قانون الشفاعة بين التكوين والتكليف
… لازلنا في قوانين القرآن الكريم، والقانون اليوم قانون الشفاعة. الأشياء وتر وشفع، الوتر منفرد، الشفع مزدوج. معنى الشفاعة لا يلتقي اثنان، لا يتعاون اثنان، لا يتنافس اثنان، لا يؤذي واحد الآخر، أية حركة نحو الآخر إيجابية أو سلبية نوع من الشفاعة، لذلك الآية الأصل في هذا الموضوع قول الله عز وجل {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}(البقرة : 253)… هذه آية الكرسي، وهي من أعظم آيات القرآن الكريم “الله لا إله إلا هو” يعني لا مسير في الكون إلا هو، لا معطي ولا مانع، ولا خافض ولا رافع، ولا معز ولا مذل، هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد. {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تاخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}(البقرة: 253- 254) عنده في ملكه، يعني في ملك الله، في السماوات والأرض، في الكون، لا يمكن أن يتصل كائن بكائن، أن ينفع كائن كائنا، أن يؤذي كائن كائنا “من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه” هذه الآية تعد أصلا في قانون الشفاعة، فكل شيء وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق.
… كلنا يعلم أن لله أمرا تكليفيا، وأن لله أمرا تكوينيا، فالأمر التكويني “من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه” هذه الآية دقيقة جدا.. يمكن أن تنفي الحقد والألم والندم الشديد، كل شيء وقع أراده الله، لأنه لا يليق أن يقع في ملكه ما لا يريد، ليس معنى أنه أراد أي أمر ولا رضي، لكن سمح فقط لحكمة بالغة بالغة، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والارض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم}(البقرة : 254). كأمر تكويني {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}، أما كأمر تكليفي، متى يسمح لي أن أشفع لإنسان؟ متى يسمح لي أن ألتقي بإنسان؟ متى يسمح لي أن أتعامل مع إنسان؟ هنا موضوع قانون الشفاعة كأمر تكليفي. أما كأمر تكويني كل شيء وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق.
شفاعة التكليف بين التحسين والتقبيح الشرعيين
… الآية الأولى في الأمر التكليفي {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها}(النساء :84) يعني أنت وفقت بين زوجين، ثمار هذا الزواج في صحيفتك عمل صالح، وفقت بين شريكين، أنت دللت إنسانا على طريق الهدى، أية علاقة مع الآخر.. من دون استثناء، للذي سبب هذه العلاقة الإيجابية أجره عند الله كبير، لذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام مخاطبا الإمام عليا ] “يا علي لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس، خير لك من حمر النعم، خير لك من الدنيا وما فيها” يعني وفقت بين اثنين، دللت إنسانا على خير “الدال على الخير كفاعله” حذرت إنسانا من شر فابتعد عن هذا الشر، وفقت بين زوجين، دللت إنسانا على زوجة صالحة مؤمنة طاهرة، فهذا الزواج المبارك الميمون، كل نتائجه إيجابية في صحيفة هذا الذي كان سبب هذا الزواج، لذلك أفضل شفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح، أفضل شفاعة أن توفق بين أم وولدها، بين أخ وأخيه، بين شريك وشريكه، بين مسلم ومسلم، هذه أفضل شفاعة كأمر تكليفي.
ولكن بالمقابل… فيه إيجابيات وفيه سلبيات {ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها}(النساء : 84) يتحمل إثما، أي : أي شر ظهر من هذه الشفاعة السلبية، دللت إنسانا على معصية فانغمس فيها، ومات عاصيا لله، بعيداً عنربه، استحق عذاب النار، فهذا الذي دله على هذه المعصية سبب شقاء كبيرا، لذلك ماذا فعل نوبل الذي اخترع البارود؟ جعل كل ثروته من أجل عمل إنساني، لأنه أدرك أن هذا البارود سوف يسبب للبشرية متاعب لا تنتهي، لذلك {ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا}(النساء : 84).
… قضية الشفاعة قضية خطيرة جدا، فالمؤمن لحرصه على طاعة الله، ولحبه للخير، ولحرصه الذي لا حدود له على خير البشرية، لا يقبل أن يكون سببا لحصول مشكلة، لا يقبل أن يبني مجده على أنقاض الآخرين، لا يقبل أن يبني حياته على موتهم، عزه على ذلهم، أمنه على خوفهم، غناه على فقرهم، كل شفاعاته حسنة، لا يدل الإنسان إلا على الخير، لا على الشر، لذلك مثلا إنسان أفسد فتاة، فكل أخطائها، وكل مستقبلها المظلم في صحيفة الذي أفسدها. فشيء خطير جدا أن الله عز وجل يحاسب كل إنسان عن آثار عمله، وهذا في قوله تعالى {إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم}(يس : 11).
إذن الأمر التكليفي الخطير في موضوع الشفاعة، أن هناك شفاعة حسنة لمن سببها، ولمن كان وسيطا فيها، هذا له نصيب منها، له نصيب من الأجر، لذلك هذه حقيقة في الدين رائعة جدا، هذه التجارة مع الله، أي عمل صالح دللت الناس عليه، أو روجته في المجتمع، أي عمل خيري، أي مؤسسة خيرية، أي مؤسسة دار أيتام، مأوى عجزة، معهد شرعي، جمعية خيرية، أي عمل تقوم به ينطوي على شفاعة بين اثنين، في صحيفتك إلى أبد الآبدين، وهذا من فضل الله عز وجل، ومن كرمه، هذه الشفاعة الحسنة لصاحبها نصيب منها.
لكن الشيء الخطير أن كل عمل سيء، وأن كل إضرار بالناس، وأن كل ترويج لمعصية، وأن كل زواج بني على الفساد، وأن كل كسب غير مشروع، وأن كل ضلالة راجت بين الناس، وأن كل وهم روجه أناس من أجل مكاسب مادية، الآثار السلبية التي نتجت عن هذا الترويج، وعن هذه الدلالة في صحيفة من سببها، ومن دل عليها إلى يوم القيامة، وهذا شيء مخيف جدا، فنسأل الله جل جلاله أن يقينا من الآثار المدمرة للشفاعة السيئة.
شفاعة الكلمة والإعلام بين الغذاء الدواء والسم الزؤام
… الله عز وجل يقول {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون}(إبراهيم : 26- 27).
الكلمة الطيبة تطير في الهواء، تطير في الآفاق، قد ينتفع بها أناس كثيرون، والكلمة الخبيثة بالمقابل أيضا تطير في الهواء، الضلالات تنتشر عبر المطبوعات، عبر المقابلات، عبر الندوات، هذه الضلالات كل من روجها وأشاعها بين الناس، فانعكست فسادا وانحرافا ومعصية وبعدا، أصحابها هم مسؤولون عن أعمالهم، وعن نتائج أعمالهم، وهذا تؤكده الآية الكريمة {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم}(يس : 11).
… في بعض الأحاديث الشريفة “من أعان ظالما ولو بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله” بل “من أعان ظالما سلطه الله عليه” هذا الموضوع خطير جدا، يجب أن نعد للمليون قبل أن نكون وسطاء في شفاعة سيئة، ويجب أن نبحث بكل ما نملك من جهد كي نوفق بين اثنين، ندل على خير، نشيع الخير في الناس، هذه قضية متعلقة بقانون الشفاعة، والشفاعة كما قلت في هذا اللقاء الطيب: شفاعة تكوينية {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}(البقرة :254) وشفاعة تكليفية: من كان سببا في خير فله أجره إلى يوم القيامة…إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى…
الدكتور محمد راتب النابلسي
جهد مثمن بارك الله فيكم