استعمالات اللغة العربية الجديدة إلى أين؟ 12- الاستعمالات الخاطئة تفقد اللغة قيمتها التعبيرية: من لا يتقن لغة أمته ويستعملها يَضلّ ويُضلّ


عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلا لحن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أرشدوا أخاكم فقد ضلّ”.  فوسم الرسول صلى الله عليه وسلم اللحن بالضلال والميل عن الطريق الصحيح.

ويقول طه حسين : “إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا معرفة لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب بل في رجولتهم نقص كبير، ومهين أيضا” عن كتاب : “العتاب لمن تكلم بغير لغة الكتاب”.

أوردنا هذين النصين أعلاه، أولهما حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وثانيهما لأديب عربي مشهور، ومضمن الحديث كما هو واضح أن اللحن بمعنى الخطأ في اللغة بأي مستوى من مستويات الخطأ يعتبر ضلالا، وميلا عن الطريق الصحيح.

وقد لا يدرك بعض الناس خطورة هذا الوصف الذي وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الشخص الذي لحن بحضرته، وبالخصوص إذا كانوا من الذين يلحنون، أو لا يدركون وظيفة اللغة الحضارية والاجتماعية لأن الرسول صلى الله عليه وسلم {ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}(النجم : 3).

والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا الموضوع هو ما هي معالم هذا الضلال بالنسبة للذي يجهل لغة أمته ويخطئ فيها فردا كان أو جماعة أو إقليما؟ وما هي المخاطر التي يمكن أن تنتج عن محاولة البيان (التواصل) بلغة مشوشة بالأخطاء، مرقعة بكلمات أجنبية ليست من نسيجها؟!

هل يمكن لتواصل ما، في أي مجال من مجالات الحياة أن يتم بين طرفين بغير اللغة التي يشترك الطرفان في إتقانها بالقدر الذي يستوجبه الفهم أو التفاهم في موضوع النقاش؟

ويبدو أن لإهمال اللغة القومية دورا كبيرا فيما اعترى ويعتري مسيرة الأمة العربية الإسلامية من خلل منذ زمان. ذلك لأن اللغة أداة تفاهم. وهي في الوقت نفسه محضن الأفكار التي يراد تبليغها أو تداولها بين أفراد المجتمع. “فالتفكير واللغة عند الإنسان لا ينفصلان، إذ لا يستطيع الإنسان تخيل فكرة بمعزل عن الألفاظ التي تصورها.. ذلك أن اللغة والفكرة توأمان. فلا فكر بدون لغة، ولا لغة بدون فكر. لأن اللغة مرتبطة بالحياة، ومتولدة عنها، سواء كانت منطوقة أو مكتوبة…” (عن مدخل إلى علم اللغة، محمد حسن عبد العزيز بتصرف ص 9).

والسؤال مرة ثانية هل يمكن لأي مخاطب بكسر الطاء أن يبلّغ خطابه بالشكل المطلوب باللغة المشوشة بالأخطاء، أو المرقعة بكلمات أجنبية، وهل يمكن لأي مخاطب بفتح الطاء أن يفهم ما يقال له بغير لغته وإن كان راغبا في ذلك؟!. يقول الحق سبحانه : {وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم}(إبراهيم : 4). هذا بالنسبة للرسالة العامة التي تعني خطاب الحق سبحانه لعباده، أما فيإطار العلاقات الإنسانية، والتنظيمات البشرية فيمكن اعتبار كل مسؤول رسولا مكلفا في إطار مسؤوليته، في المعمل، أو الحقل، أو المدرج، أو الدائرة، أو أيّ قطاع من المجتمع، ولذا فعندما لا يتم التواصل باللغة المفهومة في الوقت المناسب. تحدث الترسبات السيئة في النفوس، ويسيء كل طرف الظن بالآخر. وذلك هو الضلال الناشئ عن الأخطاء اللغوية. والجهل بالعلم بما ينبغي معرفته للقيام بمهمة ما ضلال. عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالما، اتخذ الناس رؤساء جهالا فَسُئلوا فأفتوا  بغير علم فضلوا وأضلوا))(رواه البخاري).

ولا شك أن مستعمل اللغة العربية بالشكل المشار إليه أعلاه يَضل، ويُضل بفتح الياء أولا وضمها ثانيا. وهذا الضلال موجود بين عدد من أفراد الأمةمنذ زمان، ولا يختلف الأمر إلا في ارتفاع نسبة الضالين أوانخفاضها ولذا قلنا في الحلقة الماضية (المحجة عدد 353) إن الأمر في هذا الموضوع قديم جديد، ولا يمكن أن يعالج بهذه التنبيهات البسيطة. ما لم تعقد الأمة العزم على الرجوع إلى ذاتها.

وفي هذا السياق سَنُورِدُ مجموعة من المقالات من باب اخترت لكم، منها ما ورد في مقدمة كتاب العربية الصحيحة للدكتور أحمد عمر مختار. يقول فيها. “للغة العربية قيمة كبيرة لا تتمثل فقط في أنها وسيلة التعبير الوحيدة للأمة العربية، وفي أنها تُعد الآن واحدة من كُبْرَيَات اللغات في العالم، ولكن لأنها -أولا وقبل كل شيء- لغة القرآن والدين، وسجل ماضينا، وديوان حاضرنا، ووعاء ثقافتنا. فأي تقصير في خدمتها لا يعد تقصيرا في جانب الوسيلة فقط، وإنما في جانب الغاية كذلك.

وإنه لَـمِمَّا يحز في النفس أن تكون للغة العربية كل هذه المكانة ثم لا تلقى من أبنائها العناية والرعاية الكافيتين. ويحز في النفس أكثر أن تشكو اللغة الغربة في وطنها وألا تستخدم -بمستواها الفصيح- إلا في مجالات ضيقة، وغالبا ما يحيط بها التحريف والتشويه من كل جانب.

وإنك لتجد المثقف العربي يتحرى الصواب حين يتكلم أو يكتب بلغة أجنبية، ولا يعبأ حين يتكلم أو يكتب بلغته العربية، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد اعتبر من أخطأ في حضرته رجلا ضالا، وناشد أصحابه أن يردوه إلى الصواب قائلا “أرشدوا أخاكم  فقد ضل”.

فما بالنا الآن لا نشعر بالخجل حين نخطئ، وما بالُنا نتجاوز عن عشرات الأخطاء، ونمر عليها دون إحساس، وإذا أحسسنا بها فبدون اكتراث، وإذا اكترتنا فبدون سعي للتخلص منها.

وكثيرا ما كنت أتعجب حين أستمع إلى حوار فريق من المثقفين بل المتخصصين في اللغة العربية، أو أُتابع محاضرة أو حديثا لأحدهم فأجد اللهجة العامية هي السائدة، أو أجد لغة بين بين، كنت أسأل نفسي، هل اللغة العربية الفصيحة.. لغة فوق مستوى البشر؟ أهي عصية لا يقدر على التمكن منها والسيطرة عليها إلا أولو العزم؟ (العربية الفصحى ص 11) يتبع

د. الـحـسـيـن گـنـوان

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>