جمالية العلوم الإسلامية تَتَمَثَّلُ في كونها علوما شاملة ومتكاملة؛ أي أننا نَجِدُ فيها المجال التخصصي الدقيق الذي يضبط جوانب العلم؛ من خلال اهتمامه بالقواعد والشروط والأركان(…)، ونَجِدُ فيها المجال الأخلاقي الرقيق المُتَعَلِّقِ بالجانب التَّرْبَوي الذي يَسْتَفِيدُ منه الإنسان في حياته العامة، وهكذا ينتفع منها كل من احتك بها.
وبِخُصُوص هذا الموضوع سَنَتَطَرَّقُ فيه لبعض الإشارات التربوية التي نستفيدها من اطلاعنا على أبجديات علم (مصطلح الحديث)؛ هذا العلم الذي انطلق فيه المحدِّثون في رسم أصولهم المنهجية للتَّأكد من نسبة الأخبار إلى الرسول من الإشارات الموجودة في (القرآن والسنة)؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}(الحجرات : 6)، وقول الرسول : >من حدث عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين<(رواه مسلم).
وعليه؛ حَرِيٌّ بنا أن نستفيد من هذا المنهج الرصين في تمحيص ونقد الأخبار المتداولة بيننا أثناء تواصلنا حتى لا نقع في مفاسدها.
أولا : منهج النظر في إسناد الخبر:
يُقْصَدُ بالإسناد “رواة الحديث الذين نقلوه إلينا”، ومن أصوله المنهجية العامة؛ مايلي:
> النظر في مصداقية ناقل الخبر : بِمِقْدَارِ صِدْقِ الشخص المُخْبِر يُصَدَّقُ الخَبَر، والمعيار الذي وضعه أهل الصناعة لتحديد مصداقية ناقل الخبر هو النظر في مدى استفاضة سُمْعَتِهِ من حيث (العدالة والضبط)، و إذا اختل هذان الشرطان في ناقل الخبر، أولم نستطع تحديدهما فيه؛ فإنه لا ينبغي أن نصدق قوله إن كان خبرا أو نطبقه إن كان طلبا.
> النظر في صيغة نقل الخبر : والمقصود منها أن نلمس من تلك الصيغة احتمال السَّمَاعِ أو الرؤية للحَدَثِ المُخْبَرِ به، والأمر الذي يجب الحذر منه هو ما يعرف ب(التدليس) أي؛”أن يروي المُخْبِرُ عمن لَقِِيَهُ ما لم يسمعه من قوله أو لم يره من فعله؛ بلفظ يُوهم أنَّهُ سمعه أو أنه رآه مثل : قال، أو فعل، أو عن فلان”(1)، وخَبَرُ الشخص المعروف بالتدليس غير مقبول؛ إلا أن يكون ثِقَةً ويُصرح بأخذه مباشرة عمن روى عنه، فيقول: سمعت فلانا يقول(2).
> النظر في اتصال سند الخبر : السَّنَدُ المُتَّصِلُ أو الموصول هو الذي يَلْتَقِي فيه كل رَاوٍ بمن روى عنه3، فإذا انقطع اتصال إسناد الخبر كأن يروي أحد خبرًا عن شخص لم يثبت بينهما ملاقاة في مكان؛ فإن هذا الخبر يبقى مَحَلَّ نظر، و لا يرتقي إلى مرتبة القَبُول.
> النظر في طُرُقِ نقل الخبر : المقصود بالطَّرِيقِ عند المحدثين هو عَدَدُ رواة الحديث، وهذا أمر مهم في مجال تناقل الأخبار، والأهم منه بالنسبة لَنَا هو التفريق بين (الخبر المشهور) وبين (الخبر المشتهر) على ألسن الناس من الأحاديث، فقد يكون هذا الأخير من الأخبار التي لا أصل لها؛ أي لا يُعْرَفُ من رواها، ومثاله مما هو مُشْتَهِرٌ على الألسن ولم يقله الرسول “حديث (خير الأسماء ما حِّمد وعُبِّد)، وحديث (حب الوطن من الإيمان) وهو حديث مكذوب، أيضا حديث (يوم صومكم يوم نحركم) وهو لا أصل له، لأجل هذا كُلِّه يَنْبَغِي علينا عدم الاغترار بما هو شائع بين الناس، والمُطالبة بمعرفة رواتها قبل أن نحكم على هذا النوع من الأخبار بالقَبول أو الرَّد.
ثانيا : منهج دراسة مَتْنِ الخبر:
المَتْنُ هو”الكلام الذي ينتهي إليه الإسناد”؛ وما وقع البحث في السَّنَدِ إلاَّ لأَجْلِ التَّحَقُّقِ من صِحَّةِ نِسْبَةِ المَتْنِ لقائله، و دراسة المتون ونقدها هي أعلى درجات التعامل مع الحديث، ونحن في هاته النُّبْذَة سَنَتَعَرَّفُ على بعض القواعد الأساسية التي ينبغي الانتباه إليها أثناء التعامل مع مضامين متون الأخبار:
> الانتباه لسبب ورود الخبر: سبب الورود هو الحادثة أو القصة(…) التي ذُكِرَ بِسَبَبِهَا الخبر، وفائدة معرفة سبب الورود تتمثل في كونه يجعلنا نُحَدِّدُ المُرَاد من الخبر بدقة من غير أن نُخضِع كلماته المُجْمَلَةِ أو المُطْلَقَةِ للتأويلات الشخصية؛ بسبب فَصْلِ الخَبَرِ عن سِيَاقِهِ الذي قِيلَ فيه.
> الانتباه لرواية الخبر بالمعنى : الأصل في الأخبار أن تُروى بألفاظها؛ إلا أن قلة الضَّبْطِ تجعل ناقل الخبر يلجأ إلى الرواية بالمعنى؛ أي أنه ينقل الحديث بلفظ غير لفظ المروي عنه، وهذا ما يجعل الخبر قد يَخْضَعُ لفهم ناقله؛ لذا يُشترط فيمن يَنْقُلُ الحديث بالمعنى عِدَّةَ شُروط؛ منها: أن يكون معروفا بالفهم الجيد لِلُغَةِ المُخَاطِبِ، وأن يأتي بما يُشْعِرُ أنه يروي الخبر بالمعنى؛كأن يقول عقبه: أو نحوه أو كما قال(…).
> الانتباه للتصحيف والتحريف: التصحيف والتحريف هما “تغيير حرف أو حروف في الكلمة مع بقاء الخط في السياق؛ فإذا كان ذلك بالنسبة للنُّقَطِ فإنَّهُ يسمى تَصْحِيفاً، وإذا كان بالنسبة إلى الشكل فيُسمَّى تحريفاً”4، ومن المعلوم أن تغير مباني الكلمات يَنْتُجُ عنه تغير معانيها، وبما أنه لم يسلم أحد من هذين الأمرين؛ كان لزاما على السامع منَّا الانتباه لأحرف الكلمات وحركات الحروف، والتأكد منها حتى لا نُغَيِّرَ المعنى المقصود منها في الخبر.
أخيرا؛ أقول: ليس المقصود هو المُشَاحَّةُ في كلام الناس من الدعوة للاستفادة من منهج المحدثين، وإنما القصد هو تكوين الشخصية الفطِنَةُ؛ العلمية؛ المستقلة في رأيها؛ التي تستطيع أن تُمَيِّزَ الصالح من الطالح من حديث الناس، والأهم من ذلك أن هذا المنهج يُحَقِّقُ لنا الوقاية من الوقوع في كثير من المحذورات الشرعية مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولاً}(الإسراء : 36)، وقول الرسول : >كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع<(رواه مسلم).
——–
1- يُنظر (مصطلح الحديث) للشيخ العثيمين؛ ص: 19.
2- نفسه؛ ص: 20.
3- نفسه؛ ص: 16.
4- نفسه؛ ص : 118.
ذ. طارق زوكاغ