قرآن الأمة وأمة القرآن : الحضور والغياب…!!


في افتتاحية العدد 359 تحدثنا عن تجربة  مخاض الولادة للأمة المسلمة بين التيه والرشاد، وبينا بعض معالم ومفاتيح الرشاد والتي تكمن في مفتاح العلم ومفتاح المنهج، ومفتاح التربية والتخلق، ومفتاح التنسيق والتكامل بين أعضاء جسد الأمة، وتتميما  للحديث في هذا الأمر يلزمنا التنبيه إلى أمر في غاية الأهمية، وهو أنه لا وجود  لمخاض الولادة من غير وجود تخلق الجنين، ومن غير نفخ الروح في الجنين ، وروح الأمة  هو القرآن الكريم، وهو موجود  ومحفوظ بوعد الله تعالى في حفظه ، لكن المشكلة ليست هنا وإنما في وجود الأمة القائمة بهذا القرآن الساهرة على تغذية جسمها وعقلها وروحها  من غذاء الروح الذي يشكل جوهرها وهويتها والذي به تخلقت يوم تخلقت بإذن ربها،  فإذا كان قرآن الأمة موجودا وحاضرا، فهل أمة القرآن  موجودة حاضرة شاهدة عاملة بمقتضى هذا القرآن؟!

أولا : أوصاف القرآن الكريم ومدى قيام الأمة بها :

لننظر أولا في أوصاف هذا القرآن التي وصفه الله بها لنتبين خصائصه ووظائفه ونقارن بينها وبين واقع أمة القرآن تجاه كتابها:

> فالله عز وجل سمى قرآنه روحا: {وكذلك أوحينا إليك روحا منَ امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}(الشورى: 52)، فهل أحللنا هذه الروح في أنفسنا وأبنائنا؟ وهل اهتدينا بنوره في ظلمات الجهل والاختلاف والتعصب وتعدد الأهواء والولاءات إلى صراط الله المستقيم وحبله المتين؟!

> والله عز وجل وصف القرآن الكريم بوصف القرآن ليُقرأ، وبوصف الكتاب ليكتب ويقرأ ويُعْلم ويُتَعلم ويُعَلَّم: قال تعالى:  {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان}(البقرة:185)، وقال جل وعلا: {الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، إلى صراط العزيز الحميد}(إبراهيم:1) ، وقال جل جلاله: {وأنزلنا إليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين}(آل عمران:89)، فهل قامت الأمة بهذه الوظيفة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزل عليه هذا الأمر وهذا التوجيه؟! وهل قرأت الأمة هذا القرآن بقصد الاهتداء به  للخروج بنفسها وإخراج غيرها من الأمم من التيه إلى الرشاد، والتنور بنوره للخروج من ظلمات الجهل إلى نور العلم والرحمة والبشرى؟! وهل باشرت بنفسها أسباب الاهتداء والهداية، وأسباب الخروج إلى الحياة وأسباب إخراج الإنسان؟

> والله جل وعلا وصف هذا القرآن بأنه فرقان وميزان فقال جل شأنه : {تبارك الذي  نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا}(الفرقان: 1)، وقال جل شأنه : {لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}(الحديد:24) ، فهل فعلا وظفت الأمة هذا القرآن وجعلته ميزانا تزن به كل أمورها، وفرقانا تفرق به بين الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والعدل والظلم، والتيه والرشاد؟

ثانيا : أوصاف أمة القرآن الكريم ومدى تخلق الأمة بها :

ثم لننظر ثانيا في ما كلف الله به أمة القرآن ـ حتى تكون أمة القرآن ـ ونقارن بينها وبين واقع حالها تجاه هذه التكليفات لنرى الفرق بين حضور القرآن وغياب مفعوله في الأمة ، وبين حضور الأمة وغياب فعلها وصفاتها.

كلف الله جل وعلا الأمة بقراءة القرآن: {فاقرؤوا ما تيسر منه} تخفيفا وتيسيرا على الأمة فهل الأمة ـ كل الأمة ـ قامت  بهذا الواجب؟ وهل أخذت الأمة القراءة بمعنى الجمع والحفظ والوعي والعلم والعمل أم اقتصرت في القراءة بمعنى تهجي الحروف؟ وأين الأمة من رعاية حقوق القرآن  وأهله وتعهده بالتربية والتدريس والإنفاق عليه وبناء المؤسسات الساهرة على حفظه وتحفيظه وتعليمه حتى تعمم فائدة قراءته؟

> وكلف الله تعالى الأمة بتلاوة هذا الكتاب، فقال سبحانه: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته}(البقرة : 120)، والتلاوة هي اتباع العلم بالعمل، وإتيانه عقبه كما قال ابن عباس فالتلاوة الحق هي العمل به، فهل الأمة اليوم قائمة بأمر التلاوة حق القيام؟ هل تقوم الأمة بوظيفة العمل بالقرآن في حياة أفرادها الخاصة والعامة؟ أين السياسة من العمل بالقرآن ووزن الأمور به؟ وأين التعليم من تعليم الأمة علم ربها وكتاب ربها وتزكية الأنفس به؟ وأين القضاء من الحكم بشريعة الله؟ وأين الاقتصاديون من التعامل بقوانين الإسلام في كسب الثروة وتوزيعها؟وما محل التعامل بالربا في اقتصادنا من العمل بالقرآن الكريم وإعماله؟ وأين المسؤولون بجميع أصنافهم ومستوياتهم من العمل بمبادئ القرآن في حفظ الأمانات والأمر بالإخلاص في أداء الحقوق والقيام بالواجبات؟ وأين وأين…؟

> وكلف الله تعالى الأمة بتدبر القرآن فقال تعالى : {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالها}(محمةد : 25)، وقال جل جلاله: {كتاب انزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الالباب}(ص:29)، وإذا كان التدبر يفيد معنى معرفة معاني الألفاظ ومآلاتها(التأويل)، والفقه والفهم والاعتبار والتذكر والتفكر والتدبير(النظر في عواقب الأمور ونهاياتها)والاستبصار،  فهل قامت الأمة بهذه الوظيفة؟ وهل أعدت لها ما يبرئ ذمتها أمام الله؟ وما نصيب أبنائنا وأبناء الأمة من حقهم في تدبر القرآن وتعلمه بقواعده التي تحقق التدبر الأمثل؟

> وإذا كان الله عز وجل قد جعل هذا القرآن روحا وماء للحياة وهداية للخير ، فقد كلف الأمة بتبليغه للناس لزرع الروح فيهم وإحيائهم بروح القرآن ومنحهم الخير الحقيقي فقال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك فإن لم تفعل فما بلغت رسالاته والله يعصمك من الناس}(المائدة : 69)، وقال جل وعلا مبينا وظيفة الأمة في الدعوة والبلاغ وتبليغ هذا القرآن للعالمين: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولائك هم المفلحون}( آل عمران:104)، وهنا أيضا يطرح السؤال أين الأمة من وظيفة البلاغ والتبليغ والدعوة  والتربية والتعليم ؟ وأين هي من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمن الهزائم والتراجع عن المبادئ والمواقع؟

> لننظر الآن: أليس القرآن الذي أنزل الله تعالى لا يزال حاضرا؟ والذي تخلف عن الحضور هو الأمة بفعلها، هو شهود الأمة، هو دور الأمة؟ وإنه لمن أقسى صور التيه أن يكون الدليل متوفرا وينصرف الضال عنه ولا يدركه، وإنه لمن أفظع صور العمى أن يوجد الماء بين يدي الظمآن ويتركه ليجري وراء السراب، وإنه لمن علامات الرشد الأولى أن تدرك الأمة أولا أن رشدها في العودة إلى كتاب ربها، ثم ثانيا في علمه وتعلمه وتدبره، وفي تدريسه وتدارسه، وفي العمل به وتطبيق مقتضياته والاستبصار به في كل شأن من شؤونها، وثالثا في خدمته من جميع أنواع الخدمة التي تجعله دائم الحضور والجريان في جسم الأمة، ويجعل الأمة حاضرة شاهدة، عالمة عاملة، ثم رابعا في تبليغه وتعميم الاستفادة منه وتبرئة الذمة أمام الله في إنقاذ عباده من العذاب وإدخالهم في الرحمة.

إنه لا عذر للأمة أن تظل شاردة تائهة غائبة، وهدايات القرآن موجودة حاضرة،  {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يحييكم}( الأنفال:24).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>