لـماذا إبلـيـس؟


كثيرا ما يتساءل المسلم عن الحكمة من خلق الشيطان.. عن الأهداف البعيدة في علم الله سبحانه، تلك التي دفعت إبليس إلى رفض السجود لآدم.. وتحدّيه.. وإعلانه خصومته الأبدية.. وقسمه على الله أن ليغوينّه وذريته إلى يوم الدين..

والجواب يكمن في ضرورة خلق الصراع، أو التناقض، أو التقابل الثنائي الفعال الذي يحرك الدور البشري في العالم ويدفعه إلى الأمام.. إنه التحدي الذي لابدّ منه لشحذ همة الإنسان.. فمنذ اللحظة الأولى لخلق آدم يجابه الإنسان بقوة الشر المقابلة متمثلة بالشيطان، وكل ما يملك من أساليب يداهم بها الإنسان من الخارج أو يبرز له من الأعماق، من صميم الذات.. يجيئه من مسارب العاطفة والوجدان والنفس، أو يندفع إليه من منافذ الحسّ، أو يستصرخ فيه شهوات الجسد، أو يتقدم إليه محملا ببهرج الدنيا وزينتها.. يجند لقتاله والمروق به عن ساحة الخير كل القوى المادية والمعنوية، وكل الذين يختارون بإرادتهم أن ينتموا إليه أناساً كانوا أم شياطين أم جنا.. ورغم أن أسلحة الشيطان كثيرة، متنوعة، عاتية، إلا أن الإنسان قد وهب إزاءها قوى معادلةً وإمكاناتٍ مكافئة تعطي للصراع الدائم بين الطرفين مدى واسعاً، ممتداً، بحيث أن النصر والغلبة لن تجيء بسرعة، سهلةً، كالضربة الخاطفة لأي منهما. إن هذه (المقابلة) تمثل تحدياً واستفزازاً لابد منهما لتحريك الإنسان، فرداً وجماعة، صوب الأحسن والأمثل، وصقل طاقاتهما لكي يكونا أكثر مقدرةً على المقاومة والصراع، وبالتالي أقدر على مواصلة الصعود في الطريق الموصول بالسماء بدءاً ومنتهى..

حقاً إن الصراع بين الشيطان والإنسان شامل واسع معقد متشابك، إنه تقابل بين الخير والشر على أوسع الجبهات، تقابل لابد منه إذا ما أريد للحياة البشرية أن تتجاوز الكسل إلى النشاط، والفتور إلى التمخض، والسكون إلى الحركة. إنه ابتلاء فعال لن يأخذ تاريخ البشرية بدونه شكله الإيجابي ولا يمضي إلى غاياته المرسومة منذ هبوط آدم إلى يوم الحساب {وكذلك فتنا بعضهم ببعض}(الأنعام : 53) {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}(الأنبياء : 35) {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}(العنكبوت : 3) {ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الاماني}(الحديد : 14) {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون؟}(العنكبوت : 2) {وإن ادري لعله فتنة لكم ومتاع الى حين}(الأنبياء : 111) {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض}(الحج : 53).

ويبقى نداء الله الدائم للبشرية {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان}(الأعراف : 27) محوراً كبيراً يدور عليه الصراع، والحركة، والتقدم إلى أمام أو الرجوع إلى وراء.. ورغم أن الله سبحانه وهب بني آدم قدرات العقل والروح والإرادة والعمل، وعلمهم الأسماء كلها، إلا أنه سبحانه لم يتركهم وحدهم في تجربة صراعهم في الأرض، وظل يمدهم حينا بعد حين، بتعاليم السماء وشرائعها العادلة وصراطها المستقيم الذي يحيل حركة البشرية في العالم إلى حركة متقدمة أبدا في خط متوازن صاعد لا رجوع فيها إلى وراء {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(البقرة : 257) {قال : اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى}(طه : 123- 124) {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}(الأنبياء : 18).

إن أشد ما يرفضه كتاب الله في دعوة البشرية للإفادة من هذا الصراع وتحويله إلى حركة متقدمة صاعدة، هي نزوع بعض الجماعات والزعامات إلى الوراء، ومواقفهم الرجعية التي ترفض أية دعوة تسعى لكي يحتلوا مواقع في الأمام {وإذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون؟}(المائدة : 104) {أفحكم الجاهلية يبغون ومن احسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟}(المائدة : 50) {وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباءنا}(الأعراف : 28) {قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا؟} {قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون}(الشعراء : 74) {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون؟}(البقرة : 170) {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون، وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير الا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون، قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟ قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون}(الزخرف : 21- 23)..

ويبقى الشيطان، خصم بني آدم اللدود، رمزاً أبدياً للصراع بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر.. ويظل تحدّيه للإنسان سبباً لشحذ همة الإنسان وتعميق إيمانه واستئصال مكامن الشر والضعف في نفسه، لكي يقدر على مجابهة الفتنة ويجتاز المعوقات ويزيح الموانع والعقابيل.. متقدماً أبداً إلى الأمام.. تلك هي الحكمة البالغة في خلق الشيطان.. ورفض إبليس السجود لآدم عليه السلام.

أ. د. عماد الدين خليل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>