سعادة وأي سعادة تغمر المسلمين رجالا ونساء وتغمر أبناءهم وذويهم عندما يعلمون أن الله سبحانه قد استجاب لرغبتهم ودعائهم في أن ييسر لهم الحج إلى بيته الحرام الذي طالما اشتاقت أنفسهم إليه كلما سمعوا قوله سبحانه : {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}(آل عمران : 97) يرغبون في أن يُتم الله عليهم إسلامهم بأداء هذا الركن العظيم من أركان الإسلام بنية خالصة وعزيمة صادقه يريدون أن يكونوا من أولئك الذين يرفعون أصواتهم بالتلبية (لبيك اللهم لبيك) استجابة لنداء الله سبحانه على لسان أبي الأنبياء عليه السلام {وأذن في الناس بالحج ياتوك رجالا وعلى كل ضامر ياتين من كل حج عميق}(الحج : 27).
ويغادر الحجاج أوطانهم بالعناق والقبلات والدعوات بالسلامة في الذهاب والإياب. وتدخل بهم الطائرات أجواء البلاد الطاهرة فتبدأأرواحهم بالانتعاش حتى إذا وطئوا أرضها واقتربوا من مكة المكرمة أو المدينة المنورة أحسوا بأنهم يدخلون أرضا كانت مهبط الوحي ينزل جبريل فيها على الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن من الله سبحانه، إنها الأرض المباركة التي فيها جذور لدينهم ونبيهم ولمن حملوا هذا الدين في أيام تأسيسه وبنائه ونشره، إنهم يطؤون أرضا وطِئتها أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام هي أرض قام فيها الحق بمفهومه الشامل ضد أي مظهر من مظاهر الباطل. ظهر الحق في العقيدة والعبادة وتوحيد الله سبحانه والحق في الشريعة وتكريم الإنسان على الباطل في الشرك وعبادة الأصنام وإهانة الإنسان.
وأثناء أداء المناسك يُحس كل حاج بعظمة الإسلام القادر حقا على جمع الناس مِن مختلف الأجناس والألوان، كيف يتعايشون في انضباط ونظام وهدوء واحترام وتسامح ومسارعة إلى التعاون بالرغم من كثرة عددهم وكيف يتعلقون بالله بكثرة تلاوتهم للقرآن والذكر والدعاء في الطواف والسعي، وفي منى وعند وقوفهم بعرفات ومبيتهم بالمزدلفة وأثناء رمي الجمرات، وكيف أنهم يحرصون على أن يبتعدوا عن كل ما يمكن أن يفسد حجهم مما نبه عليه سبحانه بقوله : {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}(البقرة : 197) ومن غفل منهم فإنه بمجرد تذكيره بالآية تراه يرجع عن غفلته ويستغفر ربه. والحجاج الواعون لا يقلقون ولا يتضايقون بكثرة الحجاج بل تراهم يفرحون ويحمدون الله على فضله ونعمه بأن أكرم ذلك العدد الهائل من الناس بالحج وعلى أن كثَّر أعداد المسلمين وجعل أفئدتهم باستمرار تهوي إلى هذه البقاع الطيبة المباركة.
وكل حاج وهو يشرع في أداء المناسك والشعائر تكون رغبته شديدة في أن يتقبل الله منه بأن يجعل حجه مبروراً وذنبه مغفوراً، لأنه سمع وعلم ما ورد في الحديث أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. والجنة ونعيمهاهو الفوز العظيم الذي يرجوه كل مسلم.
والحج المبرور هو الذي لا يخالطه شيء من المآثم ويكون الحاج حريصا على طاعة الله صابراً على أداء المناسك على الوجه الذي يرضي ربه دون أن يؤذي أحدا من الحجاج ضيوف الرحمن، فهو يَبَرُّ ربّه أي يطيعه، وربه يبَرُّ حجّه أي يقبله ويرحمه فيغفر ذنوبه، فمن أسماء الله سبحانه البرُّ وهو العطوف على عباده واللطيف بهم، وهم قد لبوا نداءه وأتوا من كل فج عميق فكان فضل الله عليهم عظيما وأجره جزيلا، فالصلاة في المسجد الحرام تساوي مائة ألف صلاة.
والحاج في طاعته مُقبل على الله سبحانه ذاكراً وداعيا في الطواف والسعي يكثر من التكبير والتهليل والتسبيح ومن الدعاء لنفسه وأهله ولعامة المسلمين ومن التفكير في الآخرة يسأل الله الفوز بالجنة والنجاة من النار ويدعو في الطواف {ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} وفي السعي (رب اغفر وارحم واعف وتكرم وتجاوز عما تعلم فأنت تعلم ولا نعلم إنك أنت الله الأعز الأكرم).
وهو في منى يريد أن يتحرر نهائيا من نزغات الشيطان وأن يكون من عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم أي سلطان، يكون أثناء ر مي الجمرات عدة مرات سبعا في كل مرة يستشعر كأنه يضرب الشيطان ضربات فيها مقاومة وجهاد. الشيطان الذي قد يتسلط على إحدى جوارحه السبع التي هي السمع والبصر واللسان والبطن والفرج واليدان والرجلان فيجرها إلى أن تسلك مسالك الانحراف والضلال. يستشعر الحاج كأن هذه الجوارح تجتمع وتصيح في وجه الشيطان مع كل حصاة ترميها قائلة : لا لإغوائك، لا لأوامرك المضلة عن منهج الله سبحانه وشرعه، لا لكفرك وجحودك، لا للمعاصي والذنوب التي تزينها، لا للخصومات والنزاعات والأحقاد التي تريد أن تنشرها بين الناس، لا للظلم والفساد، لا للعجز والكسل والخمول، لا للكراهية والبغضاء والعداوة، لا للفتن والحروب والنزاعات، لا لنصرة الباطل، لا للتهاون في الأعمال المشروعة والواجبات، لا للتزوير والتزييف والخيانة، لا للفجور والخمور والمخدرات، لا للجهل والكبر والطغيان، لا لتبذير المال والوقت والعمر في اللهو والفراغ.
وفي يوم عرفة الذي هو أفضل يوم في الدنيا بالنسبة للحاج وبالنسبة لسعة رحمة الله ومغفرته يكون المشهد عظيما والفرح عارما والرجاء في الغفران كبيرا فيُكثر الحاج من تلاوة القرآن والذكر والدعاء.
إن الحاج وهو يؤدى المناسك والشعائر بوعي كامل بحضور قلب وذكر باللسان وتفكر وتدبر وخشوع مصحوبا في ذلك بوفود الحجاج في أماكن ومجالس تحضرها الملائكة يرتقي في مدارج الإيمان والتقوى والإخلاص، ويصبح مطبوعا بطابع متميز في شخصه، في عبادته وطاعته لله، وحتى في حركته وهدوئه وانضباطه وبسمته وإشراق وجهه ولين كلامه وخطابه مع الناس.
إن المفروض في الحاج الذي اكتسب في حجه تربية إيمانية حية وعميقةأن تزداد محبته لله ورسوله ولعباده المومنين، المحبة التي تكون لها نتائج على الروح والفكر والعمل على الروح بالإخلاص في الطاعة والعبادة، وعلى الفكر بالاهتمام بأمر الإسلام والمسلمين وبالعمل بأن يسهم بقدر ما يستطيع في قيام شأن الإسلام وتقوية المسلمين وصلاح أحوالهم وتوحيد صفوفهم، وفي تعزيز صف الإيمان والخير والحق والصدق والعدل وفي الرحمة بكل من يحتاج إليها من أبناء المسلمين.
وأن يجري على لسانه الكلم الطيب بكثرة الذكر والدعاء لأقاربه وجيرانه وعامة المسلمين، وأن يظهر عليه الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة فقد شهد مواقف في الحج تذكره بيوم الحشر.
إن الحاج عندما يعود إلى بلاده ووطنه ويستقبله أهله ومعارفه بحفاوة و يسألونه الدعاء لهم ينبغي أن يلحظ الناس الذين يعيشون معه وتربطه معهم أشكال من العلاقة والتعامل أن أخلاقه وتصرفاته قد طرأ عليها تغيير ملموس نحو الأحسن والأفضلوأنه إذا ناداه شخص ما بـ: يا حاج، أن هذا النداء فيه تشريف وتذكير بمعنى أنه إن غفل عما شرفه الله به بأن رفع مقامه بالحج فإنه ينبغي عليه ألا يَنزل عن المستوى الذي يليق به من الطاعة والبر في الأقوال والأفعال.
د. عبد العلي حجيج