رؤيـة مـتـوازنـة


إن القرآن الكريم يقدم رؤيةً للإنسان، أو تقييما له بعبارة أدق، تتميز بالشمولية والواقعية والنفاذ، على خلاف المذاهب والمبادىء الأخرى التي رفعته إلى السماوات أو انحدرت به إلى الحضيض.. كيف لا وهذا التقييم القرآني يصدر عن الله سبحانه الذي هو أعلم بمن خلق والذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟!

إن القرآن الكريم يحدثنا في أكثر من موضع عن المكانة السامقة التي منحها الله للإنسان حيث طلب من الملائكة أن يسجدوا له.. ويحكي لنا في أكثر من موضع عن تسخير العالم لهذا الكائن المتفرد ووضعه بطاقاته الهائلة وكنوزه المتدفقة في خدمته.. بل أنه يحسم المسألة بهذه الآية القاطعة {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}.. وهكذا يتبوأ الإنسان مركزه المتقدم في الأرض سيدا للعالمين، فهو يُخضِع ولايَخْضَع، يصوغ ولا يُصاغ، يخطط وينفذ ولا يُتَّخذ مجرد أداةٍ طيعةٍ لتنفيذ خطط الطبيعة ومتطلبات العلاقات المادية كما ترى بعض المذاهب الوضعية..

إن الذي يمسك بزمام المبادرة، الذي يبدأ الفعل ويعطيه ملامحه النهائية في هذا العالم، هو الإنسان وليست المادة بحال من الأحوال.

ومن أجل ذلك كله كان الإنسان عامة، والإنسان المؤمن على وجه الخصوص، غالياً عزيزاً عند الله لأنه كلمته الفاعلة في الأرض وإرادته النافذة في العالم.. ومن أجل ذلك كان قتل الإنسان وصده عن أداء دوره (خطأ كبيرا).. أكثر من هذا، أنه قتل للناس جميعاً، لأن جريمة القتل تجيء هنا موجهة ضد بني آدم سواء حصدت منهم واحدا أم مئات أم ألوفا {من اجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فسادٍ في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن احياها فكأنما أحيا الناس جميعا}.. ومن أجل ذلك أعلن القرآن الكريم {وما كان لمومن ان يقتلمومنا إلا خطئا} {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه، ولعنه وأعد له عذابا عظيما}..

لكن القرآن الكريم لا يقف عند هذا الجانب من الصورة بل يحدثنا عن وجهها الآخر.. إنه كلمات الله، وهي تجيء دائما شاملةً، محيطةً، تتعامل مع (الموقف) تعاملا موضوعيا خالصا، على خلاف المذاهب والنظريات الوضعية، فتتفحصه من كافة أطرافه وتتمعن في علاقاته ومكوناته من كل زوايا الرؤية التي تقود إليه.. صحيح أن القرآن الكريم يعلن بوضوح -على المستوى الأفقي- تفضيل الإنسان على سائر خلق الله وسيادته على العالمين.. إلا أنه لا يترك مسألة التوغل العمودي في أعماق الإنسان وتكوينه الذاتي المتشكل عن نفخة الروح العلوية في قبضة الطين السفلية.. إن هذا التشكل الثنائي كما أنه يمنح الإنسان الحرية والمقدرة، ويخلق في نفسه مطامح النزوع إلى الاستعلاء، فإنه -من جهة أخرى- يشده إلى الأرض، وإلىالمادة، ويقيم بينه وبين غرائزه وشهواته علاقات متشابكة ومراكز ثقل تسحبه دائما إلى أسفل مهما سعى للنزوع إلى أعلى.

إن كتاب الله، بتوغله العمقي هذا في كيان الإنسان، يحدثنا في أكثر من موضع، وبمواجهة إعلانه الأول عن تفضيل بني آدم وسيادتهم، عن نقاط الضعف والسلبية في سلوكية الإنسان.. أولاً لكي يوقفه على حقيقته فلا يشذ ولا يطغى معتقداً أنه قادر على صياغة أي شيء وإنجاز ما يريد.. وثانيا لكي يستفز فيه قوى التحدي والمقاومة والاجتياز للتفوق على ضعفه وعجزه والتوغل أكثر في قالب العالم، وهو أشد قوة وأمضى عزيمة وأعمق توحدا في نسيجه الروحي – المادي على السواء، وثالثاً لأن الإنسان – وبموضوعية تامة – هكذا خلق، يحمل في اللحظة الواحدة والموقف الواحد عناصر قوته وضعفه، ما دام قد ركب وفق هذا الأسلوب، وما دام قد أراده الله أن يكون بشرا يصارع ويقاوم في الداخل فيما يسميه الرسول صلى الله عليه وسلم

(الجهاد الأكبر) وفي الخارج فيما يعرف بالجهاد.. لا مجرد ملك يتلقى ويستلم ويطيع!! {ويدعو الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان عجولا} {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا} {إنا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا} {إن الانسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين..} {لقد خلقنا الانسان في كبد} {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير}.

وفي سورة التين يطرح القرآن المعادلة البشرية بطرفيها {.. لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات..} لكي يبين لنا أن هذا الضعف ليس أبدياً فينا، وأن بإمكاننا أن نتجاوزه ونتفوق عليه. ولئن جاءت المعادلة في هذه السورة على مستوى النشاط البشري كله، فإن القرآن في سورة الأنفال يعرضها محددةً في إطار الصراع والقتال ضارباً بها التفسير المادي لتقابل القوى، مؤكداً في الوقت نفسه على قوة الإنسان وعلى ضعفه اللذين ينبثقان عن تركيبه وكينونته لا عن أية فرضية خارجية {ان يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وان يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون، الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين، بإذن الله، والله مع الصابرين}..

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>