وحيدا،

أفما آن لهذا الليل أن ينجلي؟؟

.. وحدثني جمال عن حزمة البرامج  الدعوية التي يعكف المسلمون على تنزيلها رفقة أولئك الغربيين الذين يعتنقون الإسلام أفواجا، بفعل الزخم الدعوي وهمة الفاعلين الدعويين من أبنائنا ومن المعتنقين.

همة عجيبة نتلمس ملامحها الرائعة الواعدة في الدفق الهائل لكمية المعلومات الدعوية الخاصة بالإسلام، التي نتلقاها يوميا عبر بريدنا الإلكتروني، في الوقت الذي ينحسر فيه إشعاع الدعوة ببلاد المسلمين، ويركن فيه كثير من الدعاة لاستراحة  المحارب، استراحة لم تسبقها حرب ولا حتى شبحها.

وفي نفس السياق صادفتني حالة من هذا النكوص لو علم بها الدعاة  من الصادقين لأجهشوا بالبكاء وانتابتهم كما انتابتني حالة خوف من حساب المولى العسير لغيابهم عن ساحة الأمر بالمعروف وانحسار المعين الدعوي بسبب فتور هممهم.

فقد التقيت بامرأة عجوز من معارف العائلة في زيارة جد عاجلة لظروف قاهرة، وهالتني الحالة الصحية لتلك السيدة التي عرفتها معافاة ولطيفة بسيمة، فقد أكل المرض جسمها  وأحالها إلى شبه شلل، والأكثر هولا أن تلك السيدة الطيبة حين حدثتها عن البلاء ورحمة الله لعباده مع كل ابتلاء وسألتها  أن تكثر من الدعاء مع كل صلاة، أجابتني بكل براءة:

- أصابني [(وتعني الله) بكل هذه الأمراض و فوق ذلك تريدينني أن أصلي له

لايستحق  (وتعني الله) أن أصلي له.

همست في أذنها وأنا أغادرها

- الله كريم صلي واسأليه العافية، فموعدك معه قد يكون قريبا، كما موعدنا جميعا فبماذا ستجيبينه ؟؟

فرفعت رأسها وكتفيها غير آبــهــة، وكم كان الأمر مأساويا، وأنا أراها تقف عند الباب بكل طيبوبة مودعة..

وافضيحتاه ماذا سنقول غدا لربنا..

هو ذا رمضان المعظم يحل بعد أيام معدودات، لا نكاد نتبيـــن فيها معالم التأهب الأدنى، كما كان التأهب الأقصى للجيل الفريد أشهرا قبل حلول الشهر الفضيل.

و بأي حال يعود  (شعباننا) مقارنة بـ(شعبانهم )؟؟؟؟؟

فجرا وأنا آخذ ماء ساخنا من الصنبور لصلاة الفجر، وصوت المؤذن يعلو فوق القرية الهامدة إلا من أضواء عزلاء هنا وهناك، كان جمال بالغرفة المجاورة  يخف إلى الحمام للوضوء.. وشعاع من أمل دافئ يسري بداخلي المسكون بصور الوهن المستديم. هل كان المولى سبحانه  عبثا يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم داعيا إياه لمجافاة مضجعه ولزوم صلاة الليل.

هل يكون المنطلق إلا منها؟؟

كنت دائما أقف ذاهلة إزاء المعاني العجيبة لسورتي المزمل والمدثر..

هناك المنطلق..هناك التصفية قبل التحلية.

رمضانكم أتقى أيها الأحبة.. وحتى نلتقي في الموسم القادم بإذن الله تعالى لا تنسوني من الدعاء.

ذة. فوزية حجبي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>