ما يحدث في المجتمعات الإسلامية له أسبابه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتتوزع المسؤولية فيه على جميع الشرائح انطلاقا من الفرد في ذاته وتفكيره وتوجهه ومبادئه ومسلماته ومدى تفاعله مع مقوماته الاعتقادية وممارساته العملية، ومرورا بما يسمى بالمجتمع المدني من الجمعيات والاتحادات والأندية والمنظمات الأهلية والأحزاب السياسية مما يقابل في المتداول كل الجهات والمؤسسات الرسمية على المستويين المحلي والدولي، ووصولا إلى الإدارات والمؤسسات الرسمية نفسها. ولا يصح التنصل من المسؤولية دوماً وتعليقها على الآخرين، فالكل راع في محيطه وموقعه وهو مسؤول عن رعيته.
والناظر في واقع العالم الإسلامي بتأمل يجد غليانا متوهجا في صفوف العامة قد يكون ظاهرا مكشوفا وقد يكون مكبوتا مخفيا لكن تؤججه الأوضاع الروحية والخلقية والاجتماعية، وتغذيه التوجهات والأحوال الاقتصادية التي يذكي أوارها الفكر المادي المخيم على فكر إنسان العصر واهتماماته، في حين يزداد الخواء الروحي فراغا وتزداد القيم الإنسانية والخلقية انهيارا، على الرغم من محاولات التشدق بمبادئ براقة يلوح بها أبعد الناس عن الاقتناع بها بله تطبيقها في الواقع، مثل (حقوق الإنسان) و(الحريات العامة بما فيها حرية التدين) و(الديمقراطية) و(حق الشعوب في تقرير مصيرها)؛ وليس ببعيد عن الأذهان تجليات جحود أولئك الذين ينصبون أنفسهم مدافعين عن تلك المبادئ أنفسهم، حينما يتعلق الأمر بشعب يتوق إلى التحرر الحقيقي والانعتاق من المناهج المفروضة عليه أو تطبيق التوصيات المصدرة إليه بالشكل الذي يتناسب مع كيانه، كما هو حال الجزائر بعد انتخابات 1991، العراق منذ نجاح ثورة جيرانهم الإيرانيين في 1979، أفغانستان واختياراتها، السودان والمشاكل المصطنعة لها في دارفور والاستفتاء الانفصالي المبيت في الجنوب، القضية الفلسطينية.. واللائحة طويلة.
فأين الخلل؟
أهو في مناهج اللآخرين التي تصدرها أنظمة مستكبرة متجبرة تعربد في العالم منتشية بقوتها العسكرية والتقنية والاقتصادية، وبانفرادها في ساحة القرار الدولي؟
أم هو في رقدة الشعوب المتخلفة الهائمة خلف روادها وساستها في غفلة -أو تغافل- عما تبيته تلك الأنظمة المتجبرة للإبقاء على استكبارها وعنجهيتها وهيمنتها؟
أم هو في سلبية الرواد وأهل الفكر والنظر والتدبير، وعدم احترام إرادات شعوبهم ومقوماتها الحضارية والتاريخية ومكوناتها العقدية والفكرية وقيمها وثوابتها المجمع عليها حقيقة أو حكما؟
وهذه القوة الوهمية التي تتهيبها الشعوب المقهورة والحكومات المستضعفة فتستخف بشأنها وتستسلم لها: أهي فعلا قوة حقيقية قاهرة لا تملك تلك الحكومات والشعوب سوى الانقياد لها والإقرار بالضعف أمام جبروتها والعجزعن مواجهتها؟
الظاهر البين أن الأمر يتعلق بالمبادئ والمناهج التربوية السائدة في تلك المجتمعات ومدى إيمان الأفراد والجماعات بمقوماتهم الذاتية ومدى استثمارهم لإمكاناتهم وطاقاتهم ومؤهلاتهم، انطلاقا من تكوين الشخصية الفردية ووصولا إلى اختيار القادة والمسيرين للشأن العام في الأمة، وتقرير المبادئ والأنظمة والقواعد التي يقوم عليها الأمر، ليعرف الناس من هم؟ وما ذا يريدون؟ وكيف يحققون أهدافهم؟
إن الإقلاع الحضاري لأي شعب نحو العزة والكرامة لإدراك المستوى المناسب للتدافع الحضاري المفروض، واستحقاق الحياة الكريمة وربما الريادة، يقتضي إعادة النظر في مناهج تربية الأفراد والجماعات، وتكوين الشخصيات القوية القادرة على المواجهة، المؤهلة لاتخاذ المبادرة، المستعدة لبذل الكل من أجل تحقيق الأهداف، وما ذلك بعزيز ولا غريب عن هذه الأمة، والتاريخ الذي هو جزء من كيان الأمم ومهماز تطورها واعتزازها زاخر بالمواقف الإيجابية.
فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما يجد ويكد في بناء صرحين كبيرين:
الأول : بناء شخصية الفرد المومن القوي في الإيمان بقضيته، المستعد للتضحية في سبيل مبادئه بالغالي والنفيس.
الثاني : بناء الجماعة القوية ببعضها القادرة على معالجة أحوالها الداخلية وعلاقاتها الخارجية بما تقتضيه المواقف من الحكمة والموادعة عند الاقتضاء، أو التصادم والمواجهة عند الحاجة.
إن المرحلة الراهنة تقتضي الانهماك في إنتاج الشخص القوي كما أنتجت الدعوة الإسلامية منذ بداياتها شخصيات أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وحمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب، ومصعب بن عمير، وبلال بن رباح..
فهؤلاء الأقوياء هم الذين بني المجتمع الجديد القوي على سواعدهم، لأن تكوينهم كان قويا، ولأنهم رُبُّوا تربية هادفة، فخبروا المرحلة وخبروا قدرات أعدائهم المادية والأدبية والبيانية؛ عرفوا فالتزموا وعملوا، وأدركوا موقع الخلل في النفوس وفي التوجهات فتزودوا بالإيمان المناسب، وتهيأوا للأمر بالفكر المناسب، ونظموا أنفسهم وجمعوا أمرهم بممارسة العبادة التي تهذب وتقوم وتوجه، وبترسيخ القيم وتقويم السلوك وتحسين المعاملة ونبذ العادات الباطلة والأخلاق البذيئة؛ منهجهم حسن التلقي وجميل الاستجابة وتقوية روح الجماعة.
وامتدت هذه المرحلة التأسيسية الهامة التي عرفت في تاريخ الدعوة بالمرحلة السرية ثلاث سنوات، وأنجبت عددا قليلا من الشخصيات، لكنهم كانوا أقوياء متميزين بقوة الإيمان، وقوة الاقتناع بما هم مقدمون عليه، وقوة الاستعداد لمواجهة أشد الشدائد في سبيل المبادئ التي اعتنقها هؤلاء الرجال وآمنوا بها:
1- امرأة لكن أية امرأة!!: خديجة بنت خويلد، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم المومنين.
2– فتى ولكن أي فتى!!: علي ابن أبي طالب، وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم وكان حينئذ دون العاشرة من عمره.
3- خادم ولكن أي خادم!!: زيد بن حارثة، خادم خديجة بنت خويلد ثم عتيق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتبناه.
4- رجل ولكن أي رجل!!: أبو بكر عتيق ابن أبي قحافة، وما أدراك من هو أبو بكر، فعلى يده أسلم خمسة من الأقوياء الذين كونوا مع هؤلاء الأربعة جيلَ السابقين الأولين، وبهم تأسست الجماعة التي تعتبر اللبنة الأولى في بناء الجيل الصالح المقدام الرافض لأشكال الزيف والغباء والظلم الاجتماعي والضلال الاعتقادي الذي كان سائدا في المجتمع الجاهلي: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن ابن أبي عوف، وسعد ابن أبي وقاص(وهو شاب في 17 من عمره)، وطلحة بن عبيد الله؛ لكنهم تكاثروا بعد فأسلم أبو عبيدة ابن الجراح، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون، وقدامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد بن عمرو العدوي، وامرأته: فاطمة أخت عمر بن الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وأختها عائشة، وخباب بن الأرث، وعمير بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود(وهو في 19 من عمره).
وكانت التربية على الشعور بالإنسانية والإحساس بالأمانة والحث على تحمل المسؤولية والاستنارة بالحق والهدى هي المنهج التربوي الذي يعتبر مثالا لتحقيق التحول في الأفكار والتغيير في الشأن العام نحو الإصلاح السلمي البناء، لعلنا نجد صورة له في مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سمي بالمرحلة الجهرية في الدعوة، لما أُنزل عليه صلى الله عليه وسلم {ياأيها المدثر قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر.. ولربك فاصبر}(المدثر : 1- 4) شمر عن ساق الدعوة، وقام في ذات الله أتم قيام، ودعا إلى الله ليلا ونهارا وسرا وجهرا؛ فلما نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}(الشعراء: 213) دعا صلى الله عليه وسلم القوم فجمعهم وخطب فيهم، وكانت أول خطبة له صلى الله عليه وسلم في مجال الدعوة، فقال: ((الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدا أو النار أبدا)). فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقنا لحديثك؛ وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب! فقال أبو لهب: هذه والله السوأة! خذوا على يديه قبل أن يأخذ على غيركم. فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا)).
ثم لما لما نزل عليه {فاصدع بما تومر، وأعرض عن المشركين..}(الحجر : 15) صدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم، فدعا إلى الله الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى والأحمر والأسود والجن والإنس؛ فاشتد أذاهم له صلى الله عليه وسلم ولمن استجاب له من أصحابه ونالوه ونالوهم بأنواع الأذى، وتلك سنة الله في خلقه.. وذلك في إطار عموم الدعوة وشمولها، وسيرا مع المنهج الرباني في الدعوة القائم على العناية بجميع الشرائح لأجل بناء الفرد الصالح القوي، وإنشاء الجماعة الرشيدة الرائدة؛ وظل صلى الله عليه وسلم عشر سنين يوافي الموسم كل عام يتبع الحجاج في منازلهم بـــ(عكاظ) و(مجنة) و(ذي المجاز)، يدعوهم إلى الإيمان ويريد استمرار الدعوة حتى تحقق غايتها في التبليغ والتصحيح والترشيد والترقي، ويريد أن يمنعوه من المستكبرين والمضطهدين حتى يبلغ رسالات ربه، ويعرض نفسه على القبائل التي تتوافد إلى بيت الله الحرام، يتلو عليهم كتاب الله ويدعوهم إلى التوحيد، فلا يستجيب له أحد ولا ينصره أحد؛ وكان يقول: ((ياأيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتذل لكم العجم، وإذا آمنتم كنتم ملوكا فـي الجنة))، وكان أبو لهب يسير وراءه صلى الله عليه وسلم ويقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب، فيردون عليه صلى الله عليه وسلم أقبح الردود ويؤذونه.
وذات موسم خاف زعماء قريش أن يفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرصة التجمع البشري خلال الموسم الذي أوشك أن يحل، كما يخاف البعض اليوم من انتشار الخير فيعمدون إلى التعتيم الإعلامي، أو يوعزون إلى الشُّذَّاذ والمنحرفين بالتحرك والقيام بأعمال يمسحونها في دعاة الخير بناة صرح الأمة؛ فهذه قريش يجتمع أقطابها ويقوم أحد كبارهم، وهو الوليد بن المغيرة، فيدعو قومه إلى أن يصدروا في أمره صلى الله عليه وسلم عن رأي واحد.. وفي هذا الاجتماع وفي محاولة للبحث عن وصف يلفقونه لصاحب الدعوة كي يؤلبوا عليه الناس وينقصوا من قيمة دعوته قال بعضهم:
“نقول إنه كاهن. فأجاب الوليد: لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه. فقال آخرون:
نقول مجنون. أجاب: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا وسوسته. قالت فئة ثالثة:
نقول إنه شاعر. أجاب: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قال بعضهم:
فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما تقول أنت؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء بقول سحر يفرق بين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته”. هكذا لم يجدوا مناصا من الإقرار بعظمة الدعوة والاعتراف بصدق رسول اللهصلى الله عليه وسلم لكنهم أصروا على تلفيق أمر، تماما كما هو شأن أهل الباطل في كل زمان!
وتفرق القوم على هذا الرأي وانتشروا في مداخل مكة ومسالكها حيث يمر الحجاج فكلما مر بهم وفد حذروه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم واتهموه بالسحر. لكن محاولتهم هذه جاءت بعكس توقعاتهم، حيث انتشر ذكره صلى الله عليه وسلم في القبائل ثم في بلاد العرب كلها. وفي هذا، وفي صاحب الفكرة (الوليد بن المغيرة) نزل قول الله عز وجل: {إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يوثر إن هذا إلا قول البشر، سأصليه سقر}(المدثر : 18- 26)؛ وفشا ذكر الإسلام في الناس؛ أما المسلمون المومنون فقد ازداد إيمانهم قوة، ولم يعد أحد منهم يبالي بما قد يصيبه من المعتدين الماكرين، بينما فكر أعداء الدعوة في تصفية النبي صلى الله عليه وسلم للتخلص منه ومن دعوته، ولكن هيهات! لقد نبتالخير وأثمر وأنجب الأقوياء القادرين على التحمل والمواجهة، سلاحهم الإيمان ومنهجهم الإقناع وغايتهم نشر الحق والخير وإنقاذ البشرية من براثن الظلم والجهل والكفر والفسوق.
ونتج عن هذه الحال استمرار المناصرين لرسول الله عصبية في مناصرتهم، فقد رأى أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم محمدا وعليا يصليان فأمرهما بالثبات وأقسم أن لا يتخلى عن نصرة ابن أخيه ما حيي. أما جماعة المومنين المتآخين في الله فقد أصروا على التعاون والتآزر والدأب على عبادة الله ونشر الخير والدعوة إلى الله ورسوله بكل الوسائل.
ومن أهم الدروس التي تستفاد من أخبار هذه المرحلة أن الخلل قد يكون فينا نحن، وقد يكون في الغير، وأن منهج الإصلاح ليس بالسهل اليسير، ففي الناس المتكبرون المستعلون أصحاب مصالح شخصية تصدهم عن الانقياد للحق والخير، وفيهم المجادلون المعاندون الذين يظهر لهم الحق والصواب ولا يرضونبالإقرار به واتباعه؛ وأن المجتمع لابد أن يكون فيه شرائح وأنواع من الناس يختلفون ويتفاوتون في مدى الاستجابة للخير وإدراك الصواب والانقياد للحق.
وسبيل إدراك الغايات قوة الإيمان بالقضية، والتحرر من العبوديات كلها والاقتناع بالعبودية المطلقة لله عز وجل، والإيمان بعموم الدعوة، والإيجابية في معالجة الأمور والاحتراز من الدعة والسلبية والتبعية أو الخوف والوهن وحب الدنيا وكراهية الموت!!
د. رضوان بن شقرون