تخليداً لذكرى الهجرة النبوية الشريفة نظم المجلس العلمي لفاس يوم 25 محرم 1432هـ ندوة في موضوع : “الهجرة النبوية سبيلنا إلى استنهاض الأمة الإسلامية”.
وقد ترأس الندوة الدكتور الوزاني برداعي في حين شارك العلامة عبد الحي عمور بمداخلة اختار لها عنوان : “قيم الهجرة سبيلنا إلى استنهاض الأمة” تلاه الدكتور عبد الحق ابن المجدوب الذي اختار الحديث عن : “أسس بناء الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة”.
وأما الدكتور محمد أبياط فقد سَلك شِعْبَ الجمهور الحاضر وآثره على نفسه في سابقة هي الأولى من نوعها، لقد طلب من كل الحاضرين أن يتناولوا ورقة وقلماً لتدوين أسئلة ألقاها على مسامعهم بخصوص موضوع الندوة وطلب من مسيرها أن يتولى تدبير شؤون هذه السنة الحسنة التي تفاعل معها الجمهور واستحسنها بعد أن فسحت له المجال للتعبير عن رأيه.
قيم الهجرة سبيلنا إلى استنهاض الأمة
> العلامة عبد الحي عمور
رئيس المجلس العلمي لفاس
إن لله تعالى في أمة الإسلام أياما مجيدة، وللإسلام في هذا العالم ذكريات عظيمة لا تبلى مع مرور السنين والأعوام، ويحق للمسلمين أن يعتزوا بها كلما حلت، ويستحضروا مغازيها وعبرها وقيمها كلما أهلت. يجددون فيها العهد مع دينهم بما يرفع من شأن حياتهم ويطهر نفوسهم ويعيد إليها الصفاء والنقاء والطهر، ويضفي عليها الخير والبركة والنماء، ويحيي فيها روح المودة والإخاء، ويجعلها في مرضاة الله وطاعته.
ومن هذه الذكريات المجيدة العطرة، الحافلة بالدلالات والعبر الزاخرة والمغازي والقيم، ذكرى الهجرة النبوية التي تحل علينا كل عام، فتحيي النفوس، وتستنهض الهمم وتذكي المشاعر، وتقوي الإيمان، وتنتشي بأريجها القلوب المومنة، والنفوس المطمئنة، يجدد المسلمون فيها صلتهم بربهم التي لاتخضع الرقاب إلا له تعالى، ويحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا، ويزنوا أعمالهم قبل أن يوزنوا كما قال الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.
إن خلود هذه الذكرى وإحياءها والاستبشار ببزوغ فجر جديد لها، له دلالات كثيرة وعبر عديدة وقيم خالدة ينبغي أن تستحضرها النفوس، وتسترشد بها العقول في زمن استغفلتنا فيه دوامة الحياة فشغلتنا عن بعض حق الله علينا وواجبنا إزاء أمتنا الإسلامية.
إن الذكرى ترمز في تاريخها البعيد إلى بداية نشأة هذه الأمة التي بدأت بالهجرة النبوية الشريفة، وبداية تقويم تاريخها. تلك الهجرة “الوداع الحزين” الذي عبر عنه صلى الله عليه وسلم
بقوله: ((والله إني لأخرج منك وإني لأعلم يا مكة أنك أحب بلاد الله إلى الله تعالى ولولا أن قومك، أخرجوني منك ما خرجت)).
وبداية تاريخ أمتنا بهجرة الرسول يكشف عن معاني كثيرة وقيم جليلة ما ينبغي أن تغيب عنا بل يجب أن نستحضرها ونشيع دلالتها وآثارها بيننا ونتخذ منها منارات وهدايات لاستنهاض أمتنا وإعادة بناء وحدتنا الإسلامية وسوف أتوقف عند بعض تلك القيم والدلالات التي أثمرتها الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة:
أ- الاستخلاف الرباني لأمة الإسلام:
كان الأذى والظلم الذي مارسه كفار قريش على المسلمين المستضعفين في مرحلة الدعوة بمكة المكرمة من دواعي الهجرة التي أثمرت تأسيس الأمة حيث بداية النصر والتمكين الرباني، والاستخلاف الإلاهي لأمة الإسلام، وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض} إنه الاستخلاف الرباني للمسلمين ولأمة الإسلام على من في الأرض جميعا، يبلغون الرسالة ويؤدون الأمانة، لأن الله تعالى أوكل الاستخلاف لمن آمن به وبرسوله، وهو استخلاف ومسؤولية وعهد، ما يزال قائما إذا أخذ المسلمون بأسباب القوة والمنعة والعزة والنصر، وتمسكوا بحبل الله المتين وشريعة نبيه الأمين وهذا يعني من جهة أخرى أن مقادير العالم ومصائر ومرتبطة بأحوال هذه الأمة الإسلامية حتى ليمكن القول بأن ما تعرفه البشرية اليوم من منكرات وشرور وانحرافات، الأمة الإسلامية مسؤولة عنه بحكم أنها لم تعد تمثل الاستخلاف الرباني كما أورثه الله تعالى لهذه الأمة. وفي الهجرة دلالة على حركية الإسلام ودوامه وبقائه، وضرورة استمرار الدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ب- الهجرة النبوية وبداية التغيير:
بدأ المسلمون المهاجرون والأنصار في المدينة حياة جديدة لا خوف فيها، وتهيأ للمسلمين أن يقيموا حياتهم على أساس دينهم وعقيدتهم في اطمئنان بعد خوف وفي حرية بعد عبودية، وكان لهذه الحرية في إقامة الشعائر الدينية أثر كبير في نشر الدعوة وتوطيد دعائمها.
وكان التغيير الذي أحدثته الهجرة في الحياةالعامة شاملا وعاما، لحق الجانب الاجتماعي والأخلاقي والسياسي ظهرت ملامحه وتجلت معالمه عند بداية التطبيق الفعلي لآيات القرآن الكريم في المدينة المنورة، وبدأ بناء مجتمع جديد يستمد قوانينه وضوابطه وتشريعاته من القرآن الكريم يزيل ما بقي من آثار الجاهلية في يثرب، ويؤسس لمجتمع إسلامي قائم على الوحي الإلاهي بقيادة رسول يباشر التشريع ويحكم ويضع أساس بناء الدولة الإسلامية مع صحابته الكرام، فكـــان بحق مجتمعا مدنيا قائما على البلاغ القرآني والهدي النبوي والصحب الكرام من المهاجرين والأنصار حيث خاض الجميع معارك التحول الاجتماعي والاقتصادي والاجتماعي تحرسهم عقيدتهم ودينهم ويقودهم نبي كريم.
ج- عقيدة المومن أساس قيام الأمة :
ومن أجل قيم هذه الذكرى، ومغازيها وعبرها أنها وحدت بين المسلمين وجعلت أخوتهم الحقيقية وآصرتهم التي تجمعهم، هي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومن ثم فإن الذي يربط المسلم بأخيه المسلم في شريعة الإسلام بداية، هو العقيدة والإيمان والدين، حتى إن رابطة العقيدة الإسلامية أقوى من رابطة الجغرافيا والتاريخ بل من رابطة الدم والنسب عند الله تعالى، ولنستحضر في هذا قصة سيدنا نوح عليه السلام مع ابنه إذ قال نوح مخاطبا ربه:”رب إن ابني من أهلي” يريد نجاته من الطوفان، فيأتي الرد الإلاهي ليبين في أسلوب تأكيدي العلاقة الحقيقية التي تربط الأب بابنه:”يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح” هكذا لم يعد الابن ابنا لأبيه بسبب اختلاف العقيدة، وعدم الإيمان بما جاء به نبي الله نوح عليه السلام ومثل هذا قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه “آزر” حيث يقول رب العزة: {فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم}(التوبة:114).
هذه القيمة الإسلامية الإنسانية تعني القضاء على العصبية القبلية والسلالية والعرقية التي هي مندعوى الجاهلية والوثنية، فلا مكان بين الإخوة المسلمين لإحياء النعرات والإثنيات، فلقد تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
من كل هذه النعرات الضالة المضلة حيث قال: ((ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من مات على عصبية)).
لقد جعل الله من الإيمان ملتقى كريما للأسرة الإسلامية، فالعقيدة هي النسب والقرابة والأهل والوطن، وبدون العقيدة الصحيحة المصحوبة بالعمل الصالح: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات…} تتفكك الأسرة والجماعات والأمة، وهذا ما هو عليه حال الأمة الإسلامية الآن، من تفرق وتشتت وتمزق وخصومات، وعداوات، وضعف العقيدة هو السلاح الذي استعمله المستعمرون لتفريق الشعوب الإسلامية في الوطن الواحد حيث أخذوا يفرقون بين أصحاب العقيدة الواحدة بهؤلاء فراعنة وهؤلاء عرب وهؤلاء برابرة… معتمدين على مبدإ “فرق تسد”.
فليذعن دعاة التفرقة في هذا البلد الأمين لحكم الله إن كانوا مسلمينحقا وليومنوا بسنته في الأرض، فلقد جعل الله من الإيمان الإسلامي ملتقى كريما لأمة الإسلام ورباطا يجمع شتـات المسلمين ويقوي صفوفهم ويوحد كلمتهم، وصدق الله تعالى القائل في محكم كتابه: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}(النور :63).
د- قيمة المساواة :
من القيم النبيلة التي برزت وكانت وليدة الهجرة النبوية قيمة المساواة بين المسلمين من المهاجرين والأنصار فلا فضل في المجتمع المسلم لعربي على عجمي إلا بالتقوى وصالح الأعمال: الناس سواسية كأسنان المشط.
وقد تجلت هذه القيمة في مجتمع الإيمان المدني ووجدت السبيل لتطبيقها في حياة الناس جميعا وضم المجتمع المدني الجديد كل الفئات والجنسيات والقبائل والعشائر والألوان من غير تفرقة، فتعايش في صفاء ومودة وإخاء، العربي القريشي مع اليمني والحبشي كبلال مع الرومي صهيب، وسلمان الفارسي الذي قال عنه الرسول صلىالله عليه وسلم: ((سلمان منا آل البيت)) مما تجسدت معه عالمية الإسلام: أجناس وألوان وأنساب ولغات…كلها تتلاقى في مجتمع المدنية وتعمل من أجل نصرة الإسلام تحت راية واحدة وشعار: العقيدة توحدنا والوطن يجمعنا عكس ما أصبحنا نسمع اليوم من العلمانيين وخصوم الإسلام من أن الدين يفرقنا والوطن يوحدنا.
وإن استعادة هذه القيمة: قيمة المساواة مما يجب أن نستحضره في هذه المناسبة: ذكرى الهجرة لتوحيد الصف الإسلامي المتطلع إلى فجر جديد ونهضة إسلامية جديدة تنبعث من ضياء الإسلام وآفاقه الرحبة.
هـ – تنقية العقيدة وتجديد الدين:
إن الهجرة النبوية ليست حادثة عابرة تروى على الأسماع، وقصة تاريخية تردد فصولها الأفواه، لكنها اليوم وفي عالم طغت فيه الماديات على الحياة وضمرت في الإنسان أثر النفحة الربانية والنفخة الإلهية في الأرواح: “حتى إذا سويته ونفخت فيه من روحي”، حق علينا أن نوثق منجديد، صلتنا بديننا ونجدد عقيدتنا مما أصابها من ضعف ووهن، ونحيي ما اندثر من تعاليم ديننا ونخلصه من الأضاليل والأباطيل التي رانت على تديننا بسبب طول عهدنا بهذا الدين، والذي حذرنا منه رب العالمين بقوله عز من قائل: {ولا يكونوا كالدين أوتوا الكتاب من قبل فطال علهم الأمد فقست قلوبهم}(الحديد:15).
والحمد لله الذي جعل تنقية العقيدة وتجديد أمر الدين من خصوصيات هذه الأمة، وسنة من سنن الإسلام، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مــائة سنة من يجدد لها أمر دينها “ومتى كان ذلك، بدأت تباشير النصر والعزة والمنعة”إن تنصروا الله ينصركم)).
والنصر آت بحول الله وقوته على الرغم مما عليه أحوال أمتنا الإسلامية من ضعف وتخلف وتشرذم، فمع ما هي عليه فإن الله تعالى أخبرنا بأننا الأمة المنصورة وإننا الأمة التي كتب لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس، وأنديننا وشريعتنا ستعم العالم، ذلك أن الله تعالى تعهد بحفظ كتاب هذه الأمة وأنه سيبقى الوثيقة التي لا يصيبها تحريف أو تغيير:”إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” ومعنى حفظ الكتاب، بقاء رسالته وهيمنة شريعته وحضارته ولغته على العالم، يقول تعالى مخاطبا صاحب الذكرى: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}(آل عمران: 55).
وهذا ما أخبرنا به الصادق المصدوق حيث قال صلى الله عليه وسلم :((والله ليبلغن هذا الأمر (الدين) ما بلغ الليل والنهار، ولن يبقى أهل مدر ولا وبر إلا دخلوا في الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل))(أحمد في مسنده).
وهذا يعني أننا نمتلك أسباب النهوض والعزة والمنعة، وأن محاولات النيل من هذا الدين بضغط أعدائه وخصومه، سيزيده قوة ونماء وانتشارا، فما علينا إلا أن نأخذ بالأسباب ونتعامل مع سنن الكون ونستثمرها في تجديد عقيدتنا وتنشيط قوة الإيمان في قلوبنا لمواجهة التحديات حتى نسترد عافيتنا {وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد : 11)
والخلاصة فإن القيم والمغازي والدلالات التي جاءت بها الهجرة النبوية وما اشتملت عليه من تشريعات ومبادئ وأخلاقيات رفيعة امحت معها أخلاق الجاهلية البائدة، وحلت محلها أخلاقيات القرآن من وفاء وأمانة وبر وتراحم وإيثار {ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة…} (الحشر:10) هذه القيم حولت حياة الأمة إلى مجتمع تسود فيه المحبة والخير والتسابق إلى فعل المكرمات والبذل والعطاء لم تشهده الدنيا قبل ميلاد هذا المجتمع الذي تولد عن الهجرة وتشبع بقيمها واهتدى بهدي نبيها.
وإن الأخذ بهذه القيم -وغيرها كثير مما يضيق المقام عن سرده -لاستنهاض الأمة، ضروري لحياة جديدة للمسلمين وإعادة بناء الأمة الإسلامية- فتلك القيم هي التي نقلت المسلمين من حالة الضعف إلى حالة القوة، ومن حالة التفرقة إلى حالةالوحدة ومن القلة إلى الكثرة ومن حالة الجمود إلى الحركة.
إن القيم والمبادئ والمفاهيم المشتركة التي تأسست عليه الأمة- هي التي تجمع الكلمة وتوحد الصفوف وتشد الشعوب والمجتمعات الإسلامية إلى بعضها في تماسك وتراص، فهي ميثاق ودستور ولكل أمة قيمها وثوابتها وخصائصها، والأمة التي تفرط في ثوابتها وقيمها، تبقى معرضة للتمزق والتفرقة والضياع والتبعية والذوبان في الأمم الأخرى، وتلك حالة الأمة الإسلامية.
> متابعة : عبد الحميد الرازي