مقدمة:
الإنسان في هذه الحياة الدنيا يعيش حالة من الصراع والفتن مع أعداء ظاهرين، وآخرين لا يراهم، وربما كان هذا النوع الثاني أشد فتكا من أعدائه المشاهدين، ولذا كان لا بد له من التيقظ والحذر الدائمين ليتخلص من مكرهم وخداعهم وكل شرورهم. وإن أعدى أعداء المرء هي نفسه الأمارة بالسوء التي بين جنبيه لأنها دائمة الحث له على نيل كل مطلوب وتحقيق كل مرغوب والفوز بكل لذة حتى وإن خالفت أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والعبد إذا أطاع نفسه وانقاد لها في غير ما أحله الله كان من الهالكين، أما إن جاهدها وألجمها بلجام الإيمان والتقوى، فإنه يحقق بذلك نصرا على هواه وعلى أعدائه من شياطين الإنس والجن على السواء، ويرقى بذلك إلى منزلة عظيمة من منازل الجهاد.
وإن حُكم إزالة ما بنفس الإنسان من صفات النقص فرض عين-كما نص على ذلك عامة الفقهاء، وذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب- مع العلم أنه لا يمكن إزالتها بالأماني ولا بمجرد الاطلاع على حكم تزكيتها أو قراءة كتب الأخلاق والتزكية فحسب، بل لابد بالإضافة إلى ذلك من مجاهدة وتزكية عملية تكون بالليل والنهار وفي سائر الأوقات والأزمان، ليستطيع الإنسان فطام نزوات نفسه الجامحة وكبح شهواتها العارمة، “فالنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم”. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب)). فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال قوله هذا من بين ما أخبر به، عن حقيقة المجاهد بأنه من جاهد نفسه في طاعة الله سبحانه وتعالى.
فجهاد النفس إذا من أفضل أنواع الجهاد، بل هو أكبر أنواع الجهاد وأكملها، يقول ابن بطال رحمه الله :” جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل، قال تعالى : {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}(النازعات : 40). ويقع بمنع النفس عن المعاصي، والشبهات، والإكثار من الشهوات المباحة لتتوفر لها في الآخرة”. ومن ثم فإن مما ينبغي أن يتعاهده المرء هو مجاهدة نفسه بكل الوسائل والطرق الممكنة، ولا سيما في هذه الأزمان المتأخرة التي استحكمت فيها الشهوات، وارتطمت فيها أمواج الفتن والشبهات، إلى درجة أن المؤمن قد يمسي مؤمنا ويصبح كافرا ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا، وساعتها يصبح الحليم حيرانا لا يدري ماذا يفعل والعياذ بالله، ولن يسلم من هذه الحال إلا من عصمه الله تعالى. لذا على المسلم مجاهدة نفسه باستمرار، ليحقق فوائد المجاهدة ويجني ثمارها، ويفوز بخير الدارين، السعادة في هذه الدنيا والفوز بالجنة في الدار الآخرة.
تعريف المجاهدة ودليلها من الكتاب والسنة :
فما معنى المجاهدة وما دليلها؟
فأما معناها، فيقول العلامة الراغب الأصفهاني رحمه الله في المفردات في مادة ” جهد” الجهد بفتح الجيم والجهد بضمه : الطاقة والمشقة، وقيل : الجَهد بالفتح : المشقة، والجُهد بالضم : الوسع.
وقيل : الجُهد بالضم للإنسان، وقال تعالى: {والذين لا يجدون إلا جهدهم}(التوبة :79). وقال تعالى : {وأقسموا بالله جَهد أيمانهم}(النور : 53)، أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم. والاجتهاد : أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة : يقال : جهدت رأيي وأجهدته : أتعبته بالفكر، والجهاد.
والمجاهدة : كما يقول العلامة الجرجاني صاحب التعريفات ” في اللغة : المحاربة، وفي الشرع : محاربة النفس الأمارة بالسوء بتحميلها ما يشق عليها بما هو مطلوب في الشرع”(1). ويقول الأصفهاني : المجاهدة : استفراغ الوسع في مدافعة العدو، والجهاد ثلاثة أضرب :
- مجاهدة العدو الظاهر.
- ومجاهدة الشيطان.
- ومجاهدة النفس.
وتدخل ثلاثتها من خلال أدلتها من الكتاب والسنة في قوله تعالى : {وجاهدوا في الله حق جهاده}(الحج:78)، وقوله {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله}(التوبة : 41)، وقوله {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله}(الأنفال : 72). وقوله صلى الله عليه وسلم :”والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل”(2). والمجاهدة تكون باليد واللسان، قال صلى الله عليه وسلم ((جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم))(3).
ويقول عز من قائل : {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}(العنكبوت:69) وهي آية مكية، ومن المعلوم أن جهاد الكفار قد شرع في المدينة، الشيء الذي يدل على أن المراد من الجهاد هنا هو جهاد النفس. يقول العلامة المفسر ابن جزي في تفسير هذه الآية يعني : “جهاد النفس” ويقول العلامة المفسر القرطبي في تفسيره لهذه الآية :”قال السدي وغيره : إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال”. ويقول ابن القيم رحمه الله عند وقوفه عند هذه الآية :”علق سبحانه الهداية بالجهاد”(4). مما يفهم منه أنه لا هداية للإنسان إلا بالجهاد.
من خلال ما سبق الحديث عنه في هذا العنصر نخلص إلى أن الجهاد والمجاهدة بمعنى واحد وإن كان بينهما عموم وخصوص فالجهاد لفظ عام والمجاهدة على وزن مفاعلة بمعنى المدافعة فهو لفظ مخصوص يتجه معناه إلى مجموعة الطرق والوسائل التي بها يدافع الإنسان عن نفسه كل ما يثبطها عن طاعة الله ويستجلب لها كل ما يعينها على ذلك، ليرقى الإنسان إلى منزلة المجاهدة والمجاهدين السالكين إلى الله تعالى. ومن ثم يمكن القول : المجاهدة، خلق رباني ومنزلة إيمانية عالية ووسيلة تربوية تتمثل في استفراغ الإنسان وسعه في مدافعة أعدائه ونحوهم، تزكية لنفسه وتقوية لها على فعل الطاعات واجتناب المحرمات، بل هي عبادة لا تنفك عن عباد الله الصادقين المخلصين وملازمة لهم في كل وقت وحين إلى أن يرحلوا من هذه الدنيا الفانية وينتقلوا إلى ربهم في الآخرة الباقية. والمجاهدة على أربعة أضرب كما يقول ابن القيم رحمه الله :”وأفرض الجهاد جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته. ومن ترك الجهاد فإنه من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد”(5).
والمتأمل في هذه الأنواع جميعها يجدها داخلة في مراد الله من الآيات السابقة، إذ الأمر بالجهاد والحث عليه فيها بالنسبة إلى جهاد النفس إرشاد إلى ما يدركه العقل بنفسه، لأن جهاد النفس في الحقيقة عبارة عن فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمشتبهات، والقيام بذلك شكر للمنعم وهو واجب عقلا، وتركها سبب للوقوع في المهالك ونيل العذاب الأليم، ورفع الضرر واجب عقلا، فإن الأوامر في هذه الآيات كأوامر الطاعة والتسليم والاتباع المطلق لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكذا النصوص الحاثة على ذلك من السنة الشريفة كلها إرشادات إلهية ونبوية لها أولويتها ويترتب على موافقتها للشرع سعادة الإنسان وعلى مخالفتها له شقاوته.لذلك فإذا حاسب الإنسان نفسه عندما يراها قد اقترفت معصية كانت متعلقة بتقصير في امتثال المأمورات أو اجتناب المنهيات، فينبغي له أن يعاقبها بالعقوبة المناسبة لكل ذنب ويؤدبها بأنواع التأديبات الشرعية المناسبة فيلزمها بمجموعة من الأوراد وبفنون “من الوظائف جبرا لما فات منه وتداركا لما فرط، فهكذا كان يعمل عمال الله تعالى، فقد عاقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه حين فاتته صلاة العصر في جماعة بأن تصدق بأرض كان يملكها، قيمتها مائتا ألف درهم. وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة، وأخر ذات ليلة صلاة المغرب حتى طلع كوكبان فأعتق رقبتين، كل ذلك مرابطة للنفس ومؤاخذة لها بما فيه نجاتها”(6).
قابلية مجاهدة النفس وتغيير ما بها:
مما لا شك فيه أن النفس الإنسانية فيها من القابلية لتغيير ما قد يلحق بها من نقائص وتغيير ما بها من عادات وأخلاق قبيحة، بفضل ما أودع الله تعالى في أصل خلقتها من خير وصلاح وسلامة فطرة، وإلا لم يكن هناك فائدة ولا غاية من بعث الرسل عبر جميع الأزمنة منذ بعثة سيدنا نوح عليه السلام إلى بعثة خاتم الرسل سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولا ضرورة تبعا لذلك لمن بعدهم من ورثتهم من العلماء العاملين والمرشدين والدعاة المصلحين المخلصين.
وإذا كان كثير من الحيوانات المفترسة وسباع الطيور الشاردة وكثير من البهائم المتوحشة وغيرها قد أمكن ترويضها، وتغيير كثير من صفاتها، فإن الإنسان الذي أكرمه الله تعالى بمزايا كثيرة ومنها على الخصوص ميزةالعقل والتمييز ورد الكلام وخلقه في أحسن تقويم وأحسن صورة، من باب أولى يسهل تغيير حاله حين فساده وإصلاحه ونقله من سيئ إلى حسن ومنه إلى أحسن بتوفيق من الله عز وجل الذي بيده هداية الخلق أجمعين، طبقا لقول الحق جل وعلا : {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة انعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له}(الأنفال : 53).
وليس المقصود بمجاهدة النفس استئصال صفاتها جميعها بل المراد بذلك تقوية وتزكية الموجود وإيجاد المفقود واجتثاث غير المحمود، لتكون وفق النموذج القرآني الفريد، فتحول الصفات المذمومة بالمجاهدة والتزكية إلى صفات حسنة ممدوحة. وأما كيف يتم ذلك فالأمثلة كثيرة.
فالغضب مثلا صفة مذمومة أصلا حينما يغضب الإنسان لنفسه، وأما إذا غضب لله تعالى فعندها يكون الغضب مشروعا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه ساعة أوذي في الله وضرب وأدمي عقبه يوم الطائف، بل دعا لمن آذوه بالهداية والتمس لهم العذر فقال :”اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون”(7) وإنما كان صلى الله عليه وسلم يغضب إذا انتهكت محارم الله أو عطل حد من حدوده، وقد غضب يوم أن جاء أحد صحابته يستشفع في حد من حدود الله لامرأة كانت من أشراف قومها. قال الإمام البخاري رضي الله عنه حدثنا قتيبة، حدثنا ليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا من يكلم فيها رسول الله؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله، فكلمه أسامة فقال : ” أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام خطيبا، ثم قال : إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”(8).
وكذلك صفة الكبر فهي مذمومة حين يتكبر المسلم على إخوانه المسلمين، لكن حينما يتكبر على أعداء الإسلام ومحاربيه في ساحة الوغى فهو تكبر في سبيل الله تعالى غير ممقوت في مثل هذه الأحوال كما اشتهر ذلك في السيرة في غزوة أحد لما جمع الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام وقال لهم من يأخذ هذا السيف بحقه فأخرس القوم فقام أبو دجانة الأنصاري فقال أنا يا رسول الله… ولما أخبره بحقه أخذ السيف وبدأ يتبختر في مشيته في ساحة المعركة أمام الأعداء فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : “إن هذه مشية يبغضها الله ورسوله إلا في مثل هذا الموطن”. وهكذا فإن معظم الصفات المذمومة تغير بالمجاهدة وتحول إلى صفات محمودة.
مراتب مجاهدة النفس :
بقدر اجتهاد الإنسان في مجاهدة نفسه بكل وسائل وطرق المجاهدة التي يجب العمل بها واستفراغ الوسع في تحصيل منافعها بقدر ما تتم ترقيته في منازل السالكين إلى الله تعالى فيبلغ بذلك أعلى المراتب والدرجات فيفوز بحب الله تعالى ورضاه.
قال بعض الأئمة : وجهاد النفس أربع مراتب :
1- حملها على تعلم أمور الدين. فالمطلوب من المسلم التفقه في دينه إلى درجة الحكمة، لمعرفة حكم الله تعالى ورسوله في كل صغيرة ليتقي العمل بهوى نفسه، فإنما التعبد يقوم على العلم قبل العمل ولذا وجب على المسلم ألا يقدم على شيء حتى يعلم حكم الله فيه.
2- حملها على العمل بذلك. إذ أن فائدة العلم هو أن يدفع حامله إلى العمل بما علم، ولا عبرة بعلم لا يعقبه عمل، و((لا خير في علم لا ينتفع به))، بل إذا كان حال المرء العالم لا ينتفع بعلمه الذي يحمله فإن الله يمقته ويبغضه ولا يحبه، يقول الحق جل وعلا : {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}(الصف : 2).
3- حملها على تعليم من لا يعلم. فحامل العلم يتحمل مسؤولية عظيمة، بحيث يجب عليه تلقين العلم ونشره بين الناس، لأن العلم والتعلم سبيل لمعرفة الله والتماس هداه الذي بعث به أنبياءه ورسله جميعا.
4- الدعوة إلى الإيمان بالله وتوحيده، وجهاد من خالف دينه وجحد نعمه. فالدعوة إلى هدى الله تعالى والإيمان به سبيل النجاة، ووسيلة لحماية دينه من تحريف المغالين وانتحال المبطلين، ووسيلة لقطع أطماع الشيطان وأعوانه المتمثلة في غواية الناس وإضلالهم عن سبيل الهدى والحق النازل من عند الله تعالى.
—–
1- التعريفات، ص : 204.
2- أخرجه الترمذي في الزهد عن فضالة بن عبيد الله 4/160. وفي الجهاد برقم 1621. وقال حديث حسن صحيح. وأخرجه أبو داود في الجهاد برقم 2500.
3- أخرجه ابن حبان برقم 1618 وصححه. وصححه النووي في رياض الصالحين، ص: 515. انظر كتاب مفردات القرآن الكريم، ص : 208.
4- الفوائد، ص: 69.
5- الفوائد،ص :69.
6- المستخلص في تزكية الأنفس،ص:129. لسعيد حوى رحمه الله تعالى بتصرف.
7- رواه البخاري في صحيحه في كتاب أحاديث الأنبياء.
8- وأخرجه بقية الجماعة من طرق، عن الليث بن سعد به.
ذ. عبد اللطيف احميد الوغلاني