من محاسن الأخلاق ما حكي عن القاضي يحيى بن أكثم، قال: كنت نائماً ذات ليلة عند المأمون، فعطش، فامتنع أن يصيح بغلام يسقيه وأنا نائم فينغص عليَّ نومي، فرأيته قد قام يمشي على أطراف أصابعهِ حتى أتى موضع الماء، وبينه وبين المكان الذي فيه الكيزان نحو من ثلثمائة خطوة، فأخذ منها كوزاً فشرب، ثم رجع على أطراف أصابعه حتى قرب من الفراش الذي أنا عليه، فخطا خطوات خائفاً لئلا ينبهني حتى صار إلى فراشه… وكان يقوم في أول الليل وآخره، فقعد طويلاً يحاول أن أتحرك فيصيح بالغلام، فلما تحركت وثب قائماً وصاح: يا غلام، وتأهب للصلاة، ثم جاءني، فقال لي: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ وكيف كان مبيتك؟ قلت: خير مبيت جعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين قد خصك الله تعالى بأخلاق الأنبياء وأحب لك سيرتهم فهناك الله تعالى بهذه النعمة وأتمها عليك.
قال: وبت عنده ذات ليلة فانتبه وقد عرض له السعال حتى غلبه فسعل وأكب على الأرض لئلا يعلو صوته فانتبه.
وكنت معه يوماً في بستان ندور فيه، فجعلنا نمر بالريحان فيأخذ منه الطاقتين ويقول لقيِّم البستان: أصلح هذا الحوض، ولا تغرس في هذا الحوض شيئاً من البقول. قال يحيى: ومشينا في البستان من أوله إلى آخره، وكنت أنا ما يلي الشمس والمأمون مما يلي الظل، فكان يجذبني أن أتحول أنا في الظل ويكون هو في الشمس فأمتنع من ذلك، حتى بلغنا آخر البستان. فلما رجعنا قال: يا يحيى! والله لتكونن في مكاني ولأكونن في مكانك حتى آخذ نصيبي من الشمس كما أخذت نصيبك، وتأخذ نصيبك من الظل كما أخذته… فلم يزل بي حتى تحولت إلى الظل وتحول هو إلى الشمس، ووضع يده على عاتقي، وقال: بحياتي عليك إلا وضعت يدك على عاتقي مثل ما فعلت أنا، فإنه لا خير في صحبة من لا ينصف.
> ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي
طرف: كلهم جاهل
- اختصم أعرابيان إلى شيخ منهم، فقال أحدهما: أصلحك اللّه، ما يحسن صاحي هذا آيةً من كتاب اللّه عز وجل، فقال الآخر: كذب واللّه، إنّي لقارئ كتاب اللّه، قال: فاقرأ، فقال:
علق القلب ربابـا بعد ما شابت وشابا
فقال الشيخ: لقد قرأتها كما أنزلها اللّه. فقال صاحبه: واللّه أصلحك اللّه، ما تعلمّها إلا البارحة.
> الأمالي لأبي علي القالي
وحكي أن أحمقين اصطحبا في طريق، فقال أحدهما للآخر: تعال نتمن على الله فإن الطريق تقطع بالحديث. فقال أحدهما: أنا أتمنى قطائع غنم أنتفع بلبنها ولحمها وصوفها. وقال الأخر: أنا أتمنى قطائع ذئاب أرسلها على غنمك حتى لا تترك منها شيئاً. قال: ويحك أهذا من حق الصحبة وحرمة العشرة. فتصايحا وتخاصما، واشتدت الخصومة بينهما حتى تماسكا بالأطواق، ثم تراضيا من أن أول من يطلع عليهما يكون حكماً بينهما، فطلع عليهما شيخ بحمار عليه زقان من عسل، فحدثاه بحديثهما، فنزل بالزقين وفتحهما حتى سال العسل على التراب، قال: صب الله دمي مثل هذا العسل إن لم تكونا أحمقين.
> المستطرف من كل فن مستظرف للأبشهي
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه
قال : كان رجل يتعبد في صومعة فأمطرت السماء، وأعشبت الأرض، فرأى حماره يرعى في ذلك العشب فقال: يا رب لو كان لك حمار لرعيته مع حماري هذا، فبلغ ذلك بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم أن يدعو عليه، فأوحى الله إليه: لا تدع عليه فإني أجازي العباد على قدر عقولهم.
> المستطرف من كل فن مستظرف للأبشهي
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقسم الأموال حسب القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسب البلاء في الإسلام
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن أبا بكر رأى في هذا المال رأيا، ولي فيه رأي آخر، لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه. ففرض للمهاجرين والأنصار ومن شهد بدرا خمسة آلاف، وفرض لمن كان له إسلام كإسلام أهل بدر ولم يشهد بدرا أربعة آلاف أربعة آلاف، وفرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم
اثني عشر ألفا اثني عشر ألفا، وفرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف، وفرض لعبد الله بن عمر (أي لابنه) ثلاثة آلاف. فقال: يا أبت لم زدته علي ألفا؟ ما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لأبي، وما كان له ما لم يكن لي؟ فقال: إن أبا أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وكان أسامة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك. وفرض للحسن والحسين خمسة آلاف خمسة آلاف لمكانهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرض لأبناء المهاجرين والأنصار ألفين ألفين، فمر به عمر بن أبي سلمة، فقال: زيدوه ألفا. فقال له محمد بن عبد الله بن جحش: ما كان لأبيه ما لم يكن لأبينا، وما كان له ما لم يكن لنا؟ فقال: إني فرضت له بأبيه أبي سلمة ألفين، وزدته بأمه أم سلمة ألفا، فإن كانت لكم أم مثل أمه زدتكم ألفا. وفرض لأهل مكة وللناس ثمانمائة ثمانمائة. فجاءه طلحة بن عبيد الله بابنه عثمان، ففرض له ثمانمائة. فمر به النضر بن أنس فقال عمر: افرضوا له في ألفين. فقال طلحة: جئتك بمثله ففرضت له ثمانمائة، وفرضت لهذا ألفين! فقال: إن أبا هذا لقيني يوم أحد، فقال لي: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: ما أراه إلا قد قتل، فسل سيفه وكسر غمده، وقال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل فإن الله حي لا يموت، فقاتل حتى قتل، وهذا يرعى الشاء في مكان كذا وكذا..
> كنز العمال للمتقي الهندي
وصـايــا
أوصى عمير بن حبيب – وكان بايع النبي صلى الله عليه وسلم
- بنيه فقال: يا بنيّ، إياكم ومخالطة السفهاء، فإن مجالستهم داء، وإنه من يحلم عن السفيه يسر بحلمه ومن يجبه يندم، ومن لا يقر بقليل ما يأتي به السفيه يقر بالكثير، وإذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر فليوطن قبل ذلك على الأذى وليوقن بالثواب من الله عز وجل، إنه من يوقن بالثواب من الله عز وجل لا يجد مس الأذى.
وأوصت أعرابية ابنها وقد أراد سفراً فقالت: أي بني! اجلس أمنحك وصيتي وبالله توفيقك، فإن الوصية أجدى عليك من كثير عقلك. أي بني! إياك والنميمة! فإنها تزرع الضغينة وتفرق بين المحبين، وإياك والتعرض للعيوب، فتتخذ غرضاً، وخليقٌ ألا يثبت الغرض على كثرة السهام؛ وقلما اعتورت السهام غرضاً إلا كلمته حتى يهي ما اشتد من قوته. وإياك والجود بدينك والبخل بمالك. وإذا هززت فاهزز كريماً يلن لهزتك، ولا تهزز اللئيم فإنه صخرة لا ينفجر ماؤها؛ ومثل لنفسك مثال ما استحسنت من غيرك فاعمل به، وما استقبحت من غيرك فاجتنبته، فإن المرء لا يرى عيب نفسه.
> الأمالي لأبي علي القالي
وصية عبد اللّه بن شداد
لما حضرت عبدَ اللّه بن شدّاد الوفاةُ دعا ابناً له يقال له محمد، فقال: يا بنيّ، إني أرى داعي الموت لا يقلع، وأرى من مضى لا يرجع، ومن بقى فإليه ينزع؛ وإني موصيك بوصية فاحفظها: عليك بتقوى اللّه العظيم، وليكن أولى الأمور بك شكر اللّه وحسن النية في السر والعلانية، فإن الشّكور يزداد، والتقوى خير زاد؛ وكن كما قال الحطيئة:
ولست أرى السعادة جمع مالٍ ولكنّ التقيّ هو الـسـعـيد
وتقــوى اللّه خيـر الــزاد ذخـراً وعند اللّه لـلأتـقـى مـــزيـد
ومــا لا بـدّ أن يـــأتـــي قــــريـبٌ ولكــنّ الـذي يمضـي بـعـيد
ثم قال: أي بنيّ، لا تزهدنّ في معروف، فإن الدهر ذو صروف؛ والأيام ذات نوائب، على الشاهد والغائب؛ فكم من راغب قد كان مرغوباً إليه، وطالب أصبح مطلوباً ما لديه؛ واعلم أن الزمان ذو ألوان، ومن يصحب الزمان يرى الهوان؛ وكن أي بنيّ كما قال أبو الأسود الدؤلي:
وإن امرأً لا يرتجى الخير عنده يكن هيناً ثقلاً على من يصاحب
فلا تمنعن ذا حاجة جاء طالبـاً فـإنــك لا تـدري متى أنـت راغـب
ثم قال: أي بني، كن جواداً بالمال في موضع الحق بخيلاً بالأسرار عن جميع الخلق؛ فإن أحمد جود المرء الإنفاق في وجه البر، وإن أحمد بخل الحرّ الضن بمكتوم السر، وكن كما قال قيس بن الخطيم الأنصاري:
أجـــود بمكنــون التـــلاد وإننـي بسرك عمن سألني لضنـين
وعندي له إذا يوماً ما ائتمنتني مكــانٌ بسوداء الفؤاد مكـين
ثم قال: أي بني، وإن سمعت كلمة من حاسد، فكن كأنك لست بالشاهد؛ فإنك إن أمضيتها حيالها، رجع العيب على من قالها؛ وكان يقال: الأرنب العاقل، هو الفطن المتغافل؛ وكن كما قال حاتم الطائي:
وما من شيمتي شتم ابن عمي ومـا أنا مخلفٌ من يرتجيني
وكلمة حـــاسدٍ فـي غيـر جــرم سمعت فقلت مري فانفذيني
ثم قال: أي بنيّ، لا تواخ امرأ حتى تعاشره، وتتفقّد موارده ومصادره؛ فإذا استطعت العشرة، ورضيت الخبرة؛ فواخه على إقالة العثرة، والمواساة في العسرة؛ وكن كما قال المقنع الكندي:
ابل الرجــال إذا أردت إخــاءهـم وتــوسّـمــنّ فعــــالــهـم وتـفــقّــد
فإذا ظفرت بذي اللّبانة والتّقـى فبه اليــدين قـــرير عينٍ فـاشـدد
وإذا رأيــت ولا مـحـــالـــة زلـــــةً فعلى أخيك بفضل حلمك فاردد
ثم قال: أي بني، إذا أحببت فلا تفرط، وإذا أبغضت فلا تشطط؛ فإنه قد كان يقال: أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما؛ وكن كما قال هدبة بن الخشرم العذريّ:
وكن معقلاً للحلم واصفح عن الخنا فإنــك راءٍ ما حـييت وسـامـع
وأحبب إذا أحبـبـت حبـاً مـقـــاربـــاً فإنـك لا تدري متى أنـت نـازع
وأبغض إذا أبغضت بغضاً مقــاربـاً فإنك لا تدري متى أنـت راجـع
وعليك بصحبة الأخيار وصدق الحديث، وإياك وصحبة الأشرار فإنه عار، وكن كما قال الشاعر:
اصحب الأخيــار وارغب فيهم ربّ من صاحبته مثل الجرب
واصدق النـــاس إذا حدثتـهـم ودع النــاس فمن شــاء كـذب
> الأمالي لأبي علي القالي