مواقف وأحوال – تبين العلماء، وتثبت الفقهاء


التبين والتثبت فيما ينقل من أخبار، وما يجري بين الناس من قال فلان وفعل علان مطلب شرعي، ومبدأ إسلامي، أمر الله تعالى به في كتابه، وحض عليه النبي  في سنته، قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا}(الحجرات : 6) وفي قراءة سبعية متواترة {إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبَّتُوا} فقد أمر الله تعالى بالتبين و التثبت مما ينقل، وأقل ذلك أن يكون الناقل للخبر عدلاً، والعدل عند العلماء هو من يجتنب الكبائر اجتنابا كاملا شاملاً، ويتقي في غالب أحواله، لكنا نرى أن أغلب نقلة الأخبار لا تتوفر فيهم صفة العدالة، ولكن كثيرا من الناس يقبلون أخبارهم ويبنون عليها أحكاما، ويستنتجون نتائج تؤدي في كثير من الأحيان إلى مصائب وطامات.

ولقد أعجبني في هذا السياق موقف لإمام المالكية في وقته القاضي أبي محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي، فقد بَلَغَتْه أثناء رحلته إلى مكة لأداء فريضة الحج أخبار غير سارة عن المنتصر بالله صاحب مصر. فكتب إليه كتابا يتبين فيه الأمر، وهذا نص الكتاب :

إلى المنتصر بالله صاحب مصر :

حصن الله المؤمنين من الشيطان بِجُنَنِ الطاعة، ودثرهم مِن قرِّ وسواسه بسرابيل القناعة، ووهبهم من نعمه مددا، ومن توفيقه رشدا، وصيرهم إلى منهج الإسلام وسبيله الأقوم، وجعلهم من الآمنين فيما هم عنه مسؤولون >وما ربك بظلام للعبيد<.

كتابي إليك من الجب بإزاء مصرك، وفناء برك بعد أن كانت بغداد لي الوطن، والألفة والسكن، ولما كنت على مذهب صحيح، ومتجر ربيح، كثرت علي الخوارج، وشق علي الماء ارتقاء المناهج >ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز< فأتيت مكة حرسها الله لكي أقضي فرض الحج، من عج وثج، أسأل الله تعالى القبول، وكيف و{إنما يتقبل الله من المتقين} وقد كُنْتَ عندي ذا سنة ودين، محبا في الله تعالى وفي النبيين، وفي محمد  و المهديين، فورد الناطقون وأتى المخبرون، بخبر ما أنت عليه، فذكروا أنك مدحض لمذهب مالك، موعد لصاحبه بأليم المهالك، هيهات هيهات {إنك ميت وإنهم ميتون، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} فأبيت القبول على أمر لم يصح بيانه لكثرة الكذب في الدنيا، وإذ لا يحل لمسلم أن يموت طوعا، فأردت الكشف فأجابه المستنصر بالله بنفي ذلك<(1).

فانظر رحمك الله إلى قوله >وقد كنت عندي ذا سنة ودين..< معددا محاسن الرجل، ثم انظر إلى ما ذكره له مما نقله المخبرون، وتعقيبه على ذلك بقوله : >فأبيت القبول على أمر لم يصح بيانه لكثرة الكذب في الدنيا< ثم انظر طلبه التحقق والتبين من المصدر المعني مباشرة بقوله >فأردت الكشف عن ذلك بكتاب منك<.

هكذا هي مبادئ الإسلام وتلك هي أخلاق الأئمة الأعلام، فلتكن لنا فيهم قدوة وإسوة، والله الموفق.

———–

1- انظر الرسالة وجوابها في الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام 515/8.

ذ. امحمد العمراوي من علماء القرويين     amraui@yahoo.fr

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>