انتبهوا أيها السادة، فإن أمامنا اليوم مواقف مشهودة، لأسرة أكرمها الله بقوة الإيمان، فصنعت ما تعجز عن وصفه الكلمات، ولكنه صدق التوجه إلى الله عز وجل.
نحن اليوم أمام رجل يقال له إبراهيم، وامرأة يقال لها هاجر، وشاب يقال له إسماعيل.
رجل أمره الله أن يُرحل زوجته ورضيعها من فلسطين إلى مكة، فلا يتردد، وينطلق بهما إلى حيث أمر، ثم يتركهما هناك، في صحراء قاحلة، وبين جبال موحشة، حيث لا ماء ولا طعام، ولا مؤنس ولا صديق… وتسأله زوجته المسكينة التي لا حول لها ولا قوة عن سبب هذا الترحيل، ولماذا هم في هذا المكان الموحش المخيف؟ وكيف استطاع هو أن يتخلى عنهما في هذه الأرض المقفرة… تأملوا معي أيها الأحبة هذا المشهد العجيب : روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هناك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت : يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ قالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم، قالت : إذن لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه فقال : ((ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون..)).
هذا جزء من مشهد عظيم، وموقف جليل، أطرافه : الأب والأم والصبي. رجل أمره الله أن يهاجر بامرأة وابنه الرضيع إلى مكان قصي، في واد سحيق، بصحراء قاحلة، حيث لا ماء ولا طعام، ولا مؤنس ولا شيء مما تقوم به الحياة فينفذ أمر ربه دون تردد ولا مناقشة.
وامرأة تُرمى في بيداء وحيدة إلا من رضيعها، فتحزن وتخاف، ويدخلها الرعب، لا تدري ما الذي حدث، ولا ما الذي سيحدث لها ولابنها، وتتوسل إلى إبراهيم وتسأله مرارا : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا؟!
ولعله دار في نفسها أن هذا ليس من عادة إبراهيم ولا من طبعه، فنبوته تأبى عليه هذا، وأخلاقه الكريمة تمنعه من أن يتخلى عنا، فلعل في الأمر سرا، قالت وهي تبحث عن معرفة ما خفي : آلله أمرك بهذا؟ قال نعم : اطمأنت هاجر وسكنت، ورضيت بالواقع، واستسلمت لأمر ربها، فرحة مسرورة، واستبشرت، فقالت : إذن لا يضيعنا، وما ضيعها الله تعالى، ولا ضيع ابنها إسماعيل.
فأين من يستمسك بالله، ويعرف أنه لن يضيعه مادام على الهدى!
ذ. امحمد العمراوي من علماء القرويين
amraui@yahoo.fr