شكلت المنطقة العربية والتي هي جزء من العالم الإسلامي منطقة اهتمام كبير من قبل صناع القرار الدولي في الدوائر الغربية منذ القديم (مرحلة الحروب الصليبية في القدس ومرحلة التطهير العرقي ومحاكم التفتيش في الأندلس)، وبرزت في المراحل الحديثة والمعاصرة في صور أخرى غلب عليها شعارات براقة من قبيل: التحضير والإصلاح والتعاون الاقتصادي وبرامج التنمية والمساعدات الإنسانية ودعم الديمقراطية و حماية حقوق الإنسان.
وتمثل هذا الاهتمام بالمنطقة في جانب من الجوانب بمراقبة حركة التغير والتغيير ومحاولة السيطرة عليها وتوجيه بوصلتها في اتجاه المحافظة على هيمنة الغرب على المنطقة العربية والإسلامية.
أولا: في طبيعة التغيير في العالم العربي
يمكن أن نميز في التغيير الذي شهدته منطقة العالم العربي منذ القرن الثامن عشر -على الأقل إلى يومنا هذا- بين ما يلي:
< تغييرٌ قادته النخبة المثقفة والجماهير (من تحت)؛ فمنذ فجر النهضة العربية وجدنا موقف الشارع العربي العام وخاصة طليعته العالمة تقود التغيير وتتطلع إلى الإصلاح، وتاريخ مصر خير مثال على ذلك وقد أنجبت نماذج رائدة في المطالبة بالإصلاحات وقيادتها شعبيا (ثورة أحمد عرابي 1882، وحركة التغيير التي قادتها الحركات الإسلامية في مصر وسوريا ولبنان وتونس والجزائر في النصف الثاني من القرن العشرين) كما شهدت مناطق عدة من العالم الإسلامي ثورات تغييرية كالتي حدثت في الجزائر (حركة الأمير عبد القادر وحركة جمعية علماء المسلمين)، وثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي وغيره من علماء المغرب وقبائله ومدنه ضد الاستعمار.
< تغييرٌ قادته النخبة السياسية الحاكمة (من فوق)؛ وهو نوع من الإصلاح صدر من إرادة صانع القرار المحلي في المنطقة العربية سواء أكان هذا الحاكم مدنيا أم عسكريا كالذي دعا إليه كثير من الحكام العرب منذ فجر النهضة (إصلاحات الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، إصلاحات الدولة المصرية مع محمد علي وأحفاده من بعده، إصلاحات الدولة المغربية، إصلاحات تونس…)
< تغييرٌ فرضته الدول الغربية بالقوة المباشرة أو بالقوة الخفية غير المباشرة (من فوق الفوق)؛ وهذا النوع من “الإصلاح” قاده الغرب بأحد طريقين أو بهما معا،
> الأول مباشر عن طريق الغزو الاستعماري العسكري ابتداء من الحروب الصليبية في الشرق الإسلامي وفي الغرب الإسلامي (إجلاء المسلمين من الأندلس) إلى استعمار البلدان الإسلامية وفرض سياسة الحماية والانتداب في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وانتهاء بالتدخل العسكري المباشر في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين.
> الثاني غير مباشر: وتمثل في أشكال وصور متعددة منها:
الغزو الثقافي ودعم الحراك الثقافي الذي يتبنى مشروع التغريب في العالم العربي سواء أكان في صورة أفكار ونظريات فلسفية وأدبية أو سياسية أو اجتماعية (حركات نسوية وأحزاب يسارية ويمينية)، أو كان في صورة اتفاقيات اقتصادية وثقافية وعسكرية غرضها تثبيت المشروع الغربي في كيان الأمة ونسيجها في جزئياته وكلياته، وهنا يفهم السياق الذي ظهرت فيه الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية العلمانية والإلحادية والحركات القومية وحركات المجتمع المدني ذات التوجه الغربي.
ولقد كان الإعلام بكل أنواعه ومعداته وفي مختلف تطوراته هو القنطرة التي مرت عليها موجة التغيير الناعمة بجميع صورها.
والخلاصة هنا أن حركات التغيير في العالم العربي تداخل فيها ما هو أفقي بما هو عمودي، وما هو داخلي بما هو خارجي، وأصبح من الصعب تصنيفه ضمن بعد واحد لتعقده وتشابكه، إلا أنه ورغم ذلك يمكن أن نستجلي بعض الثوابت المتحكمة في الموقف الدولي من عمليات الإصلاح والتغيير في العالم العربي:
ثانيا: في ثوابت الموقف الدولي من حركات الإصلاح والتغيير
الثابت الأول عقدي ديني: والقصد منه تجفيف كل منابع الثقافة الإسلامية ومحوها أو التقليل من درجة تأثيرها في توجيه الفرد والمجتمع، وفي هذا السياق يفهم لماذا حرص الغرب منذ تواجهه الأول مع العالم الإسلامي في القرون الوسطى إلى الآن على محاربة الدين الإسلامي ومحو الشريعة الإسلامية وتغريب أبناء الأمة وإحلال الثقافة الغربية محل الثقافة الإسلامية في القضاء والسياسة والاجتماع والتعليم والأسرة والاقتصاد. ويفهم من هذا الثابت أيضا تجميد الغرب لكل تعاملاته مع التوجهات الأصيلة في الأمة وعدم الاعتراف بها وعرقلة مشاريعها في الوصول إلى مراكز القرار والتوجيه ولو اختارت الشعوب ذلك، بل إن الموقف الغربي غالبا ما كان يقوم على معاداة هذه التوجهات وتأليب الرأي المحلي والدولي عليها، كما يفهم في هذا السياق لماذا عمل الغرب -بموازاة ذلك- على دعم البعثات الثقافية والتنصير ودعم إقامة أحزاب علمانية أو إلحادية ونشر الفكر الغربي بكل تلويناته في أبناء الأمة وتنصيبهم في مراكز القرار وتدبير الشأن العام.
الثابت الثاني إدامة التفوق الغربي وتوسيع دائرة هيمنته: قام تصور ساسة الغرب وصانعي القرار السياسي فيه على ثابت إدامة التفوق الغربي واعتبر هذا الأمر واحدا من الثوابت العليا التي تحكم الغرب عموما في علاقته بدول العالم الأخرى خاصة منها دول وبلدان العالم العربي، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف جاءت متغيرات كثيرة قد يخفى وجهها الحقيقي، منها:
- منع كل ما من شأنه أن يمنح القوة المادية أو المعنوية للأمة كالمنع من حق اكتساب العلوم المادية وأسرار التكنولوجيا بكل أنواعها ومحاربة كل من يسعى لامتلاك أسرار التقنية والعلم وتصنيفه ضمن دائرة الإرهاب.
- تهجير الكفاءات العلمية في هذا المجال ومنع عودتها إلى بلدانها بالقوة أو بالإغراء. وملاحقة العلماء في بلدانهم واغتيالهم.
- فرض قوانين دولية اقتصادية وعسكرية مجحفة تخدم مصالح الغرب دون غيره وتؤدي إلى استدامة نهبه لخيرات ومقدرات الشعوب الإسلامية والعربية والتحكم في مصادر الثروة وطرق توزيعها واستثمارها.
- فرض أجندة الإصلاح والتنمية بما يناسب مصالح الغرب اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وتعليميا من قبل المؤسسات الدولية العاملة في هذا المجال: المؤسسات المالية والحقوقية والأمنية.
- اختلاق بعض الأزمات وافتعالها(فيم أصبح يعرف بسياسة الفوضى الخلاقة) واتهام العالم العربي والإسلامي بالتورط فيه وتحميله وزر ذلك وتكاليفه بقصد ابتزاز الحكام والشعوب (مشكلة التطرف والإرهاب)، وبقصد القضاء على كل من تشتم فيه رائحة الخير في الأمة لأن ريح الحرب على الإرهاب لم تكن تميز بين بريء ومتهم حتى انكشف للعالم زيف تلك الدعاوى وأغراضها الذميمة في تجفيف منابع القوة والأصالة في الأمة.
- افتعال الصراعات والنزاعات المحلية وتسليح أطراف النزاع وتأجيج حالات الاقتتال المتبادل وقيادة عمليات المفاوضات الشاقة والعسيرة التي تنتهي دوما بنتائج فاشلة غرضها إدامة الأزمة لإلهاء شعوب المنطقة بالصراع الداخلي وتفويت مصلحة الشعوب في الوحدة والقوة والكرامة.
- التحالف مع أنظمة حكم استبدادية وإجرامية بمقايسس الغرب نفسه ولكنها ما دامت تحافظ على مصالح الغرب وتقوم بالوكالة عنه في حرب من يعتقد أنهم خصومه الحقيقيين وملاحقة كل من يرفض هذه الهيمنة الغربية ويرفض وكلاءه، فكان حكام العرب أنكى بالعرب وأفتك من الغرب ذاته!!
- مغازلة حركات التغيير والإصلاح ذات التوجه الأصيل ومداهنتها وقطع الطريق أمامها سرا وعلنا، وكلما لاح للغرب أن تغييرا سيحصل في بلد ما وتقوده توجهات إسلامية أصيلة إلا ويتحرك الغرب بكل آلاته ومعداته الدبلوماسية والمخابراتية والعسكرية ومؤسساته الاقتصادية والثقافية .. لتطويق الأمر. وما رأيناه مؤخرا في التغييرات التي شهدتها تونس ومصر حيث تكثفت التحركات الدولية والأمريكية لسرقة الثورة ومنع تحقيق أهدافها بالشكل الذي يخدم تطلعات الشعوب في المنطقة، وعقدت مجموعة من الاتصالات والمشاورات العسكرية والأمنية والمخابراتية والمدنية على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي (لقاء مع قادة المجلس العسكري الانتقالي ومع شخصيات مدنية وهيئات سياسية من أحزاب متعددة حتى مع قادة ثورة الشباب المصرية)، وفي مقابل ذلك حصل تلكؤ في مساندة الثورة الليبية رغم خطورتها الدموية ربما بسبب التخوف من توجهها الديني الإسلامي والتخوف من ذلك، ونفس الهاجس ميز الموقف من المطالبات التغييرية في اليمن والعراق والأردن ..، حيث يسود التخوف في الدوائر الغربية من أن تؤدي التغييرات في هذه الدول إلى رسم معالم ترتيبات سياسية في المنطقة يمكن أن تؤثر على مصالح الغرب في المنطقة وتهدد مصالح الكيان الصهيوني ويعجل بنهايته وهو الجرثومة التي زرعها الغرب في المنطقة ليكون التهديد الحقيقي لاستقرار وأمن الشعوب العربية والعائق الدائم لكل تقدم وتسوية حقيقية في المنطقة.
وبناء على ما سبق يمكن القول إن الموقف الدولي والغربي منه بالأساس سواء في مرحلة الحرب الباردة أو في مرحلة القطبية الواحدة الحالية حكمته ثوابت لا تخرج عن ثابت الاستقواء الغربي على شعوب العالم الضعيفة – في إرادتها وإدارتها وإن كانت قوية بطاقاتها البشرية والطبيعية- ولما كان العالم العربي مركز القوة المادية والمعنوية وحامل مشروع حضاري وعالمي فقد توجهت عناية الغرب إليه تقوده سياسة ثابتة ولها متغيرات مرحلية وأجندات متنوعة ومختلفة في الظاهر عبر الزمان والمكان لكنها تحتكم إلى الاستراتيجية الكلية الثابتة التي تقوم على دعامتين متكاملتين هما إضعاف العالم العربي وحرمانه من كل مقوماته ومقدراته التي تشكل عناصر قوته المادية والمعنوية، وفي المقابل الحفاظ على قوة الغرب ومصالحه المادية والثقافية بكل السبل والوسائل وهاتان الدعامتان الثابتان هما اللذان حكما موقف الغرب من حركات التغيير في المنطقة الأصيلة منها والدخيلة والهجينة.
د. الطيب الوزاني