المعيشة الضنك مخشى النفوس بالفطرة
…القانون اليوم قانون المعيشة الضنك، سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه كان يقول “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه” ولعل اختيار هذا القانون من هذا القبيل. المعيشة الضنك لا يتمناها أحد من بني البشر، بل إن كل الناس تنفر نفوسهم من المعيشة الضنك، حياة الشقاء، حياة القلق، حياة الضياع، حياة السوداوية، حياة التشاؤم، حياة الإحباط، حياة اليأس.
الإعراض عن ذكر الله
قانون المعيشة الضنك
المعيشة الضنك لها قانون في القرآن الكريم، ومرة ثانية… حينما تتعامل مع جهة قيادية في الأرض، مزاجية، ترضى بلا سبب، أو ترضى لسبب تافه، وتغضب بلا سبب، أو تغضب لسبب تافه؛ التعامل مع هذه الجهة القيادية متعب جدا، أما حينما تتعامل مع جهة قيادية لها قواعد ثابتة وواضحة في التعامل معها، تعلم ما الذي يرقى بك عند هذا الإنسان، وما الذي يهوي بك عند هذا الإنسان، التعامل مع جهة قيادية وفق قواعد ثابتة شيء مريح جدا للإنسان؛ لذلك من فضل الله علينا أن الله سبحانه وتعالى وضع قواعد تشبه القوانين، هذا الذي دفع إلى تسمية هذه القواعد في القرآن الكريم “قوانين القرآن الكريم” فلكل وضع مصيري خطير في حياة الإنسان قانون ثابت، له مقدمات وله نتائج؛ من هذه القوانين قوانين المعيشة الضنك، عيش الشقاء، عيش الضياع، عيش الإحباط، عيش الإخفاق، عيش السوداوية، عيش التطرف، عيش الانهيار. المعيشة الضنك لها قانون، من أين نجد آية في كتاب الله تشير إلى المعيشة الضنك كقانون؟
الله عز وجل حين يقول : {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامةأعمى}(طه : 124)… لعل صياغة “منْ” كاسم شرط جازم لها فعلان الأول فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه، ولا يقع الثاني إلا إذا وقع الأول، هذه الصياغة في اللغة العربية تشير إلى القانون، وكأنه قانون مطرد، يقع في كل زمان ومكان “ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا” المعيشة الضنك سببها الإعراض عن ذكر الله جل جلاله.
الذكر روح العبادة والصلاة مخ السعادة
الله عز وجل يقول : {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري}(طه : 14) الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين…لذلك يقول الله عز وجل : {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} تسعد القلوب، تطمئن، تشعر بالراحة، تشعر بالسكينة، تشعر بالتفاؤل، تشعر بحفظ الله، بتأييد الله، بنصر الله، بتوفيق الله؛ كل هذه المشاعر المسعدة التي هي سبب النجاح في الحياة، بسبب الاتصال بالله عز وجل.
…حينما قال الله عزوجل : {وأقم الصلاة لذكري}… وفي آية أخرى : {أقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر}(العنكبوت : 45) ولذكر الله أكبر إشارة إلى أن أكبر ما في الصلاة ذكر الله، هذا رأي بعض المفسرين، ولكن هناك مفسرون آخرون لهم اجتهاد في فهم هذه الآية… قال هؤلاء العلماء: إنك حينما تصلي أيها المؤمن إنك تذكر الله، وذكر الله الذي تذكره هو واجب العبودية تجاه الله عز وجل، لكن ذكر الله لك وأنت تصلي أكبر من ذكرك له، بمعنى أنك إن ذكرته أديت واجب العبودية نحوه، لكن الله سبحانه وتعالى إذا ذكرك ما الذي يحصل؟ إذا ذكرك الله عز وجل منحك الأمن قال تعالى : {فأي الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}(الأنعام :81) إن الله سبحانه وتعالى إذا ذكرك منحك الحكمة “ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا}(البقرة : 229) بالحكمةتسعد بدخل محدود، ومن دون حكمة تشقى بدخل غير محدود، بالحكمة تجعل العدو صديقا، ومن دون حكمة تجعل الصديق عدوا، بالحكمة تسعد بزوج من الدرجة الخامسة، ومن دون حكمة تشقى بزوج من الدرجة الأولى، لأن الله سبحانه وتعالى يقول {ومن يوت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا}.
ما سبب المعيشة الضنك؟ الإعراض عن ذكر الله “وأقم الصلاة لذكري” فالذكر هو الصلاة كما أرادها الله عز وجل، الصلاة التي يشفى الإنسان من أمراضه من خلالها، الصلاة التي يرقى بها إلى الله، الصلاة التي يسعد بها، الصلاة التي ينسى بها الدنيا وهو في صلاته التي أرادها الله عز وجل، إن الله سبحانه وتعالى إذا ذكر المؤمن في الصلاة منحه الحكمة، منحه الأمن، منحه الرضا، منحه التفاؤل، منحه كل الصفات التي تسعده، فلذلك حقيقة الصلاة أن ترقى بها إلى رب الأرض والسماوات.
المعيشة الضنك ضيق القلب وسخط الرب
…هذا قانون {ومن اعرض عن ذكري فإنله معيشة ضنكا} هذا القانون مطرد، أي شامل لكل مكان وزمان، ومع كل إنسان، قد يسأل سائل: ما بال الأغنياء والأقوياء هم يعيشون معيشة ضنكا؟ أجاب علماء التفسير: إن المعيشة الضنك للأقوياء والأغنياء هي ضيق القلب، لذلك قال أحد العارفين بالله وقد كان ملكا “لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف”.
…يقول الله عز وجل : {إن الانسان خلق هلوعا}(المعارج : 18) هكذا خلقه الله عز وجل، هناك نقطة في أصل خلقه، نقطة ضعف {إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين}(المعارج : 19- 20) نقاط الضعف التي في خلق الإنسان، والتي قد تحيل حياته إلى معيشة ضنك، المؤمن معفى منها {إن الانسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين}.
…كتعليق لطيف قالوا في علم المنطق: الصفة قيد، يعني إذا قلت إنسان، هذه الكلمة تغطي ستة آلاف مليون، أما إذا قلت إنسان مسلم: مليار ونصف، أما إذا قلت إنسان مسلم عربي، أما إذا قلت إنسان مسلم عربي مثقف، أما إذا قلت إنسان مسلم عربي مثقف طبيب، أما إذا قلت إنسان مسلم عربي مثقف طبيب جراح، كلما أضفت صفة ضاقت الدائرة، فهؤلاء المصلون الذين نجوا من المعيشة الضنك، من هم؟ قال تعالى : {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون}(المعارج : 21- 26) كلما أضفنا صفة ضاقت الدائرة {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهادتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون}(المعارج 27- 33).
إذن المعيشةالضنك معيشة الشقاء واليأس، والإحباط والسوداوية والتشاؤم، معيشة ينفر منها أي إنسان، وهذه المعيشة قانونها في القرآن الكريم هو الإعراض عن ذكر الله، وذكر الله في حقيقته الصلاة التي فرضها الله على كل المؤمنين، بالصلاة يرقى الإنسان إلى رب العالمين… كما قال سيدنا حذيفة “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه” والمعيشة الضنك ينبغي أن يبتعد عنها كل إنسان حينما يبتعد عن الغفلة عن الله، وحينما يحكم صلته بالله… إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى…
لخبير الجمال الدعوي الدكتور محمد راتب النابلسي
> أعده للنشر ذ. عبد المجيد بالبصير