لا تزال تكل الصورة لاصقة بذهني وبمخيلتي لذلك الشاب الوسيم واللطيف وهو يرافق أباه مترجلين بخطى بطيئة وثابتة أو على متن سيارة رونو 16. ترسخت هذه الصورة لكثرة مشاهدتها حية ومتوقدة عبر الأيام والسنين بحي بورمانة بفاس، فكانت لنا أروع مثال للبر بالوالدين وقد كنت آنذاك في مراحل الثانوية من الدراسة بثانوية مولاي سليمان. وفي تلك الأيام نذكر أنه بدأ الحديث عن إنقاذ فاس ومنظمة اليونسكو في الأوساط الاجتماعية والإعلامية فلم نعر ذلك اهتماما ونحن أبناء المدينة الجديدة بعيدون عن الفضاءات التراثية للمدينة القديمة ومعانيها الحضارية والثقافية. و حينها تكتمل بعض أطراف المشهد: ذلك الشاب عبد اللطيف ابن الفقيه هو المسؤول عن برنامج إنقاذ فاس…..
كانت تلك أولى المعرفة بابن الفقيه عن بعد ولن يتم البدء في التعرف عليه حقيقة إلا من خلال دروسالهندسة المعمارية الإسلامية في السنة الثالثة بالمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية. وهناك يتم الاكتشاف لأستاذ بارع متمكن لغة وعلما وفكرا وأدبا…
كانت دروسه في الهندسة الإسلامية تحظى باهتمام بالغ من طرف الطلبة والطالبات الذين يلحون على حضورها والاستمتاع بها ولو بعد طول انتظار ريثما يخلص من مسؤولياته الإدارية والمهنية.
كان أكثر ما يشدنا ونحن طلبة موسوعية فكره وعلمه التي كانت تجمع بين منابع الحضارة العربية والإسلامية ومختلف العلوم الإنسانية المعاصرة إلى جانب تمكنه من أهم التيارات الفكرية الغربية في علاقتها خصوصا مع قضايا العمران والتعمير.
المحطة الموالية مع الأستاذ عبد اللطيف الحجامي ستكون في مشغل التراث في السنة الخامسة من المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية ، وفي هذه المحطة سيتلاءم الفكر والتكوين الأكاديمي مع الواقع حيث سيكون المختبر بمدينة فاس العتيقة ثم حي البيازين بغرناطة. هنا وهناك يطلق العنان للطلبة للدرس والتحليل والاستخلاص ثم المبادرة والإبداع… لنتهيأ بعد ذلك لآخر مرحلة للتكوين بالمدرسة أي الاستعداد للبحث لنيل شهادة المهندس المعماري. إذاك يصبح الأمر ، أكثر جدية وكما يقال يجب الاستيقاظ باكرا للعمل مع الأستاذ في مشروع بحث الدبلوم.
كنا ستة طلبة (4 طلبة وطالبتان) انقسمنا إلى مجموعتين فكان التوجه إلى موضوعين عملاقين لم يستكثرهما علينا: المدن العتيقة بالمغرب والعمارة المعاصرة بالمغرب. فكانت رحلة شاقة ومتعبة وممتعة في نفس الوقت، حظينا فيها بالنهل من مناهج الأستاذ عبد اللطيف العلمية والمعرفية، فكان يقصر علينا المسافات بتمكيننا من مكتبته ووثائقه الخاصة وبطرحه علينا لنظرياته وتصوراته العلمية والفكرية لتطويرها واستثمارها في بحوثنا دونما بخل أو تحفظ هدفه في ذلك فتح الآفاق العلمية والمعرفية للطلبة الباحثين. فكان خلال هذه المرحلة رحمه الله غزير العطاء بوقته ليله كنهاره، وماله يسيره وكثيره، وبيته على سعته أو ضيقه، ناهيك عن علمه باتساع آفاقه ومداركه. هكذا كان مع عشرات الطلبة والطالبات الذين كانت لهم الحظوة في تأطيره لبحوثهم وأعمالهم. وهنا نتذكر جوابه لمحاوريه عندما يسألونه لم لا تدون وتنشر وتؤلف حول أفكارك وقد سحرهم ببيانها فيجيب متبسما هؤلاء طلبتي دونت عندهم أفكاري فاقرؤوها في أشخاصهم وناقشوهم فيها.
بعد إنهاء البحث و الحصول على دبلوم الهندسة المعمارية، كل من زملائي وزميلاتي أخذ طريقه المهني إلا أنا فوقعت في “فخ” مسقط رأسي مدينة المولى إدريس وحفيده عبد اللطيف وما زاد في الطين بلة أن زكى والدي رحمه الله هذا “الفخ” ولو أنه كان في حاجة إلي بمدينة الرباط التي انتقل إليها منذ بضع سنين. ذلك لما يعرفه عن أسرة الحجامي من فضل وعلم سيصيب لا محالة ابنه ولده، ولرضاه ورغبته لعملي بمدينة فاس التي كان رحمه الله يعشقها حتى النخاع. وياله من “فخ” جميل لو نصب لي مجددا لتعمدت الوقوع فيه، فما أروع أن يعمل الإنسان مع من يحب وفي المدينة التي يحب.
إن الشوط الثاني من الرحلة مع الأستاذ عبد اللطيف سوف لن يكون سهلا. فبمجرد حصولي على شهادة الهندسة المعمارية عُيّنت بعمالة فاس في إطار الخدمة المدنية فوضعت في إطار رهن إشارة الوكالة التي أحدثت حينها.
وهنا يتردد قلمي ، بل ترتبك أفكاري فتتزاحم الذكريات عن الأستاذ عبد اللطيف المدير المسؤول -le patron- والأستاذ المهندس والإنسان الصديق…. فتارة تبرز إحدى صفاته هذه في ظروف خاصة وتارة تلتئم جميعها فيصعب فصلها. فإن اقتنع بالعمل تلألأت عيناه رضى وفرحا، وإذا لم يرض لمح وأشار، فإن تطور الوضع إلى تعطيل المصالح وفسادها أعرب وأبان بما يقتضيه الأمر من الحزم أو حتى الغضب لكن في منتهى الأدب والاحترام. و في كل الأحوال لا تفارقه ابتسامته الساحرة و لا يتنازل عنها، فكانت له سلاحا يستخدمه مهما تغيرت الظروف و الأحوال. هكذا حاله في محيطه المهني القريب.
وفي مناقشاته ومفاوضاته كان يحسن الإنصات ويتقوى بالحجة والبرهان ويتمكن من فكر مخالفيه فينصفهم تارة ويجادلهم أخرى إلى أن ينتصر لقضية فاس قدر المستطاع والإمكان.
هكذا كان مناضلا من أجل هذه المدينة يجمع في ذلك بين أدوات العلم والتكوين والتدبير و التواصل والعمل الدؤوب. و خلال ما يربو على عقدين من الزمن قاد مشاريع رائدة لرد الاعتبار لمدينة فاس، تفرغ بعدها ، ليشع بتجربته على صعيد العالم العربي والإسلامي. وخلال هذه العشرية الأخيرة ظل متفقدا لمشروع فاس ويفرح لمكتسباته دون محاولة للتدخل في مجرياته اقتناعا منه بتطوير التجارب وتراكمها.
ظل كذلك وفيا لنهجه وقناعاته إلى أن فاجأه المرض، فتعامل معه بإيمان عميق ونفس شامخة ولسان حاله يقول لا اعتراض على قدر الله لكن لا تفريط في نعمة الحياة ولو قيد أنملة ،فسلك جميع السبل للاستشفاء والتداوي لكن دائما على طريقته الخاصة، بفهم عميق وإدراك شامل لوضعه الصحي حتى أنه كان يقدر مستوى طاقته ليقوم ببعض الأعمال. وأذكر في ذلك المجهود الذي بذله للتصوير مع فضائية ب ب س (BBC) لما تم اختياره من بين الأبطال العشرين للتراث عالميا فأبى إلا أن يتوج مدينته ومسقط رأسه بشهاداته في آخر أيام حياته.
غاب عبد اللطيف رحمه الله، وقد قصر عمره وعظم عمله ليظل مشعا على مدينة فاس، غاب وبقي حاضرا في قلوب أحبابه وأهله وأصدقائه وزملائه المهندسين الذين أبوا إلا أن يتذكروه في حفل تأبيني فريد، غاب وترك باقة من الذرية الصالحة تشع ابتسامات من ابتساماته وأخلاقا من تربيته.
هكذا عاش من أجل قضايا يؤمن بها متمسكا بدينه، خدوما لوطنه وأمته ومحبا لملكه، وقد خلف وراءه عملا وعلما غزيرا يستحق الجمع والتركيب لفائدة طلاب الهندسة والتعمير. تغمده الله برحمه وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
فؤاد السرغيني مهندس معماري