الخطبة الأولى : الحمد لله ….
أيها المسلمون، نعمةٌ جليلة ومِنَّةٌ كبيرة، هي مَطْلَبُ كلِّ أمة، وغايةُ كلِّ دولة، من أجلها جُنِّدت الجنود، ورُصِدت الأموال، وفي سبيلها قامت الصراعات والحروب، إنها نعمة الأمن وما أدراكم ما نعمة الأمن؟!
ماذا نقصد بالأمن؟ الأمن في الواقع يعني السلامة والاطمئنان والاستقرار، وضده الخطورة والخوف والاضطراب.. والأمن ضمانة سلامة البلاد من كل ما يسيء إليها ويؤذيها ويعرضها للخطر سواء كان من فرد أو من أفراد..
والمقصود بمقومات الأمن تلك الركائز والدعائم التي عليها يُبنى الأمن وبها يستقيم، فالأمن لا يمكن أن يوجد إلا بوجودها ولا ويدوم إلا بدوامها..
الأمنُ، عبادَ الله، مِنَّة إلهيَّة، ونفحة ربَّانية، امتنَّ الله به على عباده في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه؛ كما قال سبحانه وتعالى:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}(قريش: 3- 4)، ويقول جلَّ وعلا:{وَاذْكُرُوا إِذَ اَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الاَرْضِ تَخَافُونَ أَن يّتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(الأنفال: 26). وقد كانت أوَّل دعوةٍ لأبينا الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام حينما قال:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ اهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}(البقرة: 126)، فقدَّم إبراهيم عليه السلام نعمة الأمن على نعمة الرزق؛ لأنه لا يهنأ عيشٌ بلا أمان..
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((مَن أصبَح آمِنًا في سِربه، معافًى في جسدِه، عنده قوتُ يومِه – فكأنَّما حِيزَت له الدنيا بحذافيرها))(رواه الترمذي وابن ماجه)، ولمَّا دخل عليه الصلاة والسلام مكَّة عامَ الفتح، منَح أهلها أعظمَ ما تتُوق إليه نفوسُهم وهو الأمن فقال: ((مَن دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمِن، ومَن ألقَى السلاحَ فهو آمِن، ومَن دخَل المسجدَ فهو آمِن))(رواه مسلم).
عباد الله، في ظلال الأمن تُعمَر المساجدُ وتُقام الصلوات، وتُحفَظ الأعراض والأموال، وتُؤمَّن السبل، وتُطَبَّق شريعة الله تعالى، وتُنشَر الدعوة إلى الخير.
في رحاب الأمن يسود الاطمئنان، ويعمُّ الخير والرخاء، وتستقيم حياة بني الإنسان، ويَسُود العلم وتستمرُّ عجلة التنمية، ويزدهر الإنتاج، ولو انفرط عقد الأمن ساعةً لرأيت كيف تعمُّ الفوضى، وتتعطَّل المصالح، ويكثر الهرج، ويحكم اللصوص وقطَّاع الطرق، وتأمَّل فيمَن حولك من البلاد ستجد الواقع ناطقًا وعلى هذه الحقيقة شاهدًا، {وَلَوْلاَ دفاع اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(الحج: 40).
إن أمرًا هذا شأنه، ونعمةً هذا أثرها، لجديرةٌ بأن نبذل في سبيلها كلَّ رخيص ونفيس، وأن تُستثمَرَ الطاقات وتُسخَّرَ الجهودُ والإمكانات في سبيل الحِفَاظ عليها وتعزيزها، ومن هنا لا بُدَّ أن ندرك أن نعمة الأمن لا تُوجَد إلا بوجود مقوِّماتها، ولا تدوم إلا بدوام أسبابها.
وتوحيد رب العالمين وإفراده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له من أعظم ما يحقِّقُ الأمنَ التامَّ ويوطِّده ويحفَظه، والشرك أعظم الظلم؛ قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(لقمان: 13)، وهو من أسباب مَحْقِ البركات واندثار الخيرات. فالأمن والإيمان قرينان، فلا يتحقَّق الأمن إلا بالإيمان؛ قال تعالى:{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ اولَئِكَ لَهُمُ الامْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}(الأنعام: 82)، وصدق من قال:
إِذَا الإِيمَـانُ ضَاعَ فَلاَ أَمَـانٌ
وَلاَ دُنْيَا لِمَنْ لَمْ يُحْيِ دِينَا
وَمَنْ رَضِيَ الحَيَاةَ بِغَيْرِ دِينٍ
فَقَدْ جَعَلَ الفَنَاءَ لَهَا قَرِينـا
وإذا تخلَّى أبناء المجتمع عن دينهم وكفروا نعمة ربهم، أحاطت بهمُ المخاوف، وانتشرت بينهم الجرائم، وانهدم جدار الأمن وادلهمَّ ظلام الخوف والقلق، وهذه هي سنَّة الله التي لا تتخلَّف في خلقه؛ قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ياتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}(النحل: 112).
نَعَم! عباد الله:
> الأمن التامُّ هو في توحيد الله تعالى وطاعته، ولزوم شكره وذكره وحسن عبادته؛ قال سبحانه:{الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب}(الرعد: 28)، وحتى نحافظ على الأمن في البلاد؛ فلا بُدَّ من تربية الأمَّة على طاعة الله تعالى والاستقامة على شرعه والبعد عن معصيته؛ ذلكم أن النفوسَ المطيعةَ لا تحتاج إلى رقابة القانون وسلطة الدولة لكي تردعَها عن الجرائم والموبقات؛ لأن رقابةَ الله والوازعَ الإيماني في قلب المؤمن يَقِظٌ لا يغادره في جميع الأحوال.
> الأمن التام هو بالمحافظة والتمسُّك بالكتابِ والسنَّة، والعناية بالعلم الشرعي؛ فالعلم عصمةٌ من الفتن، والتعليم الشرعيُّ أساسٌ في رسوخ الأمن والاطمئنان، فإذا ظهر العلمُ في بلدٍ أو محلَّة قلَّ الشرُّ في أهلها، وإذا خفي العلمُ هناك ظهَر الشرُّ والفساد..
> الأمن التام هو أن نحافظ على القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهي صِمام أمان يمنع الشرور والآفات عن المجتمعات، وبه يحصل العز والتمكين : {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الارْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}(الحج: 40- 41).
> ونحافظ على الأمن عباد الله، بالعدل في كلِّ جوانب الحياة، ومتى تحقِّق العدل دامَ الأمن بإذن الله تعالى، فقد كتب أحد الولاة إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله: “إن مدينتنا قد تهدَّمت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نَرُمُّها به، فعل”، فكتب إليه عمر: “إذا قرأت كتابي هذا فحصِّنها بالعدل، ونَقِّ طريقها من الظلم؛ فإنه عمارتُها”.. فالعدالة الاجتماعية، وتحقيق كرامة الفرد في المجتمع، وإعطاء لكل ذي حق حقه، كل ذلك كفيل بصيانة الأمن وتحقيق الأمان داخل المجتمع..
> كما نحافظ على الأمن بتهيئة المحاضِن التربوية للشباب والناشئة، ودعم كلِّ المؤسَّسات العاملة في تربية الناشئة من حِلَق تعليم القرآن الكريم وعلومه، والنوادي الصيفية، والمخيَّمات التربوية، والجمعيات الخيرية التي تعمل وفق المرجعية الإسلامية للبلاد، ووفق القوانين الداعمة للحريات العامة. فالتربية البانية للشباب، والتنمية المستمرة لمواهبه، والتطوير العلمي لمهاراته في أفق استثمارها وتوظيفها لمصلحة نهضة البلاد وصلاح العباد، كفيل بتخريج شباب صالح لهذه الأمة بعيد عن كل ما من شأنه أن يزعزع استقرار البلاد والعباد..
> كما أننا نحافظ على الأمن بمعالجة أسباب انحراف الأبناء، بسبب ما تعيشه بعض البيوت من فقر، أو نزاعات وشقاق، وما ينتج عنها من حالات طلاق وتشرُّد وشقاق.
> ونحافظ على الأمن والاستقرار، حينما يقوم العلماء والخطباء والوعاظ والدعاة والمربُّون بدورهم في احتواء الشباب ومعالجة الأحداث وتقريب وجهات النظر وتهدئة الانفعالات، وفتح قنوات الحوار الهادف الهادئ مع الشباب؛ لترشيد حماسهم، وتوجيه انفعالهم، وتسخير طاقاتهم في خدمة الأمَّة، لا في هدمها.
أيها المسلمون، إن الأمن الوطني لا يتحقَّق إلا بوجود الأمن الفكري بحماية الأجيال الناشئة، وشباب الأمة، وتحصين أفكارهم من التيارات المشبوهة التي تسمِّم العقول، وتحرف السلوك؛ من دعوات التغريب، ودعايات الفساد والإفساد؛ كالتطاول على مقدسات الأمة، والدعوة إلى مذاهب فكرية منحرفة…
معشرَ شباب المسلمين:
> إن من الحكمة الواجبة أن نتجنَّب العاطفة الهوجاء، وردود الأفعال المتهوِّرة، متسلِّحين بالعلم والحلم والصبر، مشتغلين ببناء النفس ودعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، وألاَّ نقحم أنفسنا في أمورٍ لا تُحمَد عقباها، ولا تعلم شرعيتها وجدواها. ولا بُدَّ أن يحذر الشاب الغيور من تعجُّل الأمور، أو الحكم على المواقف والأحداث دون الرجوع إلى العلماء الراسخين الصادقين.. وتقنية الإنترنت معاشر المسلمين سلاح ذو حدَّين، وخطره على الخُلق والدين عظيمٌ، فواجب استعماله الاستعمال الأمثل، بَيْدَ أنها ليست مصدرًا أصيلاً لتلقِّي العلم والفتاوى والحكم على الوقائع..
أيها المسلمون :
> لوحة الأمن الجميلة التي نعيشها، نرسمها نحن بأيدينا، ونصنعها بأنفسنا -بعد توفيق ربنا- حينما نستقيم على ديننا، ونؤدِّي صلاتنا، ونبرُّ والدينا، ونصل رحمنا، ونوقِّر كبيرنا، ونرحم ضعيفنا، ونعرف لعالمنا حقَّه..
> لوحة الأمن الجميلة نشترك جميعًا في صنعها حينما نتعامَل مع الواقع بميزان الشرع والعقل، بعيدًا عن الأهواء والعواطف والرغبات الشخصية..
> لوحة الأمن نصنعها حينما نحفظ حدود الله تعالى، ونتَّقي محارم الله، ونشكر نعم الله؛ {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمُ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(إبراهيم:7).
> لوحة الأمن الجميلة نصنعها حينما تؤدى حقوق العباد، ويتم القضاء على مصادر الفساد، ويستقيم الجميع حاكمين ومحكومين على شريعة القول السديد، والعمل بمسؤولية على تحقيق المصلحة العامة للبلاد..
ومن هنا لا بُدَّ أن ندرك أن نعمة الأمن لا تُوجَد إلا بوجود مقوِّماتها، ولا تدوم إلا بدوام أسبابها..
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام.. بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
< الخطبة الثانية : الحمدُ لله …
أمَّا بعد، عبادَ الله، المعاصي والأمنُ لا يجتمِعان أبدًا، فالذنوب مُزيلةٌ للنِّعَم، وبها تحُلُّ النِّقَم؛ قال سبحانه:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً انْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الأنفال:53)، وما نزل بلاءٌ إلاَّ بذنبٍ، ولا رُفِع إلا بتوبة
فالطاعةُ هي حِصن الله الأعظمُ الذي مَن دخله كان من الآمِنين، وبالخوف منَ الله تعالى ومراقبتِه يتحقَّق الأمن والأمان، فهابيل امتَنع من قتلِ قابيل لخوفِه من ربِّه جلَّ وعلا:{مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}(المائدة: 28).
عبادَ الله، خذوا بأسباب الأمن والأمان وحافظوا عليها؛ قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الارْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(النور: 55).
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وولِّ علينا خيارنا، واكفنا شرارَنا، واجعل ولايتنا فيمَن خافك واتَّقاك يارب العالمين. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل الطاعة، ويُذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.
ذ محمد بوهو Al_qalsadi2006@hotmail.com