ب- مذهب المانعين
إن وظيفة الدعوة إلى الله، في سلك العاملين لدين الله من الذين أنعم الله عليهم من العلماء والدعاة والوعاظ، تولد في نفس الداعية الواعظ الحذر والتخوف، إذ أنه يبلغ دين الله، وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتهيب الزيادة والنقصان في كلام خير الأنام، ليكون في مهمته محسنا غير مسيء، ومأجورا غير مأزور.قال الأعمش رحمه الله تعالى : كان هذا العلم عند أقوام، كان أحدهم لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يزيد فيه واوا، أو ألفا، أو دالا.
وعن معن بن عيسى قال : كان مالك رضي الله عنه يتقي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الباء، والتاء، ونحوهما.وفي رواية : كان مالك بن أنس(1) يتقي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين التي والذي، ونحوهما.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، إذا سمع الحديث لم يزد فيه ولم ينقص منه، ولم يجاوزه، ولم يقصر عنه(2).لقد أعطوا نماذج رائعة في الاحتياط والتوقي عند تبليغ العلم ليقرروا درسا بليغا في ذلك لطلابهم، والدعاة من بعدهم.
وروى الخطيب البغدادي بسنده أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلمقيل له : مالك لا تحدث كما يحدث فلان وفلان؟ فقال : ما بي ألا أكون سمعت مثل ما سمعوا، أو حضرت مثل ما حضروا، ولكن لم يدرس الأمر بعد، والناس متماسكون، فأنا أجد ما يكفيني، وأكره التزيد والنقصان في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3). ومن هنا قرر العماء أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتمل الزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير، ولا التبديل والتغيير، إذ أن كل كلمة وحرف في كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم
لها غرض وغاية، وهذا ما ينبغي معرفته لدى الوعاظ، وإلا ضاعت مقاصد الهدي النبوي الشريف، وحينئذ لم يرجع الواعظ بطائل.
قال صلى الله عليه وسلم
للبراء بن عازب : يا براء كيف تقول إذا أخذت مضجعك؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم، قال : إذا أويت إلى فراشك طاهرا فتوسد يمينك، ثم قل : اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت فقلت كما علمني، غير أني قلت : وبرسولك، فقال بيده في صدري : وبنبيك، فمن قالها من ليلته ثم مات، مات على الفطرة. الحديث متفق عليه.
فلم يسمح له النبي صلى الله عليه وسلم بتبديل نبيك برسولك، لأن البراء رضي الله عنه قد نقص وصف النبوة، وهو أخص صفات الأنبياء عليهم السلام، ووصف الرسول مشترك، ألا ترى أنك تقول لمن تخاطب : يا فلان قد أرسلت لك رسولا، ففهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الدرس، فأبوا الزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير في كلام سيد المرسلين(4).
بل كان رضي الله عنه يعتبر تبديل كلمة بأخرى في متن الحديث مع العلم بالتغيير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن عبيد بن عمير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “مثل المنافق مثل الشاة الرابضة بين الغنمين”. فقال ابن عمر : ويلكم لاتكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال : مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين رواه مسلم.
ذ. عبد الحميد صدوق
——–
1- هو مالك بن انس شيخ الإسلام وحجة الأمة أبو عبد الله ولد عام موت أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم
، جلس للفتيا والإفادة وله إحدى وعشرين سنة، ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكا في العلم والفقه والحفظ مات 179 ودفن بالبقيع.
2- الكفاية في علم الرواية.
3- الكفاية في علم الرواية ج 1 ص 505.
4- فلهذا منعوا السماع في حالة المذاكرة وهي : الحالة التي يتذاكر فيها أهل العلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
في مجالسهم، فإنهم حينئذ لا يحرصون على الدقة في آداء الرواية لأنهم لا يقصدون السماع منهم، وإنما هي مذاكرة الحديث فقط، ومراجعة حفظه، ولذلك منع أهل العلم الأخذ عنه حال المذاكرة، وقد حكى ابن الصلاح عن ابن مهدي، وابن المبارك، وأبي زرعة، المنع من التحديث بها، لما يقع فيها من المساهلة، وكانوا إذا حدثوا بما سمعوا في المذاكرة، قالوا : حدثنا فلان مذاكرة. أو “في المذاكرة”.