في البدء كانت هناك دبابة مطهمة.
وضع على صهوتها عسكري منفوش، هيئ بليل دامس ورصعت أكتافه بالنياشين والنجوم والأوسمة. صارت الدبابة تشق طريقها بين خلق الله تدهس في طريقها كل شيء حي، فكانت مجازر ودماء تشيب لهولها الولدان (وتضع كل ذات حمل حملها) تلتها معارك ونقع غبار كثيف وبرك من دماء بريئة وأخرى دنيئة. وكان يا مكان…
وقبل أن ينقشع غبار المعارك وتجف برك الدماء الزكية، تحولت الدبابة المطهمة بقدرة قادر -وقيل عن سبق إصرار وترصد- والعهدة على الراوي إلى كرسي وثير يجلس عليه نفس العسكري المنفوش وقد أثقلته النياشين والنجوم والأوسمة فاثاقل إلى الكرسي وغاص في عمقه الوثير. وحوله جلس عسكريون آخرون أقل انتفاشا، الأصغر فالأصغر كل حسب ما يحمل من نياشين ونجوم… انغمست أرجل الكرسي عميقا في الأرض الطيبة حتى ظهرت لها عروق سرعان ما نمت وتكاثفت وضربت في أعماق الثرى! فازداد صاحبنا نشوة وحبورا فتمدد ملء جسده الثقيل حتى ضاق به الكرسي بما رحب وظن ألا ملجأ له من الكرسي إلا الكرسي… وهكذا نمت وتطورت علاقة ود وحب وهيام بين الاثنين أعني بين الكرسي والجالس عليه (حب وهيام لم تعد أمامه قصص قيس وليلى وجميل وبثينة وروميو وجوليات سوى خرافات وأساطير الأولين). ولفرط هذا الود صرت لا تفرق بين الاثنين! أصبحا ذاتا واحدة حلت روح أحدهما في الآخر حتى أصبحا روحان في جسد واحد أو قل جسد بروحين!! أصبح الكرسي امتداداً للجالس عليه أي جزءا لا يتجزأ منه بحيث يصبح مجرد التزحزح عنه ضربا من الخيال والألم الشديد. وكان للجالس على الكرسي ما يريد ودامت المودة والانشراح والأفراح لا يعكر صفو المقام إلا بعض السوقة والرعاع من ذوي الأقلام الطويلة والأذرع القصيرة، قيل إنهم عملاء لجهات مغرضة لا يعرفها إلا الجالس على الكرسي، وقيل إنهم شداد آفاق يبحثون عن شهرة أوعرض زائل وقيل في حقهم ما لم يقله الإمام مالك في الخمر… انتشرت أخبار هؤلاء انتشار النار في الهشيم حتى صارت سيرتهم على كل لسان طبعا خلاف ما أرادت أبواق صاحب الكرسي… ومع هذا الانتشار تناسلت الاحتجاجات وتكاثرت بشكل لافت وخرج الناس إلى الشوارع للتعبير عن غضب دفين كتموه أو بالأحرى كتم بداخلهم لعدة سنين. استمر الخروج ليالي وأياما ونام الناس في الميدان يفترشون الأرض ويلتحفون السماء بالرغم من البرد والرعب والذعر الشديد. بحت الحناجر بترديد الشعارات والخطابات فهمها الجميع عبر العالم ولم يفهمها الجالس على الكرسي!! وكل من يدور في فلكه من المنتظرين لأدوارهم في امتطاء ظهور جديدة… مضت الأيام ومعها ارتفع سقف المطالب ومعها افتضحت أسرار وجرائم وسالت دماء زكية لأن الجالس على الكرسي (مالوش دم) فسقط شباب طاهر على طريق الشهادة ، ارتفعت أرواحهم لتوها إلى السماء في حواصل طيور الجنة الخضراء.
غابت الدبابة فجأة وحلت محلها جحافل من الخيل والبغال والجمال يمتطيها لصوص ومجرمون و(بلطجيون) أخرجوا لتوهم من السجون والمعتقلات من أجل ترويع الناس والمتظاهرين والسكان الآمنين في منازلهم وحتى المرضى في مستشفياتهم لم يسلموا من بطش هؤلاء القتلة المدربين خصيصا من أجل حماية صاحب الكرسي وتزوير انتخاباته وترهيب معارضيه!! إلا أن شباب المظاهرات كانوا لهم بالمرصاد فعادوا إلى جحورهم خاسئين… تصاعدت الأمور واكفهرت الأجواء ومعها ارتفع عدد الشهداء والمغيبين والجرحى إضافة إلى انهيار اقتصادي شبه شامل. الكل يريد فك الارتباط بين الكرسي والجالس عليه بمن فيهم أولئك الذين أجلسوه عليه أول الأمر وساندوه ودعموه بكافة وسائل القمع والتنكيل بالمعارضين وفي نفس الوقت تراهم من حين لآخر يتباكون على فقدان الديمقراطية ومنع المتظاهرين من التعبير عن آرائهم بكل حرية. فقلوب هؤلاء المنافقين مع المتظاهرين في حين أن سيوفهم وأسلحتهم القمعية تبقى مع عدوهم. هؤلاء لا ذمة ولا عهد لهم وقد أثبتت الأحداث القريبة جدا أنهم يتخلون بسرعة عن عملائهم إذا جد الجد وأرغم هؤلاء العملاء على ترك الكرسي، وما وقع لطاغية تونس عنا ببعيد!!
ذ. عبد القادر لوكيلي