لا نعني النظام التونسي ولا المصري، فهذه قصة لم تدوّن بعد، ولم تكتمل فصولا، ولم تصبح كتابا. إنما المقصود هو (نظام) الشاه محمد رضا بهلوي، امبراطور إيران حتى أواخر السبعينات من القرن الماضي.. فقد أشرنا غير مرة إلى كتاب مهم هو ((أمريكا وإيران)) الذي ألفه وليم ساليفان آخر سفير أمريكي في طهران في عهد الشاه. فهذا الكتاب يحكي ـ بالتفصيل والتحليل ـ نهايات نظام الشاه الإيراني.
لنقرأ معا:
1- يقول ساليفان عن خبرته في التعامل مع المستبدين: ((سألت الوزير فانس عن سبب اختياري لسفارة طهران، وأنا أكاد أجهل كل شيء عن إيران وتلك المنطقة؟. أجاب الوزير بما مضمونه: أن الأمر الأساسي الذي أخذ بنظر الاعتبار لاختيار سفير جديد في طهران، كان مسألة التعرف والتعامل مع نظام استبدادي وحاكم قوي الشخصية مطلق السلطة، وهو أمر يحتاج إلى خبرة وتجارب دبلوماسي محترف، سبق له الخدمة في بلاد مماثلة ونظم مشابهة)).
2- ويقول عن إصلاحات الشاه غير الناجحة: ((قرر الشاه إنفاق الجزء الأكبر من عائدات النفط على برامج التصنيع لتصبح إيران بحلول 2000 ميلادي (الدولة الصناعية الخامسة الكبرى على وجه الأرض)، وأخذ يعمل بسرعة متناهية، وبمزيد من الصرامة والقسوة لتحقيق هذا الحلم الطموح، ولكن التسرع في تنفيذ خطة الشاه تسبب في حدوث إخفاقات في الإجراءات البيروقراطية، مما أدى إلى تعطيل المشاريع وتعقدها والإضرار بمصالح الناس وتكبدهم خسائر مالية كبيرة)).
3- ويقول عن تدابير أمن النظام: ((كان جهاز السافاك في بداية قيامه جهازا للاستخبارات ومكافحة التجسس مثل أي جهاز آخر في الدول الغربية.. ثم تحول من جهاز مخابرات ومكافحة الجاسوسية إلى جهاز بوليسي سياسي في الداخل. وبذلك ارتد السافاك إلى التقليد الفارسي القديم وممارسة جرائم القتل والتعذيب واختطاف الناس وتصفيتهم، ومحو كل أثر لهم وغير ذلك من الممارسات اللاإنسانية)).
4- ويقول عن توسيع نشاط سفارته والاتصال بالمعارضة: ((دفعني حادث معين لأن أقرر ضرورة قيام السفارة بشكل جدي بإقامة علاقات واسعة برجال السياسة المعارضين للنظام، وذلك بواسطة زملائي وأعواني من الموظفين الدبلوماسيين في السفارة. وهكذا أصبح لسفارتنا مع نهاية فصل ربيع 1978 علاقات واتصالات واسعة ومتينة مع المعارضة السياسية.. وعندما تبدل الوضع خلال ربيع عام 1978 بسبب المظاهرات الجماهيرية، تحركت السفارة بسرعة وتمكنت من إقامة علاقة جيدة مع المعارضة بسرية تامة.. كان بعضهم تبدو عليه الدهشة عندما يكتشف تعاطفنا معهم في المشاعر.. وفي حفل خاص أشاد جامعي إيراني معارض بالجهود التي يبذلها الرئيس كارتر في سبيل حقوق الإنسان)).
5- ويقول عن لقاء خاص وعاجل مع الشاه في لحظات الكرب: ((عدت من إجازتي، وكان الجو في إيران متوترا جدا، عدت فالتقيت بالشاه الذي وجدته حزينا وقلت له: ماذا جرى لك؟.. أخذ يحدثني: أن حوادث عدة وقعت في البلاد، وهي عمليات هدامة وتخريبية تستهدف النيل من هيبة حكومته ونظامه ثم التفت إلي وقال إنه أطال التفكير بكل روية فيما حدث ويحدث في إيران، وأنه خرج بنتيجة واحدة هي: أن هناك مؤامرة ضده، تحركها الأيادي الأجنبية من وراء الستار. ثم قال: إن هذه المؤامرة هي أكبر من إمكانات المخابرات السوفيتية. وقال: إنه يفهم أن تتآمر عليه بريطانيا، ولكنه لا يستطيع أن يفهم لماذا تشترك الولايات المتحدة في مؤامرة ضده وضد نظامه.. ما الذي فعلته لأستحق من الولايات المتحدة مثل هذه المعاملة السيئة))؟
6- ويقول عن تقديرات الشاه الخاطئة للأزمة: ((كان كثير من المحللين يرجعون التذمر إلى أسباب معينة منها: البؤس والفساد والتمزق الاجتماعي، ولكن للشاه تفسير مختلف وهو: أن سبب الأزمة هو تحريض رجال الدين عليه، والمؤامرة الأجنبية ضده)).
7- ويقول عن ترجيح سقوط نظام الشاه: ((كان افتراضي أن هناك احتمالا بحدوث شيء يفقد الشاه معه حكمه، لذلك كان غرضي الاحتفاظ للولايات المتحدة بعلاقة كافية للحد من فرص السوفيت التي تنجم عن نجاح الثورة. كان علينا إبقاء عيوننا مفتوحة لمتابعة التطورات التي تطرأ على هذا النشاط السياسي المتعدد الاتجاهات والأهداف. وخلال شهري (تشرين الثاني) و(كانون الأول) وقعت أحداث عززت مخاوفي حول مستقبل الشاه ونظامه، وبات علينا أن نتخذ الاحتياطات الضرورية لمرحلة ما بعد ذهابه)).
8- ويقول عن التصور الأمريكي للبدائل: ((كانت هناك خطة عرضتُها على واشنطن، تصورت فيها قيام وضع جديد في البلاد، يضطر معه ليس الشاه فحسب، وإنما معظم كبار القادة العسكريين إلى مغادرة البلاد، ومن ثم يصبح من الممكن أن تتفاهم قيادة عسكرية جديدة تتألف من ضباط أصغر سنا مع القيادة الدينية على شكل النظام الذي سيخلف نظام الشاه. وفي مثل هذه الحال ينتخب آية الله خميني حكومة جديدة برئاسة شخصية سياسية معتدلة مثل بزركان أو ميناتشي)).
9- ويقول عن تحريض أمريكا الجيش الإيراني للتخلي عن الشاه: ((أرسلت واشنطن الجنرال (هوزر) إلى إيران لكي يضغط على كبار القادة العسكريين الإيرانيين، من أجل تحويل ولائهم من شخص الشاه إلى رئيس الحكومة المرشح شهبور بختيار.. وفعلا وصل الجنرال هوزر على متن طائرة عسكرية للنقل تحمل بعض المواد والأدوات للبعثة العسكرية الاستشارية في إيران، وصل في سرية تامة يرتدي حلة مدنية في غرفة القيادة.. وقد أطلعني هوزر على التعليمات التي تسلمها عن مهمته في إيران، وكان من جملتها التأكيد للمسؤولين في القيادة العسكرية الإيرانية، أن حكومة الولايات المتحدة ستواصل الدعم للجيش الإيراني بمختلف صفوفه وأسلحته، أثناء الفترة الدقيقة والحرجة بعد رحيل الشاه وتسلّم بختيار زمام السلطة. والأمر الآخر المطلوب هو تقوية معنويات الضباط الإيرانيين بهدف التغلب على مشاعر الإحباط وكذلك نقل يمين الولاء الذي أدوه للشاه إلى السلطة المدنية الجديدة)).
10- ويقول في نقد ذاتي لموقف بلاده وسياستها: ((في قصة حياته التي كتبها في المنفى عام 1981، يبدو للقارئ أن الشاه كان يتصور أن الولايات المتحدة لديها خطة ما لإنقاذ بلاده. ولربما أيضا الإبقاء على النظام الملكي في إيران، ولذلك وبناء على هذا الافتراض، فإنه كان مستعدا لتقديم تضحية شخصية في سبيل تحقيق هدف أكبر، ولكن الشاه اكتشف فجأة أننا لا نملك أية خطة أو مشروع أو فكرة، وأن النزوات والأهواء هي التي تقود وتوجه سياستنا)).
والسؤال: أين التحليل والتعليق؟ والجواب: أولا: لكي يتصور القارئ الكتاب وكأنه قد قرأه، آثرنا نقل فقرات مشبعة منه.. ثانيا: ولهذا السبب ذاته لم تتسع المساحة للتحليل والتعليق.
> الشرق الأوسط 2011/2/12
ذ. زين العابدين الركابي