إذا كان الهجر الجميل هو الذي يقتصر فيه صاحبه على حقيقة الهجر وهو ترك المخالطة فلا يقرنها بجفاء أو أذى، فإننا في حياتنا اليومية نرى كثيرا من الناس يتجنبون الهجر الجميل، فيقابلون الشتائم بمثلها، والسب بما هو أقبح منه، والسيئة بما هو أسوأ منها، إضافة إلى الإعراض والاستكبار والقطيعة، وذلك ليس من سلوك المسلم المؤمن في شيء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ((المسلم من سلم الناس من يده ولسانه))(1).
والهجر ضد الوصل.
يقال هجره يهجره هجرا وهجرانا : إذا صرمه، وقاطعه، وتركه، وأعرض عنه وأغفله، وفي الحديث الشريف ((لا هجرة بعد ثلاث))(2) يريد صلى الله عليه وسلم بالهجر الذي هو ضد الوصل، ويعني به ما يكون بين الناس من عتب وموجدة أو تقصير يقع في حقوق العشرة.
والصحبة دون ما كان من ذلك في جانب الدين، فإن هجرة أهل الأهواء والبدع هجرة دائمة على مر الأوقات، ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق، ومن ذلك ما جاء في الحديث الشريف ((ومن الناس من لا يذكر الله إلا مهاجرا))(3).
يريد صلى الله عليه وسلم هجران القلب وترك الإخلاص في الذكر فإن قلبه مهاجر للسانه غير مواصل له.
ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه ((… ولا يسمعون القرآن إلا هجرا))، يريد الترك له والإعراض عنه، ومنه أيضا قوله تعالى {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا}(الفرقان : 30) والمهجور : المتروك والمفارق، والمراد ترك الاعتناء به وسماعه، والإعراض عنه، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من تعلم القرآن وعلق مصحفا لم يتعهده ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب العالمين، عبدك هذا اتخذني مهجورا، اقض بيني وبينه))(5) وهذا الذي ذكرنا من الأحاديث يفيد الهجر المذموم، فهجر القرآن، والإعراض عن تلاوته وتدبره، أمر غير محمود، والقلب غير الموصول باللسان في الدعاء والذكر هو كذلك من الهجر المذموم، ومثله التفريق بين القول والفعل فيكون كل منهما مهاجرا للآخر، وليس هذا من مقصود الحديث وإنما وقع التنبيه عليه بحكم السياق ودلالة اللفظ.
إن الهجر الجميل منزع خلقي حميد، يحتاجه الناس في مخالطتهم لبعضهم، ولما كان الهجر ينشأ عن بغض المهجور أو كراهية أعماله، معرضا لأن يتعلق به أذى من سب أو ضرب أو نحو ذلك فاحتاج الهجر إلى ما يزكيه ويمكن من الالتزام به.
إن الهجر الجميل يحتاج إلى الصبر بعد الذكر.
والصبر الوصية من الله لكل رسول من رسله، ولعباده المؤمنين برسله.
وما يمكن أن يقوم أحد من الناس في حياته الاجتماعية، إلا والصبر زاده وعتاده، إلا والصبر جنته وسلاحه، وملجؤه وملاذه، فالصبر جهاد، جهاد مع النفس وشهواتها وانحرافها، وضعفها وشرودها، وعجلتها وقنوطها.
والذكر قرين الصبر، فهما يتلازمان في تزويد القلب بالإيمان والتثبت واليقين وقد قرن الله تعالى بين الهجر الجميل والصبر في خطابه للنبي صلى الله عليه وسلم {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا}(المزمل : 10) والخطاب وإن كان للنبي إلا أنه يتسع ليشمل الأمة في علاقتها وارتباطها ومخالطتها لبعضها.
فالصبر يكون على ما يغيظ ويخنق، وما يثير ويقلق.
والهجر الجميل هو الذي لا هُجر فيه، ولا مشادة ولا فسوق ولا عصيان ولا جدال، وقبل الأمر بالصبر والهجر الجميل جاء قوله تعالى في نفس السورة {واذكر اسم ربك وتبتل اليه تبتيلا} ليحض على ذكر الله ليس بمجرد اللسان ولكن بالقلب الحاضر مع اللسان الذاكر، أو ليحض على الصلاة ذاتها أو قراءة القرآن، وكل ذكر هو خير معين على الهجر الجميل، لأنه هو الحسن في نوعه، إنه مقابلة السيئة بالحسنة، والرد الجميل على من أساء القول، إنه العفو عن الناس وكظم الغيظ مما يقولون ويفعلون، وقد أمر الله رسوله بهجر المشركين هجرا جميلا، أي يهجرهم ولا يزيد على هجرهم سبا أو شتما أو انتقاما، وهذا الهجر هو إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن مكافأتهم بمثل ما يقولون مما أشار إليه سبحانه في قوله {واصبر على ما يقولون}. ومهمة العبادة في هذا الموضوع كما نبه عليها القرآن محصورة في كيفيتين :
كيفية تعاملهم مع الله، وكيفية تعاملهم مع الخلق.
والكيفية الأولى ذكرها الله تعالى في مطلع سورة المزمل فقال : بعد بسم الله الرحمن الرحيم {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه، أو انقص منه قليلا، او زد عليه ورتل القرآن ترتيلا، إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا، إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا، إن لك في النهار سبحا طويلا، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو، فاتخذه وكيلا} وهذا ما يتعلق بكيفية التعامل مع الله، إنه وإن كان الخطاب للنبيصلى الله عليه وسلم إلا أنه يتسع لأمته في بعض منه.
وأما الكيفية الثانية فقد جمع سبحانه في قوله {واهجرهم هجرا جميلا} كل ما يحتاج إليه الخلق في علاقتهم وارتباطاتهم.
وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مخالطا للناس أو مجانبا عنهم.
فإن خالطهم فلا بد له من المصابرة على إيذائهم لأنهم سيسعون إلى النيل منه مهما احتاط منهم، فإنه إن كان يطمع في الخير والراحة من طرفهم لم يجد منهم ما يثلج صدره ويشرح قلبه، فيقع في الغموم والأحزان. فثبت أنه من أراد مخالطة الخلق لا بد له من الصبر الكثير على ما ينالون منه. وأما إن ترك المخالطة فذلك هو الهجر الجميل، والهجر الجميل هو أن يجانبهم بقلبه وهواه، ويخالفهم في الأفعال مع المداراة والإقصاء وترك مكافأة السيئة بمثلها، ونظيره :
قوله تعالى : {فأعرض عنهم وعظهم}(النساء : 63) وقوله تعالى : {وأعرض عن الجاهلين}(الأعراف : 199)
وقوله تعالى : {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا}(النجم : 29)
فالإعراض فيه معنى من الهجر الجميل، إنه يبقي بين الناس علاقة مودة وليس قطيعة أو صرما، فكثير من الناس نضحك في وجودههم وقلوبنا تنفر منهم، وفي كلام أبي الدرداء “إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم” علقه البخاري في باب المداراة. وأخرج الحاكم في مستدركه “ليس بحكيم من لا يعاشر بالمعروف من لا بد له في معاشرته بد، حتى يجعل الله له من ذلك مخرجا”. وفي الأثر : “الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير ممن لا يخالطهم”(6).
——
1- سنن الترمذي أبوا ب صفة القيامة : 4/71
2- كنز العمال : 10/28588
3- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير : 5/245
4- المصدر السابق
5- تفسير القرطبي 13/27 الكشاف 3/90
6- سنن الترمذي أبواب صفة جهنم : 4/73
د. محمد علوي بنصر