إصلاحات أجهضت وهذه من يحميها؟!!


مفهوم الإصلاح مفهوم قديم قدم الإنسان، ورغبة فطرية فيه لتجديد الحياة الاجتماعية، وظلت المجتمعات الإنسانية تطالب به وتمارسه بكل ما أوتيت من إمكانات فكرية وروحية وثقافية وحضارية، وقد أخبرنا الله عز وجل في القرآن الكريم نماذج كثيرة من الإصلاحات التي عرفتها الأمم وعلى رأسها ما قام به الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، وما قام به خاتم الرسل والنبيئين محمد صلى الله عليه وسلم يمثل أعمق تجربة تغييرية وإصلاحية وأقواها في التاريخ، إلا أن مفهوم الإصلاح بمفهومه السياسي والقانوني ارتبط بظهور مفهوم الدولة في الفكر السياسي الحديث مع فكر عصر الأنوار في أوروبا وفلسفته وفلسفة الحركة الإنسانية وارتبط أيضا باتساع الفكر الديمقراطي وبظهور حركات الاحتجاج الاجتماعي ضد كل أشكال الاستبداد وفلسفاته ورموزه في المجتمعات المعاصرة.

وكثير من أشكال التغيير والإصلاح في المجتمعات القديمة إلى يومنا هذا كانت تأتي إما من الإرادة الذاتية للشعوب ووفق قرارها الحر ونضجها الفكري ووعيها الحضاري، وإما نتيجة تدخل أجنبي عن طريق الاحتلال والغزو، وإما نتيجة تداخل الأمرين وتفاعلهما.

غير أن الإصلاح في العالم الإسلامي والعالم الثالث ـ رغم المحاولات الكثيرة ـ ظل مأزوما ومتحكما فيه، ولم يحقق مطلوب الشعوب ومرغوبها لأسباب كثيرة ومتنوعة وتختلف من حالة لأخرى رغم وجود بعض القواسم المشتركة والعامة، منها:

- ضعف مستوى الوعي واستفحال الأمية والجهل، وانتشار الفكر الخرافي والتقليد والجمود وهيمنة الخوف من الإبداع. وقد كان إسهام الحكام والمسؤولين في ذلك كبيرا بسبب القبضة الحديدية على الشعب وخنق أجواء الإبداع والحرية، وبسبب سياسة التفقير والتجهيل والتدجيل والتزييف وكل أشكال الترهيب والتنكيل والتخويف!!

- الحماية الدولية للأنظمة الاستبدادية لكونها أقدر على الحفاظ على مصالح الاستعمار وحلفائه، ولم تحصل الشعوب على استقلالها الكامل بسبب استمرار تدخل الدول الاستعمارية في شؤون مستعمراتها القديمة وتنصيب الأكثر ولاء لها.

- أثر الحرب الباردة في القرن الماضي في تسويغ التدخل في الشعوب وغزوها (حرب الفييتنام والاحتلال السوفييتي لأفغانستان مثلا)، وقد كان للحرب الباردة أثرها القوي في زعزعة الاستقرار في كثير من الدول والشعوب سواء عن طريق الانقلابات العسكرية أو عن طريق الثورات الاجتماعية وبث كل جانب دعاته وأنصاره فكثرت الأحزاب والطوائف التابعة للغرب الاشتراكي أو الرأسمالي، لكن القاسم المشترك بين هذه التغييرات وبين الأنظمة المطاح بها واحد هو توهيم الشعوب بالحرية والكرامة والاستقلالية، ومطاردة الرأي المخالف وإبادته بكل أنواع الإبادة والتسويغ، واحتكار السلطة والعنف باسم الديمقراطية وحماية الأمن، فكان كل من الحكام والثوار في خدمة الاستعمار خدمة العبد لسيده، وما وقف أحد مع مصالح الشعوب إلا في الخطابات الرنانة والشعارات البراقة!!

غير أن الشعوب العربية والإسلامية علمتنا أن الحياة باقية فيها ما بقي الإسلام فيها، وأثبت الشعب التونسي والمصري وغيرهما أن القهر لا يقتل، وأن الكرامة فيها لم تمت ولم تندثر، وأثبتت الثورة الـمعلوماتية والإعــــلامية الجديدة -التي خرقت الحدود رغم كل القيود، ودخلت كل البيوت وجعلت الدول والحكومات أوهن من بيت العنكبوت- أنها سلاح ذو حدين فهي أداة للتحكم والعولمة والأمركة كما أنها أداة للتحرر والخير والبركة في كل ثورة وحركة، فبدأت ملامح التغيير ورياح الإصلاح تخرج من كل بيت تجري بسرعة لم تكن معهودة لأحد، وبدأت العواصف والإعصارات تهب من الشعوب على حكامها وعلى صانعي الفوضى الخلاقة في العالم رافضة كل مظاهر الظلم والاستبداد، ورافضة كل أشكال سرقة الثورة من أحزاب وهيئات عرفت بولائها للغرب أو من الغرب ذاته الذي ظل يتستر على مفاسد رموز الاستبداد ويصر على اعتبارهم أصدقاءه وحلفاءه ويحميهم، بــل كثيــرا ما كــان الغرب -ولا يزال إلى حد اللحظة وفي المنظور القريب على الأقل- حجرة عثرة في وجه الإصلاحات التي كانت تنطلق من إرادة شعوبنا الإسلامية ومن أصولها الإسلامية وثقافتها الخاصة، واليوم نسمع تسابق العواصم الغربية وزعمائها للإعلان عن وقوفها مع مطالب الشعوب العربية في الإصلاح والتغيير وضم صوتها لصوت الشعوب في المطالبة برحيل الحكام المستبدين!!!

والناظر في التاريخ الحديث يلحظ بجلاء دور الغرب الاستعماري -سابقا وحاليا- في إجهاض كثير من حركات الإصلاح أو التحايل عليها أو مقاومتها أشد مقاومة مثل تحالفه مع محمد علي للقضاء على الدعوة الـوهابية بين سنوات 1818-1811، وقضائه على مشروع محمد علي بعد ذلك بعد 1840، وقضائه على ثورة أحمد عرابي في مصر والأمير عبد القادر في الجزائر، ومحمد بن عبد الكريم الخطابي في المغرب وجمعية العلماء المسلمين في الجزائر وقتل الإمام حسن البنا… والقائمة تشب عن طوق الحصر، وحاليا كان الغرب وراء زرع الكيان الصهيوني وإجهاض المسلسل الديمقراطي في الجزائر وفلسطين والأردن ومصر، وغزو العراق وتحطيمه ونهب خيراته، واحتلال أفغانستان مرتين مع السوفييت ومع الأمريكان، ومساندة أنظمة حاكمة فاقدة للشرعية بمقاييس الغرب ذاته، والقائمة أكبر من أن تحصر!!

واليوم يشهد العالم الإسلامي من جديد مطالب ملحة للإصلاح نابعة من إرادة الشعوب في العيش الكريم والتخلص من الهيمنة المهينة لكثير من الأنظمة الحاكمة المستبدة وللغرب ذاته.

لكن بقدر ما تلوح بوادر الإصلاح بقدر ما يلفها الظلام وتحاول كثير من الغيوم حجبها والالتفاف حولها سواء من قبل كثير من الطامعين من أبناء الوطن الذين هم إفراز طبيعي لعهود الظلم والفساد والانتهازية! أو من قبل الغرب نفسه وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل التي تبادر إلى تطليق أصدقائها بالطلاق الثلاث بمجرد ما تلوح ملامح غضب الشعب وتركب موجة التظاهر بنصرة مطالب الشعوب والدفاع عنها، وهي في نفس الوقت تستعد ـ أو لنقل ـ تعد سلفا مخططات الانقضاض على مكتسبات الثورة والحيلولة دون تحقيق إرادة الشعوب حتى لا تنفلت الأمور من بين يديها!!

إن الشعوب المسلمة اليوم في مأزق من الظلم مزدوج: ظلم الحكام والمسؤولين في الداخل، وهيمنة أخطبوط الاستبداد الأمريكي ومعه الدول الكبرى من الخارج. ولذلك فيصعب تحقيق أي نصر أو استقلال أو كرامة أو تنمية في غياب استحضار جميع الفاعلين الدوليين حلفاء وأصدقاء وبمختلف مراتبهم وحجم قوتهم وتدخلاتهم وثقل مصالحهم.

لذا فالمطلوب اليوم تضافر الجهود لحماية شعوبنا وبلداننا من الانزلاق في مخاطر العنف الخلاق والفوضى المنتجة لمزيد من التدخل الأجنبي وتدويل قضايانا والوصاية علينا واعتبارنا دوما ذلك “الرجل المريض” الذي يصنع كل مرة لشرعنة التدخل وفرض التغيير الخادم لمصالح غيرنا، وذلك من خلال :

- التسريع في وتيرة الإصلاحات بجميع أنواعها ومراتبها واسترجاع جو الثقة والتقدير بين أبناء الشعب الواحد لسد الطريق أمام كل المفسدين والطامعين في الداخل والخارج.

- تحصين البلاد بالعدل والحرية والكرامة وتوفير الضمانات الحقيقية الكفيلة بتحقيق الإصلاحات الفعالة والشاملة، واتخاذ معالجات شمولية مناسبة للمرحلة بدل الاكتفاء بالمعالجات الأمنية الوحيدة والتي كانت وراء كل مظاهر الفساد والشطط والتجاوزات ووراء كل مظاهر الاحتقان السياسي والتطرف والعنف المتبادل.

- مراعاة خصوصية بلداننا الإسلامية ومطالب جماهيرها المسلمة في العودة إلى الإسلام وتطبيقه، والتمكين للدعاة للتعريف بالإسلام ونشر تعاليمه السمحة والإسهام في التربية والتوجيه والإصلاح، والإسهام في القضاء على كثير من مظاهر التمييع وتزييف الوعي والتفسخ الخلقي والفساد التي انتعشت في العهد الذي بدأنا نودعه.

- تحرير البلاد من كل أشكال التبعية المهينة للغرب اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، وتربية أجيال مسلمة قادرة على حماية مصالح بلدانها بروح وطنية صادقة والحوار العقلي الرصين القائم على الندية والاحترام المتبادل والدبلوماسية الفاعلة والناجعة في نظام عالمي جديد بدأ يتخلق، وبدأت أقطابه تتعدد، وبدأ عصر الهيمنة الأمريكية وحلفائها يتبدد. فهل تكون الأمة المسلمة شعوبا وحكومات في مستوى الاستجابة للتطلعات والتغيرات الجديدة؟!

وهل ستكون قادرة على حماية مشاريعها الإصلاحية الحالية من الإجهاض والإجهاز كما أجهضت الاصلاحات السابقة؟!

د. الطيب الوزاني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>