خلق الله النفس البشرية في أحسن تقويم، وكَلَّفَ النَّاس بِتَرْبِيَتِهَا وتَزْكِيَتِهَا، وجعل جزاءَ من يَنْجَحُ في هذه المهمة؛ الفَوْزَ والفَلاَحَ في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}(الشمس : 9- 10).
وبما أن النفس الإنسانية حقيقة غَيْبِية لا يستطيع الإنسان إدراك ماهيتها؛ فإن الله سُبحانه عَرَّفَنَا في القرآن الكريم بخصائها و قوانينها ومراتبها و منهج صلاحها وإصلاحها(…)؛ حتى يَسْهُلَ علينا التعامل معها .
وفي هذه الأسطر سَنَتَعَرَّفُ على أهم ما يؤثر في النفس إيجابا وسلبا؛ وهما (العقل والهوى).
أثر العقل على النفس:
“العقل في اللغة عبارة عن قيد البعير لئلا يَنِد، وسًمي هذا الجوهر به تشبيها على عادة العرب في استعارة أسماء المحسوسات للمعقولات”(1)، وهو قسمان (غريزي ومستفاد)؛ القِسْم الغريزي يُخْلَقُ مع الإنسان ووجوده فيه أمر فطري كوجود النخل في النواة والسُّنْبُلَةِ في الحبة، والقِسْمُ المُسْتَفَادُ يَنْتُجُ بقدر اجتهاد الإنسان في تحصيل العلم(2).
فالعقل أشرف القِوَى في الإنسان وخاصيته التي يتميز بها عن البهائم؛ وبَصِيرَتُهُ التي يُمَيِّزُ بها الصالح من الطالح والحسن من القبيح من سلوكاته، و”كما أن البدن متى لم يكن له بَصَرٌ فهو أعمى، كذلك النفس متى لم يكن لها بَصِيرَةٌ؛ أي عقل غريزي فهي عمياء”(3) .
في أثر الهوى على النفس :
الهوى هو”الشهوة الغالبة إذا استتبعتها الفكرة”(4)، و”هو: ميل النفس إلى الشهوة، وقيل: سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الآخرة إلى الهاوية،(…). وقد ذَمَّ الله تعالى اتباع الهوى فقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}(الجاثية : 23)، وقال سبحانه {وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}(ص : 26)”(5)، ومنه يظهر الأثر السلبي للهوى على النفس؛ حيث إن اتباعه بإطلاق قد يصل بصاحبه إلى تقديس ذاته وعبادتها -والعياذ بالله-.
الفرق بين العقل والهوى :
“النفس تُريد ما تريد بمشورة العقل تارة، وبمشورة الهوى تارة”(6)، ولتخليص النَّفس من ضَرَرِ الهوى وخَطَرِهِ عليها، و تَبَصُّرِها بِحِكْمَةِ العقل وأنواره؛ يَتَحَتَّمُ علينا أن نُمَيِّزَ الفروق بينهما(العقل والهوى) حتى يتَََجَلَّى كل واحد منهما أمام بصائرنا، فنَتَّبِع ما يُمليه العقل لأنه يكون صوابا، ونجتَنَِب ما يمليه الهوى لأنه لا يكون إلا خطأ، وأهم تلك الفروق-كما ذكرها الراغب الأصفهاني-؛ هي:
1- “العقل يُري صاحبه ما له وما عليه، والهوى يُريه ماله دون ما عليه، ويعمي عليه ما يعقبه من المكروه(…)، لذلك ينبغي للعقل أن يتهم نفسه أبداً في الأشياء التي هي له لا عليه، ويظن أنها هوى لا عقل يلزمه، وينبغي أن يستقصي النظر فيه قبل إتمام العزيمة، حتى قيل إذا عرض لك أمران فلم تدر أيهما أصوب فعليك بما تكرهه لا بما تهواه، فأكثر الخير في الكراهة، قال تعالى :{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(البقرة : 216)”.
2- َ”من شأن العقل أن يرى ويختار أبدا الأفضل والأصلح في العواقب، وإن كان على النفس في المبدإ مؤنة ومشقة، والهوى على الضد من ذلك فإنه يؤثر ما يدفع المؤذي في الوقت وإن كان يعقب مضرة من غير نظر منه في العواقب كالصبي الرمد الذي يؤثر أكل الحلوى واللعب في الشمس على تناول الإهليلج والحجامة”.
3- “ما يرى العقل يتقوى إذا فزع فيه إلى الله عز وجل بالاستخارة، وتساعد عليه العقول الصحيحة إذا فُزع إليها بالاستشارة، وينشرح الصدر إذا استعين فيه بالعبادة، وما يرى الهوى فبالضد من ذلك”.
4- “العقل يرى ما يرى بحجة وعذر، والهوى يرى ما يرى بشهوة وميل، و ربما تشبه الهوى بالعقل فيتعلق بحجة مزخرفة ومعذرة مموهة، كالعاشق إذا سئل عن عشقه”(7).
إذن؛ معرفة هذه الفروق وفِقْهُهُاَ واستيعابها وتطبيقها يجعلنا على بَيِّنَةٍ بالطرق العملية التي نَحفظ بها أنفسنا، وتُسَهِّلُ علينا تهذيب و ضبط سلوكاتها، ومن ثَمَّ تربيتها وتزكيتها.
——–
1- يُنظر “الذريعة إلى مكارم الشريعة” للراغب الأصفهاني، ص:102 ، الباب الرابع: في منازل العقل واختلاف أساميها بحسبها.
2-3- نفسه، ص :98، الباب الثاني: في أنواع العقل.
4- نفسه؛ ص: 50، الباب الرابع عشر:في الفرق بين ما يسموه الهوى وما يسموه العقل.
5- الراغب الأصفهاني؛ ّمفردات ألفاظ القرآنّ، ص: 690.
6- نفسه، ص :50، الباب الرابع عشر:في الفرق بين ما يسموه الهوى وما يسموه العقل.
7- نفسه، ص : 49-48.
ذ. طارق زوكاغ