مفهوم التواصل في الإسلام


الإسلام في حقيقته صلةٌ تواصليةٌ أبديةٌ مُمنهجةٌ بين الخالق عز وجل وخلقه في هذا الكون، صلةٌ تواصلية بين المُبدع الأول وما أَبدع من أرض وسماء وما بينهما.

وما الوحي الإلهي إلا زيادة صلة مميزة بين المولى عز وجل ومَن أعزهم من خلقه في الأرض آدميا كان أو كائنا ما كان صلةُ انعتاق للآدمي من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام…

وقد اعتبر الإسلام صلة المؤمن بأخيه المؤمن عبادة محضة  يجازى عليها، وينال من ربه الدرجات العليا، فسُمي التواصل في الإسلام بصلة الرحم في معناه الإلزامي التعبدي فقال سبحانه : {…والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل…} وقال : {…وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}.

وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الرحم حُجنَة(1) متمسكة بالعرش تَكَلم بلسان ذلق(2) اللهم صلْ من وَصَلني واقطع من قطعني فيقول الله تبارك وتعالى أنا الرحمن الرحيم وإني شققت للرحم من اسمي فمن وصلها وصَلته ومن بتكها(3) بتكته”(4).

والتواصل بالمعنى الاختياري التعبدي له موقعه الشرعي المتميز لا يقل درجة عن الأول، تكشف ذلك سنةُ المصطفى صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة : يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال : أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال : يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي))(5).

وصَفَ المولى عز وجل ذاته العلية بما يوصف به الآدمي من أجل فهم المراد، ومن أجل إدراك المغزى الحقيقي من التواصل وعظمته عند الله عز وجل فقال سبحانه في هذاالحديث القدسي : ((مرضتُ فلم تعدني…)).

إن عيادة المريض عمل جليل في ديننا الحنيف، عمل يرفع درجة المؤمن إلى مستوى الحضرة الإلهية، والمقام الرباني اللذين تتضمنهما نسبة المرض إلى الذات العلية، ثم تصور عيادتها.

ثم إن هذا الحديث يكشف للمؤمن علو مرتبة المريض المحتَسب عند الله عز وجل وما أعد له من جزيل الثواب.

وفي قوله عز وجل ((لوجدتني عنده…)) إشارة صريحة إلى موقع هذا الفعل مــن ديننا الحنيف عيادة المريض أينما وُجد، ومهما كان مرضه، ومن يعلم أنه يجد الله بعنايته وحضرته في موضع ما فإنه لا يتردد في إتيانه بكل ما أوتي من عزم وحزم وإرادة وإخلاص.

وليس التواصل في مجرد زيارة للمريض بل إنه في أساليب متفاوتة المقام في ميزان شرعنا ومعايير ديننا الحنيف، ولذلك انتقل بنا الحديث إلى صور أخرى من صور الصلة والتواصل الفعليين فقال المولى عز وجل : ((…استطعمتك… استسقيتك…)) إشارة منه سبحانه إلى الإحسان للعباد وما ينتظر صاحبه من جزيل الثواب، وخاصة إذا كان يهدف قضاء حوائج الناس وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم : ((أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى اللـه؟ فقال : أحب الناس إلى الله أحسنهم للناس وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على قلب مؤمن))(6).

كما يكشف الحديث موقع التواصل ومكانته في الإسلام بحيث دعا إلى صلة المريض وإن كان مريضا ولو على فراش الموت، إنها دعوة إلى التلاحم والتآزر بين المسلمين فُرادى وجماعات..

تجسيدا لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ((المؤمن للمؤمن كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)).

ومهما تحقق التواصل بين العباد خالصا لله تعالى كان في مقابله من الله تعالى وصل بالجميل وجزيل الثواب، بل إن الله تعالى يجري للعبد الواصل أهله وأحبته وصلا في السماء والأرض.

فقد روى مسلم  بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال أين تريد؟ قال أريد أخا لي في هذه القرية،  قال هل لك عليه من نعمة ترُبها؟(7) قال لا، غير أني أحبه في الله، قال فإني رسول الله إليك إن الله قد أحبك كما أحببته فيه))(8).

المحبة في الله تعالى تواصل من طراز آخر لا يمكن حصوله من كل الناس، لا لشيء إلا لأنه لله خالصٌ، ولوجهه قائمٌ، ولأنه تواصل بين القلوب وتجاوب بين الأحاسيس والوجدان تحقيقا وتجسيدا للإيمان الصادق  ((لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).

والمحبة في الله تعالى ليست مما يمكن تصنعُه ولا اكتسابه بطريق المحاباة أو غيرها لأن الأمر يتطلب تنقيةَ الضمير من الشكوك والأمراض الناتجة عنها، وكذا تطهيرَ القلب من شوائب الحقد والحسد والبغض تجاه عباد الله، ومن تَحصل ذلك كان بإمكانه أن يدعي محبة الآخرين في الله وللـــه.

ومعنى ذلك أن المؤمن ينبغي أن يكون مَخبره تُجاه العباد كمضمَره، وأن يعتقد حسن الظن بالناس دَوما لأنهم على الأقل وعلى أصح تقدير بُنيانُ الله عز وجل، وآية من آيات وجوده تعالى  وعظمته سبحانه، {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.

وسر العبادات المفروضة في الإسلام ما هو إلا تحقيقٌ للتواصل بين الخالق والمخلوق في أبهى صوره.

فكل صلاة من الصلوات الخمس مثلا نداء تواصلي عملي إلى تجديد العهد بين العبد وربه، كماأنه تجديد للنظر والمصافحة بين المؤمنين أنفسهم خمس مرات على الأقل بين اليوم والليلة، نظر بين الإخوة ينتهي عند التصاق قدم بقدم ومنكب بمنكب في وجهة واحدة وبخطاب واحد وحركات بدنية واحدة، ونبضات قلوب خاشعة… ليلهم في ذلك كنهارهم  ذكورهم وإناثهم…

والصلوات الخمس تهيء الجماعة القليلة للتواصل بجماعة أكبر في كل جمعة مرة في كل أسبوع لترقى هذه الصلة إلى مشهد أكبر وأوسع مرتين في العام وذلك يومي العيدين حيث يحصل التواصل في صورة من التجمع أكبر مما هو مشاهد خلال العام.

وفي الصيام تواصل من نوع آخر تجسده ظاهرة الإحسان المتزايدة عبر أيام رمضان المعظم، كما أن الشارع الحكيم أوجب على من انتهك حرمة الصيام بالإفطار عمدا أن يقوم بتحرير عبد كفارةً لما وقع فيه من ذنب، ولايخفى ما في هذه الكفارة من صلة وتواصل عظيمين، وبفضل العتق هذا أزال الإسلام ظاهرة الرق في مجتمع هذه الأمة.

وفي موسم الحج أيضا يجد المؤمن نفسه في مشهد أشبه وأقرب ما يكون إلى مشهد يوم القيامة ولو مرة في العمر، في هيئة ومكان الحضور مما ينبئ بقرب الختام والرحيل، كما ينبئ بدنو هذه الدنياومتعلقاتها.

ذ. عبد الرحمن بوعلي

——————-

1- جاء في لسان العرب لابن منظور : حُجْنة كحُجْنة المِغْزل أَي صِنّارتِه المُعْوجَّة في رأسه التي يُعَلق بها الخيطُ يفتل للغَزْل.

2- ولِسانٌ طَلِقٌ ذَلِقٌ،وطَليقٌ ذَليقٌ، وطُلُقٌ ذُلُقٌ، بضمتينِ، القاموس المحيط للفيروزأبادي 2/487، مادة ” طلق “.

3- البَتْك قطع الشيء من أصله بَتَكه يَبْتِكُه ويَبْتُكه بَتْكاً أي قطعه وبَتَّكه فانْبَتك وتَبَتَّك والبِتْكةُ والبَتْكة القطعة منه والجمع بِتَكٌ ” المصدر نفسه 10/390 “.

4- رواه البزار بإسناد حسن وقال الألباني في كتابه : صحيح الترغيب والترهيب 2/338 : حديث حسن لغيره، رقم الحديث 2531

5- رواه مسلم وصححه الألباني في مشكاة المصابيح 1/345 رقم الحديث 1528.

6- صحيح الترغيب والترهيب  للألباني 2/359 الحديث برقم 2623، قال عنه الألباني : “حديث حسن لغيره”.

7- ألَك نِعْمَةٌ ترُبُّها :  أي تَحْفَظُها وتُراعيها وتُرَبِّيها كما يُرَبِّي الرجل ولده،لسان العرب لابن منظور 1 / 399 مادة  “ربب”. وفي النهاية في غريب الأثر لابن الأثير الجزري نفس المعنى 1 / 227.

8- والحديث في صحيح الترغيب والترهيب للألباني 3/91  برقم 3017.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>