غير خاف على أحد سواء كان من المثقفين أو من غيرهم أن إمام المسجد يمارس دورا مهما في ترشيد الحياة العامة للناس من خلال مجموعة من التدخلات والتي هي أصلا من طبيعة عمله ومسؤوليته تجاه مجتمعه .
فالإمام هو الشخص الذي يراه المجتمع في موقع يقتضي الكمال نوعا ما -إن صح التعبير- وقلة الخطأ والزلل وانعدام الضلال بسبب ملازمة الشريعة له وملازمته لها وطول باعه فيها وانقضاء عمره في دراستها، لذلك تكون تصرفاته مبنية على ضوابط شرعية وعقلية رصينة لا يتطرق إليها شيء مما يمكن أن يتطرق لمن هو بعيد عن الشريعة وأحكامها أو لم تتوفر له ظروف الملازمة والدراسة، فالإمام يأخذ شرعيته وصوابه واتزانه من شرعية الشريعة واتزانها وجريان الحق فيها.
هذا الأمر الذي يشكل دافعا قويا ومبررا كافيا لمجموع الناس بالتماس العون والمساعدة والإرشاد فيما يمكن أن يختلط عليهم في أمورهم الدينية والدنيوية على حد سواء من هذا الشخص الذي يحتل في منظورهم وطبيعة فكرهم مرتبة تمكنه من أن يكون هو الكفيل بهذه المهمة بامتياز دون منازع، فهو يعمل بشكل عام على تمتين الصلات الاجتماعية والروحية والوطنية والإحسانية والدينية بين الناس ومحاربة كل ما من شأنه أن يرخي هذه الصلات أو يقطعها. وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عند وقوع الملمات أن يلزموا الإمام ويأخذوا برأيه فقد قال لحذيفة بن اليمان : “تلزم جماعة المسلمين وإمامهم” ولو أن الإمام هنا يمكن أن يقصد به الخليفة إلا أنه يدخل فيه كذلك حتى إمام المسجد وذلك لنيابته عن الخليفة.
والأسرة جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع الذي ينشط فيه الإمام ، بل هي الخلية التي تستدعي الأولوية عنده للمعالجة عند حدوث أي أمر يتطلب التدخل الإيجابي والسريع حتى يبقى المجتمع متلاحم الأطراف متوحد الأجزاء غيرقابل للتفرقة أو الانحراف أو التعرض لدواعي التشتت الأسري الخطير.
ودورالإمام في ترشيد الأسرة دور خطير للغاية يتطلب التدخل السريع والفعال والإيجابي في ذات الوقت، لأنه لا يمكن أن ينتج عن تدخل الإمام في ما يقع للأسرة من طلاق أو شقاق أو أمر سلبي كتشتت الأسرة واختلافها الزائد وإنما يجب أن يقع عند تدخله ما من شأنه تدعيم لحمة الأسرة وحفظ بيضتها، لذلك فالنتيجة معلومة مسبقا قبل تدخل الإمام وهي النتيجة الإيجابية المفضية إلى رضى كافة أفراد الأسرة وتمتين العلاقة بينهم سواء كانوا فروعا أو أصولا.
والأسرة في وقتنا الحالي تتعرض لظروف قاهرة قد تأتي على الأخضر واليابس سواء كانت ظروفا اقتصادية أو اجتماعية أو دينية أو حتى نَسَبِيَّة تتطلب التدخل الإيجابي لفك العُقد وإصلاح الشقوق المحتمل ظهورها عند حدوث تلك الملمات، وفي الحقيقة لو كان الإمام حاضرا في كل ما يقع للأسرة وما يروج داخلها مع احترام الأمور الخاصة لها طبعا لما وصلت أسرة إلى المحكمة من أجل فك النزاع وكم من قضايا هائلة حُلت مشاكلها عند أبواب المساجد ولم تصل إلى أبواب المحاكم.
ولعل ما يروج في ذهني الآن مما يمكن أن يقوم به الإمام من دور هام في ترشيد الأسرة أختصره في النقاط التالية علها تكون مفيدة إن شاء الله :
- الصلح : والصلح أمر مهم في سيرورة الحياة العامة فهو أمر شائع وجائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، وكثيرا ما تتعرض الأسرة إلى عواصف قوية بين الزوج والزوجة قد تذهب استقرار الأوضاع وطمأنينتها، فيكون تدخل إمام المسجد الذي تكون الأسرة في حيزه الترابي أمرا ضروريا لا رجوع عنه كي يلين الأمور ويهدأ النفوس ويعمل على إرجاع الاستقرار إلى الأسرة وسحب كل ما من شأنه أن يكهرب أو يشحن الجو العام للأسرة سواء كانت الأسرة صغيرة أو كبيرة، لذلك كان شيوخنا في مثل هذه المواضع لاينطقون بكلمة حتى يقرؤوا ما تيسر من القرآن الكريم لتطمأن القلوب وتهدأ النفوس. فعند وقوع أي أمر يخل باستقرار الأسرة يدفع أعضاءها سواء كانوا فروعا أو أصولا إلى طلب المساعدة والتدخل من أجل فض النزاع وإرجاع المياه إلى مجاريها خصوصا إذا كانت الأسرة لا تحبذ قاعات المحكمة كفيصل بينهم، وكم من مرة تدخلت من أجل الصلح فيظهر لي أن سبب المشكلة هو أمر بسيط جدا لا يرقى إلى أن يكون مثار خلاف بين الزوجة وزوجها على أن يكون قضية تتطلب شهورا للفصل فيها عند المحاكم.
فالصلح أمر ضروري لا مفر منه عند حدوث أي طارئ للأسرة وإن كنت أختلف مع بعض الحقوقين الذين يرونه بديلا لتسوية النزاعات فهو أمر أصلي وضروري عند وقوع المشاكل ولا يمكن اعتباره بديلا وإلا كان غيره أنفع منه كما هو معروف في البدائل وليس هناك أحسن وأنفع من الصلح وقد قال ربي عز وجل {والصلح خير}.
والصلح الذي أقصده هنا ليس هو الصلح الذي يقصده الحقوقيون والذي يأتي عند حدوث الطلاق أو توقعه، وإنما أقصد تلك الزيارة التي يقوم بها إمام المسجد لأسرة جرى بين أعضائها خلاف في مسألة ما، لتسوية الأوضاع وتهدئة النفوس وتبيان الحق ورده لصاحبه وإظهار الخطأ وتنبيه مرتكبه فيخرج الإمام من المنزل وقد أصلح ما كان فاسدا قبل مجيئه. فالإمام لا يتدخل فقط فيما يقع بين الزوجين بل قد يتدخل حتى فيما يقع بين الأبناء ووالديهم أو الأبناء فيما بينهم. فالإمام هنا يرشد الأسرة إلى السكينة والهدوء ومعالجة المشاكل بالتي هي أحسن.
والجدير بالذكر هنا أن تدخل الإمام للصلح لا يكون فقط بطلب من الأسرة بل يمكن للإمام زيارة الأسرة التي تمر بظروف صعبة وعرض مساعدته لها من تلقاء نفسه دون انتظاره طلب التدخل من الأسرة وهذا ما وجدنا عليه شيوخنا الكرام .
- الاستشارة: وقد تمر بالأسرة أمور من غير الملمات لكنها من المشتبهات والتي يراد معرفة رأي الشرع فيها فيكون اللجوء إلى الإمام أمرا لا مرد له حتى يبين قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ويجلي ما يمكن أن يكون خافيا على الأسرة من تفصيلات أو ما يغيب عن نظرهم من نتائج ودواعي تسقط فيها الأسرة لو لم تستشر مع الإمام فيها . فالإمام هنا يرشد الأسرة لما يمكن أن يخفى أو يغيب عليها في اختيار الأمور المعروضة عليها كاشتباه الأسرة فيما يمكن أن يكون ضروريا أو تكميليا في التربية أو الإنشاء أو الاجتماع فيكون الإمام مرشدا ودالا على الأفضل والأحسن والأولى. فدور الإمام أن يشير على الأسرة بما فيه الخير والصلاح والنفع العميم وهو من حقوق الأسرة عليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :”وإذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه” ومن حق المسلم على المسلم أن يشير عليه بخير فما بالك بحق الأسرة على الإمام وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله “من استشار أخاه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه”.
- المناسبات: وقد تمر بالأسرة مناسبات متعددة سواء كانت مناسبات فرح أو حزن فيدعى الإمام لها فلا يعدم منه فيها إرشادا لأفراد الأسرة وتبين الشرع لهم فيها كحضور التعزية وعقد الإمام لكلمة فيها يبين ما على الأسرة فعله من تمسك بالدين والسنة وترك للمحرمات والبدع وما يغضب الله ،وتليين القلوب والتذكير بقضاء الله وقدره وبما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المواضع والظروف، والكلمة في مثل هذه المناسبات أبلغ في التأثير وأنفع للتذكير لارتباط المقال بالمقام ومن الواجب على الإمام فيها ذكر عمل النبي صلى الله عليه وسلم فيها حتى ترى الأسرة الحال التي هي عليه وحال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان عليها فإما تصحح الأسرة ما كان فيها من عيب أو تفرح وتلتزم بما كان فيها خير وسنة ، وكذلك في مناسبات الفرح كالعرس والعقيقة ومناسبات النجاح يرشد فيها الإمام الأسرة لما فيه الخير والصلاح.
ذ. امحمد رحماني