يعرف العالم الإسلامي -خصوصا الجزء المسمى بالعربي منه- حراكا عنيفا جدا لعله لم يسبق له نظير في تاريخ هذا العالم الإسلامي، ولعل أكثر المتعمقين في دراسة المستقبليات لم يكونوا يتوقعون هذا الحراك بهذه الضخامة والانتشار والجرأة.
فمنذ اندلاع شرارة هذا الحراك /العراك/ في تونس، والعالم الإسلامي في جزئه العربي، يموج بالاضطرابات، وتعمه الانتفاضات، وتملأ فضاءه الواسع الصيحات والهتافات والنداءات المطالبة بالحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية، والمساواة… وما إلى ذلك مما يجمله : المطالبة بالتغيير العام بدءا بتغيير الأنظمة الحاكمة، وانتهاء بتغيير الرؤى المؤسسة لهذه الأنظمة…
ولا غرو : أن تلك المطالبات، وهاتيك الحركات، مقبولة في جملتها، بل ضرورية في مبدئها ومؤكدة في منطلقها..
ومع ذلك، فإن سؤالا كبيرا يطرح نفسه بحدة، ويفرض على أبناء هذه الأمة الإجابة عنه بجرأة وصراحة ودقة، وهو : أين موقع الإسلام من كل هذا الحراك، وأين موقعه من هذا العراك؟؟
لقد كانت هذه الشعوب المسماة بالعربية، نكرة في تاريخ الإنسانية، ليست في صدر ولا ورد في الحضارة العالمية، بعيدة كل البعد عن التأثير -ولربما التأثر- في مجريات التاريخ البشري، يصدق فيهم قول شاعرهم:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ……… ولا يستأمرون وهم شهود
فلما جاء الإسلام جعلهم قادة في الخير، وسادة في عمارة الأرض حسا، ببناء المدن، وتخطيط العمران، وإنشاء المصانع، وإبداع الصنائع، وتأسيس مدارس العلم، ومعاهد المعرفة بلا حدود. ومعنى، بنشر قيم الفضيلة، قال الله تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالمنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النحل : 90) وفي الحديث الشريف: “إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق”. وترسيخ مبدأ الكرامة الإنسانية وقال الله عز وجل : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(الإسراء : 70) وحماية الحريات العامة قال الله سبحانه : {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ الَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دفاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(الحج : 40) وتحقيق الأمن في مختلف أوضاعه: النفسي، والمادي، والغذائي.. قال الله عز وجل : {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أولَـئِكَ لَهُمُ الامْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}(الأنعام : 82) وقال سبحانه : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُق اهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَن امَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِيسَ الْمَصِيرُ}(البقرة : 126) وقال عز من قائل : {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}(قريش : 4) ورد الاعتبار للإنسان من حيث كونه إنسانا..
لقد سادت هذه المعاني في المجتمع البشري ردحا من الزمن، حينما كان الإسلام يقود الركب الإنساني، ويصنع الحضارة في أبهى صورها، ولسنا بحاجة إلى إقامة الأدلة ونصب البراهين على ذلك.. فالمدينة المنورة على عهد الخلفاء الراشدين، ودمشق، وبغداد، والقيروان، وفاس، وقرطبة، والقاهرة، أمثلة شاخصة علما وحضارة وعمرانا وأدبا وأخلاقا… على ما نقول.
وليس يصح في الأذهان شيء …….. إذا احتاج النهار إلى دليل
ولكن -وفي غفلة من هذه الأمة، ومكر بائر من أعدائها- ضاعت البوصلة وتاهت الأمة في ظلمات التيارات، وشاعت فيها دعاوي الجاهليات، وانتشرت في ربوعها أنواع من الموبقات، وصار الإسلام عند عقلائها وحكمائها وأهل الرأي والفكر فيها، مكونا -ليس إلا- من المكونات، لثقافتها، وتاريخها، وماضيها و(حاضرها)…. واتفق رأي نخبها الفكرية والسياسية، مع رأي أعدائها، على أن الإسلام الفاعل الواعي المتبصر -إسلام القرآن والسنة، بفهوم ثقات علماء الأمة ومجتهديها- عدو مشترك يجب الحذر منه، والعمل على التخلص ممن يحمله أو يدعو إليه؛ وقد ظهر ذلك جليا بلا مواربة ولا مداراة من خلال خطب السادة: حسني مبارك، وزين العابدين بنعلي، وعلي عبد الله صالح، ومعمر القذافي. فما من أحد منهم إلا وخوف الملأ من سادة العالم اليوم، وليس أولئك سوى زعماء الغرب -بمعناه السياسي- من هذا الإسلام، ممثلا في (الإخوان المسلمين) و(القاعدة) و(الإمامة) كما يحرص على التذكير بخطورة العودة إليها رئيس اليمن، ذلك موقف حكام العرب، يتزلفون إلى أعداء الأمة بالتخويف من هذا الإسلام الذي صنع هذه الأمة وجعلها شيئا مذكورا إلى الأبد.
أما هذه الشعوب المضطربة، فإن موقفها من الإسلام غامض جدا، فأنت عندما تراها في الساحات وهي تصلي، تحسبها وقد بلغت من الرشد كماله، ومن التدين الصحيح تمامه، ولكنك حينما تتأمل في هتافاتها، وتتفحص شعاراتها، وتمعن النظر في مطالبها، تخالها أمة لا تعرف الإسلام ولا يعرفها، فهي لا تفتأ تتحدث عن الدولة “المدنية الحديثة” ولا تسأم عن ترداد حاجتها الملحة إلى “الديمقراطية”، أما الإسلام فليس له ذكر في مطالب هذه الشعوب، ولا له حضور في أهدافها ومراميها، وإذا ما ذكر فإنما يذكر تبعا لا أصلا، ومجتزأ لا تاما، ومع ذلك يذكر باحتشام وخجل وتردد، ولو كان ذلك من باب السياسة الشرعية، واستحضار المعادلات الدولية، والعمل وفق استراتيجية محكمة، لقلنا: إن في الأمر مجالا للاجتهاد، ومساحة واسعة لتبادل الرأي، وفسحة للاختلاف، ولكن الأمر -فيما يبدو- ليس كذلك، وإنما هو ناتج عن جملة أمور، لعل أبرزها:
1- جهل خطير بالإسلام، بفعل تأثير المدرسة الحديثة التي اجتهدت اجتهادا منقطع النظير، في ترسيخ مفهوم العلمانية فكرا وممارسة في المجتمع الإسلامي.
2- خوف من طرح المشروع الإسلامي بقوة، لأن أعداء هذا المشروع هم الماسكون بزمام الأمور في العالم اليوم، والمتحكمون في دواليب الصراع، بتحكمهم في مصادر القوة: الاقتصادية والعسكرية.. ولذلك نجد الإسلاميين (المتنورين) يحرصون حرصا عظيما على الربط بين المرجعية الإسلامية والخيار الديمقراطي، وهذا الربط مؤشر على حاجة أحد النظامين للآخر! وذلك يؤدي إلى أحد أمرين خطيرين:
أحدهما: عجز الإسلام عن تدبير شؤون العباد، في المعاش والمعاد، وقصوره عن إمداد الأمة بالوسائل، مثل ما أمدها بالغايات، وهذا مناف لحقائق الشرع، ومضاد لمقاصد القرآن الكريم، الذي جاء هدى للناس في الوسيلة والغاية..
ثانيهما: قصور الديمقراطية عن تحقيق تلك المصالح، وعجزها عن الاستجابة للمطالب الروحية والنفسية و-حتى- الاجتماعية لبني الإنسان، وذلك حق لا مرية فيه، وواقع لا جدال بشأنه. فلماذا يكبل بها الإسلام -إذن- ويشاب بها صفاؤه، {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون}.
3- تزعم هذه الحركات الاحتجاجية من قبل جماعات لا دينية مثل الجماعات اليسارية، والهيئات الحقوقية، والجمعيات المدنية… وهلم جرا. ومن الغريب جدا، حرص هذه الحركات الاحتجاجية على التذكير حتى الملل، بأنها غير مؤدلجة!! والمعنى: أنها بلا هوية.. وذلك كذب فاضح، ونفاق سافر..
إنه لا يمكن )بحال من الأحوال- أن تخرج هذه المجتمعات من أزمتها الخانقة، ذات الأوجه المتعددة، إلا بالعودة الصادقة إلى الإسلام، والعيش برضا واطمئنان في كنفه، عبادة وشريعة ونظام حياة.. إن هذه الأطاريح التي ينادي بها المتزعمون لهذه الاحتجاجات لا تعدو أن تكون:
1- معادية للدين، ومنافرة للملة، فهي إذن تعاكس الوجود الجمعي لهذه الأمة، وتتنكر لماضيها، وتكفر بحاضرها، وما كان كذلك لا يمكن أن يسهم بصدق في بناء مستقبلها..
2- مسالمة للدين على وفق المنهج الغربي “الديمقراطي” وقد أثبت هذا الغرب فشله في تدبير ملفات عديدة، وأبان عن روح التسلط والجبروت والكبرياء، ولا زال يتعامل مع غيره بعقلية المتغلب المتسلط، فكان ذلك دليلا على فشل منظومته القيمية، وضلال فلسفته في الحكم والاجتماع..
وليس بين هذين الطريقين طريق آخر، غير طريق القرآن، الذي {يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}(الإسراء : 9) و{يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(المائدة : 16) وإنما الموفق من وفقه الله.
كتبه: محمد أبو المجد