افتتاحية – مزيدا من الجهد والطاقة لمعالجة جميع أشكال الإعاقة


عمل جليل يثير الفرحة والبهجة لدى العقلاء والنابهين والمثقفين وكذا لدى فئات عريضة من المجتمعات الإسلامية والعربية هو نتاج العناية والرعاية والتقدير الذي أصبح يلقاه المعاقون من ذوي العاهات والاحتياجات الخاصة من المسؤولين والحكومات ومؤسساتها الصحية والاجتماعية والثقافية بما تقدمه هذه الحكومات من دعوم وتشجيع للجمعيات التي تؤسسها وجوه من أهل الفضل والخير يُساندهم في ذلك المحسنون بتبرعاتهم من أجل المشاركة كل بما يراه أولى برعاية أصناف المعاقين والمحتاجين والاهتمام بهم.

وقد انخرط بلدنا الذي توافر فيه أهل الصلاح والفضل وإسداء المعروف منذ القديم في هذه الجهود المبذولة لرعاية المعاقين والعمل على إدماجهم في الحياة العامة وجعلهم يُحسون بالراحة والأمان وأن مجتمعهم لم يرفضهم ولم يَنْظر إليهم على أنهم مجرّد عالة على المجتمع، بل تُقام لهم المهرجانات والحفلات والمسابقات وتُقدم لهم الجوائز ويُصفق لهم ويُمكنون من الاستفادة من التقنيات الحديثة كالأعضاء الاصطناعية والكراسي المتحركة وتعليم لغة الإشارة للصم.

ويخصص المغرب يوما سنويا للاحتفال بالمعاقين هو 30 مارس الذي هو يوم عيد وطني للشخص المعاق وهم مُمكّنون من المواطنة والحقوق السياسية ومن حقهم في الدّمج الاجتماعي بالمساهمة في المجتمع وفي جميع مجالات الحياة كلها، ومع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية قد اتسعت العناية بالشخص المعاق.

وهذه العناية الفائقة التي أصبح يحظى بها جمهور المعاقين هي استجابة لمجموعة من التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة حيث أطلقت عامها العالمي للمعاقين سنة 1981م. وقد وافقت في 13 دجنبر 2006م بصورة رسمية على اتفاقية حقوق المعاقين كان من جملة ما ذكر فيها حقهم في التعليم والتوظيف والحياة الثقافية وحقهم في التملك. ووافقت اليونسكو على لغة الإشارة ليتم استخدامها في تعليم الأطفال والشباب الصم. وأوصت  أن يعامل المعاقون معاملة غيرهم حتى في مجال التنافس الرياضي بأن تُنظم لهم المباريات فكانت لهم دورة للألعاب الأولمبية للمعاقين صيف 2008م.

وهذه العناية الأممية كانت نتيجة حتمية لما يتعرض له البشر في العصر الحديث من الاصابات العميقة في أجسادهم وعقولهم ونفسياتهم لأن عدد سكان العالم من العاجزين والمعاقين يعد كبيراً جداً. فالحروب والنزاعات الدموية تُخلف كثيرا من الضحايا ليس في الأرواح فقط وإنما في الأجساد التي وإن نجت من الموت ولكنها لا تنجو من شظايا القنابل المدمّرة ومن انفجار الألغام الأرضية، ففي أفغانستان أفقدت الحرب الحالية أكثر من 80 ألف شخص أطرافا من أجسادهم، ناهيك عن العراق وفلسطين والبوسنة وما يتجدد ويتزايد في مناطق أخرى من العالم العربي في هذه الأيام. وكذلك ما تخلفه حوادث السير في مختلف بقاع المعمور وما يُصاب به المنكوبون في الفياضانات والزلازل والفتن. وأصبح الإنسان معرضا باستمرار لأن يُشارك المعاقين ليس بتعاطفه معهم وإنما بالعضوية بينهم، وأصبح مفهوم الإنسان السليم هو : “السليم البنية مؤقتا”.

وليست هذه العناية بالمعاقين في إطلاقها جديدة على المسلمين عامة وعلى المغاربة المشهورين بشهامتهم وعزتهم وكرمهم ومحبتهم للخير خاصة ذلك بأن المسلمين في تاريخهم لم يُهملوا من كان يعيش بينهم من المعاقين ولم يهدروا كرامتهم ولم يُشرّدوهم ويقتلوهم ويُدخلوهم السجون أحيانا كما فعلت النازية، وإنما كان مجتمعهم يحميهم وكانت أسرهم تعتني بهم وترعاهم ويُحرص على إدماجهم في المجتمع بتعليمهم العلم وبتعليمهم بعض الصنائع التي تتناسب والعاهة التي بهم. فكثير من العُميان في تاريخ الإسلام قد اشتهروا بين العلماء والأدباء بالتأليف والإبداع، وأكتفي بذكر أبي العلاء المعري عند الأقدمين كان شاعرا وناقدا وعالما محيطا بثقافة عصره، وعُرف بذكائه وفطنته وبملحه الساخرة. وبطه حسين عند المعاصرين كان عالما وأديبا ومثقفا عصريا وصل إلى مرتبة الوزارة، وكان أيضا في العُميان فنانون في الغناء والسماع. وكان للصم لغتهم وهي تقوم على الإشارة. وكان الـمُقعدون يشتغلون في الصنائع. وكان أغلب المعاقين يتزوجون ولهم أولاد ولهم ممتلكاتهم الخاصة ويرثون حقوقهم في أقربائهم. وكان تُخصص للمعاقين عقليا ونفسيا بيمارستانات خاصة تُستعمل فيها وسائل عدة لعلاجهم منها إحضار جوق يُغني لهم طرب الآلة تُشارك عملية الوقف بالإنفاق عليها. بل إن بعض الحيوانات كانت تلقى من عناية المجتمع الاسلامي ما يحميها ويصونها فقد كان للمحتسب الحق في معاقبة من لا يعتني من الحمالين ببغلته أو حماره خصوصا إذا أرهقهما بحمل أكثر مما يطيقانه وكان هناك في فاس وقف مُخصص للعناية باللقلاق وعلاج جروحه وكسوره.

إنها لجهود محمودة يُشكر كل من يُسهم فيها لتكريم المعاقين وإيجاد المناخ الإنساني والاجتماعي والاقتصادي الذي يصون شخصيتهم ويحفظ كرامتهم.

ولكن هذه العناية بالمعاقين يجب أن توازيها وتواكبها عناية أكبر بالإنسان السليم للمحافظة على سلامته حتى لا يُصاب بالإعاقة. والملحوظ أن هناك حركة مباركة في حرب الطرق التي ينتج عن حوادثها ضحايا كثيرون يموت من يموت ويُصاب كثير بعاهات مزمنة.

والدولة محاولة منها للتقليص جهد الإمكان من الحوادث الفتاكة قد قامت بوضع قانون للسير فيه صرامة وشدة في العقوبات المفروضة على المخالفين، إلا أن الذي ينبغي أن يُفكر فيه بصفة أكيدة ولازمة أن شرائح كثيرة من أبناء المجتمع فيهم الكبار وأغلبهم من اليافعين والشباب يتعرضون داخل وطنهم وبلادهم إلى أنواع من المكر والكيد والإساءة والإفساد والابتزاز والجر بهم نحو الانحراف الأخلاقي والتمزق الاجتماعي والضعف العقلي والقلق النفسي والانهيار العصبي وتحطيم ذواتهم وشخصياتهم وإبعادهم عن التحلي بفضائل دينهم والاستمساك بقيمه النبيلة ومبادئه السامية في بناء شخصيتهم عقلا وجسما وسلوكا وتعاملا مع إخوانهم المسلمين. يُصيبهم كل هذا من أناس هُم من ذوي جلدتهم وأبناء وطنهم وربما من بعض أقربائهم. هؤلاء الذين لا يهمهم إلا جمع الأموال الطائلة من أي وجه كان وبأي أسلوب من أساليب الإغواء والإغراء. قد علمهم دينهم أن هناك خطوطا حمراء لا ينبغي تجاوزها وتخطيها ومع ذلك يُزين لهم الشيطان الخوض في الحرام فيما يؤذي العقول ويضر بالأجسام ويُصيبها بالانهيار ويفتك بالأعراض وينشر الفساد ويجني على نساء جنايات تُسيء إلى وضعيتهم الاجتماعية والنفسية ويزداد الوضع عليهن سوءاً بولادات غير شرعية.

كل هؤلاء الذين ترميهم ظروف الحياة الصعبة في أيدي أولئك الذين يُعتبرون في نظر الدين وفي نظر العقلاء من الناس مُجرمين، يُصابون بأنواع من الإعاقة، منهم من يُصاب في عقله ومنهم من يُصاب في جسمه ونفسه ومنهم من يُصاب في عرضه. أليست الفتاة البكر عندما تفض بكارتها بصفة غير شرعية، تُطعن في شرفها وفي نفسها وتوصم هي وأمها وأسرتها بالعار وتدخل ضمن ذوي الاحتياجات الخاصة (هم الأشخاص الذين يُعانون من إعاقة تعليمية أو جسدية أو نفسية أو عقلية بشكل دائم أو مؤقت) أليس ما أصابها إعاقة في الصميم وانتهاكا لمقومات نفسيتها وشرفها، إلا إذا كانت هي وأسرتها ممن خرجوا عن دينهم وعن أخلاق مجتمعهم في الإباء والشرف وبدؤوا يتربون على أخلاق الأفلام الخليعة الساقطة ويرضون ويرتاحون لحالتهم التي لا يرضى عنها الله ولا عموم الناس عنها.

إن أي بلد مسلم لم يستطع أن يحمي أبناءه ومواطنيه ويحفظ أطفاله وشبابه ممن يُفسدون عقولهم ويُهددون مستقبلهم بالفشل والضياع ونفوسهم بالعجز والكسل ويتركهم عُرضة لأصحاب الأهواء والمصالح وجُمّاع الأموال من الحرام على حساب القيم والمبادئ والمرتكزات الأساسية، من الذين يُقرّبون الخمور والمُخدرات بأصنافها من التجمعات السكنية ويُسهلون تعاطي الفساد ويُشجعون عليه بإقامة دور تقليدية وعصرية له إضافة إلى الفشل في التسيير والتدبير في مجالات الحياة العامة وإلى الاعتماد الكلي على التبعية لدول أخرى إليها يُرجع في الأمور الهامة ومنها تُؤخد كل دعوة إلى الإصلاح دون مراعاة الخصوصية القائمة على الثوابت التاريخية والمبادئ الدينية لهو بلد له نصيب واسع ومظاهر وأوجه متعددة من العاهات والأمراض المزمنة التي تجعل منه بلدا مُعاقا في ذاته وشخصه وكيانه يسير في طريق الانهيار، معرض لظهور الفتن والكوارث والانقسامات والنزاعات والتفرقة والتمزيق والفساد العام. مثل هذا البلد لا يشفيه من الإعاقة ولا يُنجيه منها إلا أن يعود بصدق وعزيمة إلى طاعة ربه وإلى الاستمساك بكتابه وسنة نبيه  {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}(محمد : 39).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>