تعم الفرحة والبهجة أمة الإسلام العظيمة في هذه الأيام المباركة من جهتين : من جهة ما شهدته مصر وتونس من إسقاط رموز الفساد والاستبداد والاستبشار بميلاد أمة جديدة وعهد جديد، ومن جهة تخليد ذكرى مولد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الحبيب إلى كل نفوس أبنائها محمد بن عبد الله الذي اصطفاه الله سبحانه بختم الرسالات وأرسله رحمة للعالمين وقدوة للمؤمنين وافترض عليهم سبحانه طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره {إنا أرسلناك شاهداً ومبشرا ونذيراً، لتومنوا بالله ورسوله، وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا}(الفتح : 8- 9) فلم يدع صلى الله عليه وسلم خيرا إلا دل عليه أمته، ولا شراً إلا حذرها منه. وكل المسلمين قد علموا وعرفوا من خلال ما وصفه القرآن الكريم به {وإنك لعلى خلق عظيم}(القلم : 4) وما شهده صحابته رضوان الله عليهم مما هو مثبت في سيرته العطرة، المستوى الأخلاقي العالي الذي كان يتحلى به رسولنا وحبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وكل المسلمين بجميع فئاتهم يعبرون بلسانهم وأهازيجهم وإنشاداتهم وصلواتهم عن محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم استجابة لقول الله سبحانه : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}(آل عمران : 31)، ولكن منهم من يغفل عن شيء هام تقتضيه هذه المحبة وهي ضرورة مواكبة الطاعة والاتباع للمحبة إذ محبته تعظيم وجداني ونفسي داخلي باطني وطاعته واتباعه تعظيم عملي حركي ظاهري بإتيان الأوامر وترك المعاصي، أي بفعل ما يريده الرسول صلى الله عليه وسلم منك أيها المسلم ليرتفع شأن الإسلام بك وتكون ممثلا له بين الناس فتتصور أن الله سبحانه بعث نبيه رسولا شاهدا عليهم بما هو عليه من العبادة والطاعة وتطبيق شرعه وبيانه للناس وأنت أيها المسلم المؤمن ينبغي أن ترتفع إلى درجته صلى الله عليه وسلم فتكون أنت أيضا شاهدا على الناس فكأنك رسولُ رسولِ الله إليهم بعده {ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس}(الحج : 75) وهذه منزلة عظيمة عند الله وفوز عظيم يناله المسلم.
وتزامنت ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم مع الأحداث الجارية الآن في تونس ومصر وهي أحداث أخذت بالعقول والقلوب، وشدت آذان أبناء الأمة وأعينهم إلى وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة، تتابع الأحداث وتطوراتها تذل أناساً وترفع آخرين، ورؤوس كانت ضخمة كالجبال أصبحت أصغر من الجرذان، وخطابات كانت تتوجه إلى الجماهير بأساليب القهر والزجر والقسوة تحولت إلى أساليب اللين والسهولة مصحوبة بالبكاء أحيانا.
والموقف يقتضي أن يُختار من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفيد وينفع في هذه الظروف العصيبة فنقف أولا عند رحمته صلى الله عليه وسلم بالخلق ولين جانبه وعنايته بجميع صحابته على مختلف مستوياتهم {لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتهم حريص عليكم بالمومنين رؤوف رحيم}(التوبة : 128) وعلى كرمه الواسع الذي لا يعرف حدوداً حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يعطي بعض الناس عطاء كثيراً لم يسبق لأحد أن سمع بمثله. ففي صحيحي البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا على الإسلام إلا أعطاه، سأله رجل فأعطاه غنما بين جبلين فأتى الرجل قومه فقال لهم : يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة)).
وفي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرد سائلا وهو واجد ما يعطيه فقد سأله رجل حُلّة كان يلبسها فدخل بيته فخلعها ثم خرج بها في يده وأعطاه إياها. وعندما لامه الصحابة قال : رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أُكفّن فيها.
وعن ابن عباس رضي الله عنه وقد سئل عن جود رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرمه فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل بالوحي فيدارسه القرآن فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة. بمعنى أن عطاءه مستمر دائم لا يتوقف ولا ينقطع.
إن المسلمين يفرض عليهم دينهم وتفرض عليهم الظروف الحرجة التي تحيط بهم اليوم أن يربوا أنفسهم على أن يقتدوا بحبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سعة كرمه وأن يتحلوا بالأريحية وفضيلة العدل، وحسن تدبير الشأن العام وأن يوسعوا على الناس فيما يرتزقون منه وأن يعملوا على ترخيص الأسعار خصوصا في المواد التي لها علاقة بالطعام والغذاء واللباس والنظافة. فالمساعدة في هذه الأمور من شيم المؤمنين والنبلاء ووجهاء القوم وفضلائهم. وقد كان أجدادنا يفهمون هذه المقاصد بالرغم من بساطة مستواهم الاقتصادي فكانوا يشاركون بكثرة في الأوقاف فيما له علاقة بالدين والعلم والطعام والنظافة والاستشفاء.
ومن لم يرحم إخوانه من المسلمين وفيهم من هم من أقربائه وأصدقائه فيختار عمداً أن يجمع الأموال الطائلة عن طريق احتكار السلع الأساسية والضرورية للعيش فيتلهف أن يجني منها أرباحا عالية برفع أثمانها في السوق، فإنه يرتكب إثما كبيراً ويكون من الظالمين لأنفسهم ولإخوانهم ومن الذين لا يضعون في حسابهم ما يمكن أن ينتج عن عملهم من أضرار اجتماعية واقتصادية قد تجر إلى إشاعة الفتن.
ونقف ثانيا لنتأمل جميعا قوله صلى الله عليه وسلم : ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)) فهو وإن كان حكمه خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن الذين واتتهم الفرص ليشغلوا مناصب هامة في بلاد المسلمين فيكون أمر المال من جملة ما يحكمون ويتصرفون فيه، أن يكون لهم في سلوكهم واقتدائهم بنبيهم الذي لم يكن يخشى الفقر على نفسه وعلى ذريته، نصيب من هذا الحديث يتعلق بإعراضه صلى الله عليه وسلم عن الدنيا وعدم الحرص عليها الحرص الذي قد يؤدي بهم أن يأخذوا من مال المسلمين ما يتعدى حقوقهم، وأن يُفرطوا غاية الإفراط فيجمعون الأموال الطائلة باستغلال نفوذهم. بينما هناك فئات كبيرة من أبناء المسلمين يكفيها قليل من المال ولا تجده فتعيش في فقر مذقع.
ولا يكتفي كثير من هؤلاء بجمع الأموال بغير حق بل يودعونها في أبناك خارج البلاد فتستفيد من استثمارها بلدان أخرى غير بلاد المسلمين. بينما تجد في مخططاتهم الاقتصادية ما يدل على ترغيب المستثمرين الأجانب لإقامة مشاريع لهم داخل بلدانهم. فقد كان عليهم على الأقل الاحتفاظ بأموال المسلمين لاستثمارها داخل بلادهم.
إن تهريب الأموال الطائلة إلى بلاد الغرب ومعها بلاد أمريكا هو حجة قوية على الظلم والاستبداد وعلى سوء نية أي مسؤول ذي منصب هام في البلاد الإسلامية، وكأنه تعبير صريح منه على أن ما يودعه في هذه الأبناك قد جمعه من وجوه غير مشروعة فلو أن بن علي في تونس ومبارك في مصر ومن يدور في فلكهما لم تكن لهم هذه الأموال الطائلة وكانت أياديهم نظيفة لما وصل بهم الأمر إلى ما وصل ولكن انتهى بهم الأمر إلى ضياع مناصبهم وتجميد أموالهم.
وقديما دخل الملعون هولاكو المغولي سنة 656هـ بجيشه إلى بغداد فأحرق ودمر وقتل وقبض على المستعصم آخر خلفاء بني العباس وقبل أن يقتله، تقول الأخبار إنه طلب منه أن يُطلعه على ما عنده من أموال فأخذه الخليفة إلى المكان الذي يُخفي فيه أمواله وكنوزه فدهش هولاكو لكثرتها وقال : لو أنك كنت تفرق هذه الأموال على الجند والمحتاجين لما أُصبت بالهزيمة.
فليعتبر من حفظهم الله إلى حد الآن من المسؤولين في بلاد المسلمين وخصوصا من كان منهم في البلاد العربية بما حدث بتونس ومصر وليختاروا الطريق الصحيح في اتباع دينهم وما يدل على محبتهم لنبيهم في تحمل مسؤولياتهم، الطريق التي تجمع ولا تفرق، توحد ولا تمزق، التي تنظر إلى أفراد المجتمع نظرة تقوم على إتاحة الفرص لجميع الأفراد على قدم المساواة وعلى الحفاظ على المال العام، يأخذ الكل منه ما يستحقه بحقه، وأن يُعتنى بالمحتاجين والفقراء والأرامل والأيتام، وأن تتوفر في الأسواق المواد الأساسية والضرورية بأرخص الأثمان حتى تُتَجنّب الفتن وإلا فمن المتوقع أن تكون النتائج سيئة والعواقب وخيمة، ويتحقق على الكل ما قيل : ويلٌ للعرب من شرّ قد اقترب!!