بينت جهود السلف العظيم في حفظ القرآن الكريم وما هو مطلوب من الأجيال المعاصرة تقديمه من خدمات للقرآن الكريم


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى شرف هذه الأمة المحمدية النبيلة بهذا الكتاب الذي هو أحدث الكتب عهدا بالله تعالى جل جلاله فهو مصدق لما بين يديه من الحق، ومهيمنا عليه، وناسخ للكتب التي قبله، وهو متضمن لخيري الدنيا والآخرة ولكل ما تحتاج إليه البشرية، فقد تكفل الله فيه بحفظ. مصالح البشرية في الدنيا والآخرة، وهو حبل الله المتين وصراطه المستقيم من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قسمهالله، فيه نبأ ما بينكم وفصل ما بينكم وخير ما بعدكم، {لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حكيم}.

وقد أنزله الله على محمد  منجما في ثلاث وعشرين سنة على خلاف ما كانت تنزل به الكتب السابقة التي كانت تنزل دفعة واحدة وبين الله حكمته في ذلك فقال : {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} وقال : {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا، ولا ياتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا}.

وقد ضمن الله لرسوله  جمعه له في صدره وبيانه له حتى يعلم جميع معانيه، وحتى لا يفوته شيء من ألفاظه ولا من حروفه ولا من حدوده، وقد كان يعاني منه شدة عند بداية نزوله كما أخرج البخاري في الصحيح عن ابن عباس في قول الله تعالى : {لا تحرك به لسانك لتعجل به}، قال : كان رسول الله  يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه فلذلك ثبت الله تعالى هذا القرآن في صدره وخاطبه بقوله : {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرآنه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه}.

وقدْ ورّثه  لهذه الأمة المحمدية، كما قال الله تعالى : {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها}.

وقام أصحاب رسول الله  بخدمة هذا القرآن مبلغ جهودهم فبذلوا جهودهم في سبيل الله لإعلاء كلمة الله تعالى ونشر هذا الدين ونصره، وكان القراء في المقدمة دائما فهم أولى الناس بالجهاد في سبيله لما حفظوا وعلموا من كتاب الله ولما تدبروا، وفهموا من معانيه، وقد قتل من القراء من أصحاب رسول الله  باليمامة 500 قارئ (خمسمائة قارئ).

ثم بعد ذلك وفق الله تعالى خليفة رسول الله  لجمع القرآن في الصحف، وبعد ذلك وفق الخليفة الثالث عثمانبن عفان رضي الله عنهم أجمعين لكتابة المصاحف، فكتبه في ستة مصاحف احتفظ بمصحف لنفسه وأرسل المصاحف الأخرى إلى الجهات التي يشتهر فيها العلم وهي عواصم الأمصار : مكة والبصرة والكوفة ودمشق ومصر.

فحينئذ جاء التابعون وخدموا القرآن كما خدمه الصحابة واشتهر منهم المفسرون والأعلام كمجاهد بن جبر الذي قال فيه أحمد بن حنبل الشيباني : “إذا أتاك التفسير عن مجاهد فاشدد عليه يديك، فإنه قال : عرضت المصحف على ابن عباس مرتين أوقفه عند كل كلمة أسأله عنها”.

ثم بعد ذلك جاء أتباع التابعين وبدأ التأليف في التفسير والقراءات، واشتهر منذ ذلك الوقت واستمر واطبق.

ثم جاءت القرون من بعد، وكل قرن يبقى له مجال لخدمة القرآن الكريم لم يتناوله من سبقه، وذلك أن القرآن الكريم كلام الله عز وجل، وليس كلام الناس، فلا تنفذ عجائبه ولا تنقضي فوائده، ولأهل كل عصر منه حظ ليس لسابقين، ولذلك لم يأت أسلوبه أسلوبا واحداً : بل جاء فيه المحكم الواضح الدلالة وجاء فيه المتشابه الخفي الذي يزول عنه التشابه مع الوقت بحسب ما يفتح الله تعالى الناس في فهمه.

وكل عصر من عصور هذه الأمة احتاج أهله إلى خدمة جديدة تناسب العصر الذي هم فيه بحسب ما يفتح الله لهم من الوسائل وبحسب حاجة الناس أيضا.

فبدأ الناس في البداية بالحفظ والقراءات وتدوينها، وكذلك في التفسير ثم تشعبت علوم القرآن إلى أن وصلت لدى أهل القرن الرابع الهجري سبعة علوم وهي : علم الأداء أي علم التجويد، علم القراءات، وعلم التفسير، وعلم علوم القرآن، وعلم الرسم والضبط، وعلم تاريخ الكِتاب، وعلم طبقات القراء، ولم يزل أهل كل عصر يكتبون كتبا جديدة في التفسير وغيره، ولو كان يستغني أهل عصر من العصور عن تفسير جديد لاستغني الناس بتفاسير الأولين…

فلم يستغن الناس بهذه التفاسير بل كان أهل كل عصر يقبلون على مائدة كتاب الله  وينهلون منعلمه ويأخذون ما رزقهم الله من فهمه، وتدبره، حتى وصل الحال إلى عصرنا هذا، ونحن نعلم أن هذا القرآن شديد في نزوله شديد في حفظه كما قال الله تعالى لرسوله  : {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}.

وقد ثبت عن النبي  أنه قال : >تعاهدوا القرآن فلهُو أشد تفلتا من صدور الرجال من الإبل في عقولها<. ولا ينافي ذلك أنه ميسر للذكر، فالتيسير حاصل لمن أراد الله به خيرا ووجهه له، كما ثبت في صحيح البخاري أن النبي  قال : >من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين<، فالذي يريد الله به الخير ييسره لهذا الكتاب، وييسر الكتاب له حفظاً وتدبراً وتفهماً.

وهذا العصر فتح الله فيه من العلوم المختلفة ما لم يكن لدى كثير من العصور السابقة، فقد كان ابن عبد السلام التونسي رحمة الله عليه يقول : موارد الاجتهاد في زماننا أوفى منها في زمان المتقدمين لو أراد الله بنا الخير، ويقصد أن الكتب قد دونت، وأن السنن قد جمعت وأن أقوال فقهاء الأمصار قد أصبحت موجودة في الكتب، ولا يقصد وجود المطابع ووجود الأجهزة والحواسيب التي لدينا فهذا أيضا مما زاد المسؤولية علينا.

وهذا العصر فتح الله فيه للناس من الوسائل الشيء الكثير العجيب فإذا قارنوه بما كان عليه الاسلاف الصالحون الذين كانوا يتحملون هذه المسؤولية رغم العناء والجهد وقلة الوسائل لوجدوا أن الأمر الآن يقتضي منا أن نبذل على الأقل عشر ما بذلوا.

وقد ثبت ما كان عليه السلف من علو الهمة في تدبر القرآن وطلب علومه، وحفظه وحفظ لغته.. ومن التلاوة له آناء الليل وأطراف النهار، والقيام به والعمل به. فقد رباهم رسول الله  على أن يكونوا وقافين عند كتاب الله، ويروى مِن ذلك الكثير عن عمر بن الخطاب والإمام مالك إمام دار الهجرة وغيرهما.

وهذا العصر فتح الله فيه أيضا من الأبواب في التواصل والنقل وأجهزة الاتصال والتخزين وغير ذلك والاطلاع على المخطوطات النادرة والكتب القديمة ما ييسر لنا خدمة كتاب الله ويسهلها، وقد كان السيوطي رحمه الله في زمانه (ت 911هـ) يقول : {فاقرأوا ما تيسر من القرآن} هذا شامل للقراءات العشر برواياتها العشرين، فهي متيسرة لديه في مصر، وكان الناس يقولون إن القرآن أنزل بجزيرة العرب، وكتب بالشام وقرئ بمصر، وفسر بالمغرب. والمقصود بذلك أنه في كل بلد من هذه البلاد اشتهر بشيء من نوع خدمة القرآن العظيم.

وباسم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وفضيلة الشيخ يوسف بن عبد الله القرضاوي أحييكم وأحيي هذا المؤتمر في جهود الأمة في خدمة القرآن الكريم، وأشكر للمملكة المغربية الكريمة استقبالها لهذا المؤتمر وليس غريبا عنها خدمتها لكتاب الله وعنايتها به وبأهله، كما أشكر لمركز البحوث والدراسات العلمية المعروف اختصاراً بـ(مبدع) وهو مبدع على اسمه كما قال البخاري حدثنا مُسَدّد وهو مسدد على اسمه، الدعوة إلى هذاالمؤتمر وأشكر كذلك للهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة مشاركتها ودعوتها لهذا المؤتمر وأشكر لكل من شارك فيه من قريب أو بعيد هذه الجهود الطيبة المباركة.

وأسأل الله أن يوفقنا جميعا لخدمة كتابه وتدبره وتفهمه امتثالا لأمر الله تعالى حيث قال : {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} وقال جل وعلا : {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} وقال جل شأنه : {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.

وإن فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي كان حريصا على الحضور ولكنه شغل لتقدم سنه وضعف جسمه، وهو محب للمغرب ويعرف قول أبي عمر بن عبد البر :

الغرب خير وعند ساكنه أمانة أوجبت تقدمه … فالشرق  من أجل ذاك يودعه بالليل ديناره ودرهمه.

فالدينار الشمس والدرهم القمر، وكلاهما يغربان في المغرب.

وهو كذلك  محب لمدينة فاس عاصمة إدريسبن ادريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين بعدوتيها اللتين جمعتا علم المشرق وعلم المغرب وكانت واسطة العقد بين الحضارتين وواسطة العقد بين القارات كلها. فهاتان العدوتان هما : العدوة الشرقية منهما تنسب إلى أهل القيروان والعدوة الغربية تنسب إلى أهل الأندلس، حيث يلتقي الطرفان هنا في فاس حاضرة العلم، واجتمع في مسجدها هذا سبعون من كبار العلماء الذين كان لكل واحد منهم كرسيه ومجلسه الذي يدرس فيه، وكانوا من الموسوعيين الكبار وإذا ذكرنا منهم أبا الفضل عياض بن موسى بن عياض السبتي فقط تنويها بدرجة الرجل ومكانته فإن ذلك كاف لأن أبا حيان يقول فيه لما قرأ كتابه مشارق الأنوار :

مشارق أنوار تبدت بسبتة

فيا عجبا تبدو لمشارق بالغرب

ومرعى خصيب في جديب ربوعها

ألا فاعجبوا للخصب في موضع الجدب

فما فضل الأرجاء إلا رجالها

وإلا فلا فضل لترب على ترب

ولعله يشير بسبتة باحتلالها نسأل الله تعالى أن يردها إلى المغرب ويطهرها.

كذلك فإن الشيخ يوسف بن عبد الله القرضاوي معروف بحبه لكتاب الله وخدمته، فلا يمكن إلا أن يعذر في  غيابه وإن كنتم سترضون حينئذ بالبدل الأعور كما يقال أو بأقل ما يمكن فحضورنا بين أيديكم له عدة أوجه، وكما قال خليل رحمه الله في المختصر، وأخد الفقير بوصفيه، وأنا فقير آخذ بوصفي، فأنا أمثل مركز تكوين العلماء بموريتانيا جامعة الإمام عبد الله بن ياسين التي هي أيضا منكم وإليكم، فعبد الله بن ياسين جاءنا من المغرب، وأنشأ دعوة المرابطين لدينا. وكذلك أمثل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فأسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى ويوفقنا لما نقوله ونسمعه، ويجعله حجة لنا لا علينا، وأن يعيننا على ما تحملنا من كتابه وسنة رسوله  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كلمة الشيخ محمدالحسن ولد الددو عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، موريطانيا

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>