استعمالات اللغة العربية الجديدة إلى أين؟ 11- الاستعمالات الخاطئة تفقد اللغة قيمتها التعبيرية


2- قل… أو قل… واعرف معنى ما تقول

أ- قل الفَرجة بفتح الفاء وسكون الراء، أو الفُرْجة بضم الفاء وسكون الراء، المهم أن تعرف معنى ما نطقت به في سياق بياني أو تواصلي معين، ذلك أن لكل حركة أو سكون دلالته ومعناه الخاص في كثير من البِنْيات في اللغة العربية، ونعني بالبنية هنا الشكل الذي تصاغ عليه الكلمة مجردة عن الحركات. وتغير معنى الكلمة بناء على تغير علامة من علامات شكلها، هو ما أشرنا إليه في الحلقة الماضية بقولنا : إن الحركة قيمة خلافية (المحجة عدد 350). والكلمات التي يتغير معناها بناء على تغير علامة من علامات شكلها أنواع كثيرة في اللغة العربية منها الثنائية أي التي تحتمل حركتين مثل ما نحن بصدده (الفَُرْجة) ومنها الثلاثية مثلفعل (أمَِـُر) بفتح الميم، أو كسرها، أو ضمها… وفي هذا السياق يقول محقق كتاب “الدّرر المُبثّثة في الغرر المثلثة” للفيروز أبادي صاحب القاموس : ((المثلثات في كلام العرب قسمان : قسمٌ يتحد لفظه، ويختلف معناه باختلاف شكله، ومثاله (البرّ)، فإذا فتحت الباء كان معناه الرجل التقيّ، وإذا ضممتها، كان معناه القمح، وإذا كسرتها كان معناه فعل المعروف..))(ص 11) ونمسك عن التمثيل للقسم الآخر لأنه لا يعنينا في هذا السياق.

ولهذا النوع من اللحن (الخطأ) خطورة كبيرة، لأنه ينقلنا من معنى إلى معنى آخر مخالف للأول تماما، لنتأمل كلمة (البرّ) المشار إليها أعلاه في الآيتين التاليتين وهما قوله تعالى : {لن تنالوا البِرّ حتى تنفقوا مما تحبون}(آل عمران : 92) وقوله تعالى : {ولقد كرّمنا بني آدم، وحملناهم في البَرّ والبحر}(الإسراء : 70) فلو قلبنا شكل كلمة (البر) في الآيتين لفسد المعنى تماما.

ويزداد الأمر خطورة عندما نعلم أن معنى كل شكل من بين الشكلين الواردين في الآيتين وارد في القرآن الكريم أكثر من مرة!

(فالبَرُّ) بفتح الباء وارد في اثنتي عشرة آية، و(البر) بكسر الباء في تسع آيات، مما يدل على احتمال تَكرار الخطأ في القرآن الكريم بقدر عدد هذه المرات بالنسبة لمن يرتكب هذا الخطأ مرة واحدة، والسؤال إلى أي حد نهتم بمثل هذه القواعد في مقررات مدارسنا، وبالخصوص ذات التخصص في العلوم الشرعية؟!

أما بخصوص المثال المنصوص عليه في عنوان هذه الحلقة (الفرجة) فنناقشه كما يلي :

أ- الفَرْجة بفتح الفاء وسكون الراء : يبدو أن أول فرق بين الفَرجة بفتح الفاء، والفُرجة بضمها هو المجال الذي يستعمل فيه كل منهما، فالفرجَة بالفتح في المعقول : والفُرجة بالضمّ في المحسوس المشاهد، يقول الكفوي : ((والفرجة بالفتح في الأمر، وبالضم في الحائط ونحوه مما يُرى))(الكليات 698). وهذا التمييزباعتبار مجال الاستعمال هو الغالب في الفرق بين دلالة الكلمتين فيما اطلعنا عليه من المعاجم، يقول الرازي ((والفَرجة بالفتح : التّفَصِّي من الهم ويُشرح معنى التفصّى بقوله : تفَصَّى : تخلص من المضيق والبلية والاسم (الفصْيَة) بالفتح وسكون الصاد.. وتفصَّى من الديون : خرج منها وتخلص))(مختار الصحاح مادة فصا) قال الشاعر :

ربما تكره النفس من الأمْـرِ    له فرْجَة كحل العِقال

ويقول ابن منظور : ((والفَرْجة : الرّاحة من حزن أو مرض.. والفرْجَة : التفصِّي من الهم، وقيل الفرجة في الأمر، والفُرجة بالضّم في الجدار والباب، والمعنيان متقاربان..))(ل ع 331/2 مادة فرج).

ب- الفُرْجَة : اتضح مما تقدم أن مجال استعمال الفُرجة بالضم هو مجال المحسوسات، ولذا ورَدَ عند ابن منظور في النص أعلاه ((والمعنيان متقاربان)). ويؤكد هذا المعنى (أي الدلالة المحسوسة لكلمة الفرجة بالضم) بقوله : ((والفُرجة بالضمِّ : فُرجة الحائض وما أشبهه، يقال بينهما فُرجة. أي انفراج، وفي حديث صلاة الجماعة : “لا تذروا فُرُجات الشيطان جمع فُرجة”، وهو الخلل الذي يكون بين المصلين في الصفوف، فأضافها إلى الشيطان تفظيعا لشأنها، وحملا على الاحتراز منها..))(ل ع /2 مادة فرج).

والسؤال هل الذي يكون أمام منظر يعجبه كمرج من المروج. أو لقطة من شريط سينمائي أو مسرحية، أو مبارة كرة القدم : أمام فُرجة بالضم التي تكون في الحائط أو الباب وغير ذلك من المحسوسات، أم أمام شعور بمتعة ذلك المشهد الذي يسليه، وينفس عنه الهمّ والغمّ، وما أكثر ما نسمع استعمال كلمة فُرجة بالضم أمام المناظر الجميلة والمناظر المسلية وما ذلك إلا للفُرجة التي تفصل بيننا وبين لغتنا، بل وكثير من قيمنا الحضارية؟

ويبدو أن المعجم الوسيط لم يفرق بين الدلالة الحسية والمعنوية لهذه الكلمة ولو تغير شكلها كما رأينا ولذا ألغى الفرجة بفتح الفاء وألحق جميع المعاني بالفُرجة بضم الفاء. وفي هذا السياق جاء فيه ما يلي : (((الفُرجة) صلى الله عليه وسلم ضم الفاء مشكولةرضي الله عنه: الشق بين الشيئين و… انكشاف الهم. و… مشاهدة ما يتسلى به. (محدثة) المنجم الوسيط 679/2 ع 1 مادة فرج).

وإذا صحت هذه الملاحظة التي ظهرت لنا بخصوص المعجم الوسيط فيما يتعلق بتنويع دلالة هذه الكلمة بتنوع شكلها، فإن الأمر يدعو إلى كثير من التأمل، ذلك الأمر لا يتعلق بالمتكلم العادي للغة العربية فيما يتعلق بهذا النوع من الأخطاء، بل يتعداه إلى مستوى الخواص. وعليه يمكن القول بأن (الفُرجة) بالضمّ أصابت جوانب كثيرة من مكونات الأمة، ولذا فهي مقابل ذلك محرومة من الفرجة بفتح الفاء، إلا من رحم الله، اللهم أبعد عنّا أسباب الفُرجة بضم الفاء، وما يقرب إليها من قول وعمل، وهيئ لنا ظروف الفرجة بفتح الفاء وما يقرب إليها من قول وعمل آمين يارب العالمين.    يتبع إن شاء الله.

>           د. الـحـسـيـن گـنـوان

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>