مفهوم الجمال في الإسلام أوسع وأرحب من الصور والمشاهد المادية و الطبيعية، إنه جواب سؤال الخلق بما هو تفاعل الإنسان مع نفسه ومع الله ومع الكون؛ بواسطة ممارسة أخلاقية ذات أصل ديني.
وهذا مايميز التصور الإسلامي الحضاري عن حضارة الغرب التي تجرد العمل عن الأخلاق فنتج عن هذه الحالة أزمة في القصد تتجلى في تعلق الإرادة بالإنسان عوض الله، وأزمة في الحكمة نتجت عن تجريد العلم عن الأخلاق فاستعملت النعم في إنتاج النقم، فأضحت المتعة النفسية هي تحقيق اللذة بكل أشكالها الطبيعية والشاذة بما أمكن من الوسائل أيا كانت هذه الوسائل.
وأسس الجمال وضوابطه في التصور الإسلامي تنبني على ثلاثة أركان: قصد تعبدي، وحكمة شرعية، ومتعة نفسية(2). وهذه الضوابط تشكل الموازين التفسيرية لكل مظاهر الجمال ولكل ممارسة جمالية، لذلك سنرتكز عليها في تحليلنا لمفهوم الجمال في الكون والمجتمع والفرد.
من معاني الجمال في الإسلام:
يقول القرطبي:”الجمال يكون في الصورة وتركيب الخلقة، ويكون في الأخلاق الباطنة، ويكون في الأفعال. فأما جمال الخِلقة فهو أمر يدركه البصر ويلقيه إلى القلب متلائما، فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك …وأما جمال الأخلاق فكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة، وكظم الغيظ، وإرادة الخير لكل أحد. وأما جمال الأفعال فهو وجودها ملائمة لمصالح الخلق وقاضية لجلب المنافع فيهم وصرف الشر عنهم”(3). إذن فالجمال في الاسلام ذو مفهوم شمولي عام، فهو بهذا التعريف يوجد في القلب والقالب، في الظاهر والباطن، في القلب والمعاملة، في الخِلقة والخُلق وفي الأفعال.
1- جمال الخِلقة:
الإسلام بمفهومه الشامل تستغرق مفاهيمه الحضارية كل جوانب حياة الانسان في أبعادها الدنيوية/والأخروية، والمادية/والروحية، والعقلية/والعاطفية، بشكل متوازن لا طغيان لجانب على آخر.
< ومن الجمال الذي اعتبره الشرع جمال الإنسان؛ مثل جمال الأنبياء، وجمال النساء، عن أنس ابن مالك قال: “كان رسول الله ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير، حسن الجسم”(4). ومما جاء في وصفه أنه كان “يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر”(5). فانظر كيف خلق الباري نبيه المصطفى على هيئة جميلة لأنه حامل الجمال القرآني والهدي الرباني فكيف لا يكون الوعاء جميلا!
وانظر عندما انبهر النسوة في قصة يوسف فقطعن أيدهن لشدة انبهارهن بجمال يوسف عليه السلام: {فلمارأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم}(يوسف:31)!
إن في هذا الجمال البشري النبوي متعة للناس وتأليفاً لهم، فالوسامة تجذب الناس إليها وتحبب صاحبها إليهم، والحكمة الشرعية في ذلك الحسن إرادة الله لعبده أن خلقه في أحسن تقويم ليشكر ربه ويعبده، من ههنا يلزم المسلم أن يكون قصده تعبديا فيما آتاه الله من فضل، كاستثمار هذا الجمال الظاهري في الدعوة إلى الله وجذب عباد الله إلى دين الله، وليس إلى الدنيا وزينتها وملذاتها، ولن يحصل للعبد التوفيق في هذا الاتجاه، إلا بتجميله للباطن الذي هو محل تكليفه الاختياري، أما الأول فقد جمله الباري ابتداء منًّا منه وفضلا.
< ومن الجمال الإنساني جمال النساء؛ فعن أبي هريرة قال:كنت عند النبيفأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله أنظرت إليها؟ قال:لا! قال:فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا”(6)، في هذا الحديث دلالة على جمال النساء، وفيه دلالة على جواز النظر إلى وجه من يريد المسلم تزوجها، لأنه يستدل بالوجه على الجمال. لأن في نظر الرجل لزوجته متعة نفسية تفضي للحكمة الشرعية وهي تحقق السكينة والمودة والرحمة.
والقصد التعبدي هو إعفاف النفس بتصريف الشهوة في موضع طيب حلال. لذلك روي عن رسول الله قوله لعمر بن الخطاب: “ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته”(7). فالمرأة الصالحة معناه الجميلة ظاهرا وباطنا، وهي خير من الكنز،لأنها أنفع له إذا نظر إليها أدخلت عليه الفرح والسرور بجمال صورتها وحسن سيرتها وحصول حفظ الدين بها. وبطاعتها له، وحفظها لأسرار العشرة وحفظها للمال ورعاية الأولاد.
< ومن جمال الخِلقة جمال الحيوان الذي خلقه الله للإنسان على وجه الخدمة والتسخير؛ قال تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تاكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الانفس إن ربكم لرؤوف رحيم}(النحل:5- 7). “يمتن الله على عباده بما خلق لهم من الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، ومما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع، من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون، ومن ألبانها يشربون، ويأكلون من أولادها، وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة، ولهذا قال: “ولكم فيها جمال حين تريحون” وهو وقت رجوعها عشيا من المرعى، فإنها تكون أمده خواصر، وأعظمه ضروعا، وأعلاه أسنمة “وحين تسرحون” أي: غدوة حين تبعثونها إلى المرعى”(8). والقرآن هنا ينبه على الحكمة من خلق الحيوان وهي تحقيق المتعة النفسية للإنسان والمنفعة أيضا ففي الحالة الأولى تجد مثلا أن من أسعد أوقات الفلاح أو المكتسب للحيوانات لحظات يستريح فيها ويسر بالنظر في ثروته الحيوانية وهي ترعى في مرعى خصيب، أو تأكل مما جناه لها من الزرع والعشب الأخضر في إسطبل بالغابة أو بجوار البيت! وهذا من الاستمتاع الذي يثيره جمال صورة الحيوان الذي خلقه الله فأحسن خلقه، فتبارك الله أحسن الخالقين!
وفي الحالة الثانية منافع التغذية واللباس وحمل الأثقال والركوب التي جعل الله الحيوان مسخرا لها لأجل الانسان الدائر في فلك العبادة لله تعالى، مستعملا هذه المخلوقات في سيره إلى الله، تفكرا وشكرا واستمتاعا حلالا، وزكاة وحجا وجهادا.
2- جمال الخُلق:
من جماليات الدين الإسلامي غناه بالأخلاق السامية، بل إننا لا نجانب الصواب بقولنا إن الإسلام خلق جميل؛ كالشجرة الباسقة فيها من الثمار الطيبة الشيء الكثير بل فيها كل ثمر طيب جميل، والأصل واحد وثابت.
أو لم يكن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم وهو الأصل المصدري للإسلام؟! فهذا صبر جميل، وذاك صفح جميل وهكذا دواليك. ذلك أن “التدين إنما هو تمثل قيم الجمال، والتزين بأنوارها في السلوك والوجدان”(9). فلا يصدر عن مسلم قبح في التعبير أو قبح في السلوك. فلنقصر الكلام هنا عن خلقين جميلين من أخلاق الإسلام: الصبر الجميل والصفح الجميل.
< الصبر الجميل: ورد في القرآن الكريم وصف خلق الصبر بالجمال على لسان نبي الله يعقوب عليه السلام: {وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}(يوسف:18).” أي: فسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه، حتى يفرجه الله بعونه ولطفه… وقال مجاهد: الصبر الجميل: الذي لا جزع فيه. وذكر البخاري هاهنا حديث عائشة في الإفك حتى ذكر قولها: والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول يعقوب أبي يوسف عليهما السلام : “فصبر جميل والله المستعان على ماتصفون”(10). {قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم}(يوسف:83).
إن جمالية الصبر في اجتهاد العبد المؤمن في تحمل الهموم والأزمات إلى درجة لا يستشعر معها الناس حاله، ممتثلا أمر ربه {فاصبر صبرا جميلا}(المعارج:5)، فيتوجه بعمق مشاعره وهو المكلوم المجروح إلى الله تعالى شاكيا ضارعا مناجيا {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون}(يوسف : 86).
إنه توجه يشمل مقومات الجمال الثلاثة المتعة النفسية الروحية، والتعبد بالدعاء الخالص، لأجل حكم ومنافع منها مايعلمه العبد ويقصده، ومنها ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
< الصفح الجميل: وهو الخلق المذكور في قوله تعالى: {وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل}(الحجر:85). “أخبر -سبحانه- نبيه بقيام الساعة، وإنها كائنة لا محالة، ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين، في أذاهم وتكذيبهم ماجاءهم به، كما قال تعالى {فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون}(الزخرف:89)”(11).
قال ابن عاشور: “والصفح: العفو… وهو مستعمل هنا في لازمه وهو عدم الحزن والغضب من صنيع أعداء الدين… والجميل: الحسن. والمراد الصفح الكامل”(12).
إنه صفح لله، لصالح الرسالة، عندما يُظمس الداعية في شخصه، أو عندما لا يستجيب له الناس فيهجرونه ويصرفون الناس عنه، فلا يخوض ضدهم صراعا انفعاليا؛ بل يصرف مشاعره في الاتجاه الإيجابي الذي أراده الله وهو بناء الذات وبناء الأتباع؛ لتقوية شوكة الإسلام وتنمية عدد وعدة المسلمين الرساليين، إنها حركة جميلة لا تبتغي ولا تنشد سوى نشر الجمال الإلهي في الكون برغم الأشواك والعقبات. من هنا يأتي فعل الهجر للأعداء لكيلا يستنزف المومنون جهودهم في ردود الأفعال العقيمة، فكان إذن خلق وفعل الهجر الجميل.
3- جمال الفعل:
< الهجر الجميل: اِقرأ قوله سبحانه: {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا}(المزمل:10) “يقول تعالى آمرا رسوله بالصبر على ما يقوله من كذبه من سفهاء قومه، وأن يهجرهم هجرا جميلا، وهو الذي لا عتاب معه”(13).
أما البناء الداخلي للأمة فلابد من المسارعة لاستئصال الفتن الداخلية، والمبادرة لنزع فتيل الصراعات والعداوات البينيةبالحلول السلمية، يقول الله تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مومنين{(الأنفال:1). “أي: اتقوا الله في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه”(14).
فالأصل في الحياة الاجتماعية ربط العلاقات الإيجابية مع الناس من خلال قيم التعاون والبر والتناصر، والسعي للحفاظ على هذه الحالة الإيحابية بالتدخل لدفع ودرء أسباب الشقاق والعدوان، وإصلاح ما فسد بين الإخوان. فإن استعصى الحل بالأسلوب السلمي قد يقتضي الحال الهجر، أو إجراءات أخرى قاسية مثل الطلاق، وهو الذي سماه القرآن بالسراح الجميل.
4- الله جميل يحب الجمال:
فاسع لتكون جميلا، ولتكن رسالتك نشر الجمال في الكون:
عن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر))، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا. قال: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر:بطرالحق وغمط الناس))(15).
فالله سبحانه جميل له الجمال المطلق :جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال، ويحب تجمل العبد المؤمن في الهيأة واللباس، والعفاف عن الناس، من باب {وأما بنعمة ربك فحدث}(الضحى:11)، بلا مبالغة ولا غرور ولاتكبر. ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ((إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتباؤس))(16). وفي الحديث: ((إن الله جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأمور ويكره سفسافها))(17).
فالله سبحانه وتعالى حسن جميل، له الأسماء الحسنى، وكل صفات الجمال والكمال، ومنه ينبعث الجمال، وتدبيره لخلقه كله جمال. وذكرت معالي الأمور في سياق الجمال، وسفسافها بهذا ضدها أي من القبائح المكروهة والأمور الرديئة والحقيرة والأخلاق الفاسدة غير اللائقة بالمسلم.
طريق محبة الله واضح، فإن أردت أن يحبك الله فاشتغل بهدف نبيل ولتكن لك رسالة في هذا الوجود، وركز على عمل صالح ينفعك وينفع الأمة.
ولكي تعطي لأدائك العملي امتدادا وروحا وحياة؛ تخلق بخلق الله الجميل، فالمتحلي بقيمة الجمال الإلهية يستمد الجمالية من ذاك النبع الصافي من الله الحي الباقي، مما يعطي لجمالية المسلم الواعي بهذه القيمة عمقا ورسوخا، وقوة ودواما لا نهاية له، لأنه مرتبط بالجمال الإلهي الباقي وببقائه سيدخل العبد إلى جنة الخلد حيث الخلود الأبدي.
د. محمد الحفظاوي
(1) hafdawi@hotmail.com
——-
1 -باحث مغربي في الفقه ومقاصد الشريعة.
2 -قال فريد الأنصاري:”الجمالية في الاسلام تقوم على أركان ثلاثة، هي:الحكمة والمتعة والعبادة،باجتماعهما جميعا في وعي الإنسان ووجدانه يتكامل المفهوم الكلي للجمالية في الاسلام.”جمالية الدين الصفحة52.
3 -الجامع لأحكام القرآن:9/71،70.
4 -الشمائل المحمدية للترمذي،تحقيق سيد بن عباس الجميلي:29.
5 – الشمائل المحمدية للترمذي،تحقيق سيد بن عباس الجميلي:35.
6 -أخرجه مسلم في صحيحه،كتاب النكاح،باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها.الحديث:2552.
7 -رواه أبوداود في سننه،كتاب الزكاة،باب في حقوق الماال، الحديث رقم:1664.
8 – عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير للشيخ أحمد شاكر:2/328.
9 -جمالية الدين للدكتور فريد الأنصاري:21.
10 – عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير للشيخ أحمد شاكر:2/252.
11 -عمدة التفسير:2/323.
12 -التحريروالتنوير:7/77.
13 -عمدة النفسير:3/526.
14 -عمدة التفسير:2/86.
15 -رواه مسلم في صحيحه،كتاب الإيمان،باب تحريم الكبر وبيانه:حديث رقم167.
16 -أخرجه الألباني في صحيح الجامع وقال حديث صحيح.
17 -أخرجه الطبراني عن سهل بن سعد.