تغليب التأنيث على التذكير في الحياة العامة (4 )
ذكرنا في الحلقة الماضية (المحجة عدد 347) عدداً من الحالات التي تلحق فيها التاء آخر الاسم لتفيد التأنيث أو غيره من المعاني التي وضعت لها. واتضح مرة أخرى أن تلك الكلمات التي تؤنت في اللغة العربية الجديدة لا تخضع لأية حالة من تلك الأحوال، وعليه يصــح القول بأن اللغة العربية تشوبها استعمالات لا تمت لقواعدها بأية صلة على يد بعض أبنائها. إن لم نقل إن الكل مشارك في هذا العمل المشين. إما بالفعل أو بالسكوت عمن تصدر عنه هذه الأخطاء وما يشابهها! ذلك أن الأمر لا يتعلق بارتكاب خطإ لغوي أثناء (التواصل) فحسب، بل يتعداه إلى قلب مفاهيم. وإلغاء قيم، وفي ذلك ما فيه من المس بمكونات الحضارة العربيةالإسلامية، ومن أجل هذا ذيلنا الحلقة الماضية (المحجة عدد 347) بسؤال هو : ماذا يمكن أن يترتب عن الترخص في مثل هذه الاستعمالات من أضرار؟
وقبل أن نتحدث عن بعض هذه الأضرار، نورد آخر قاعدة يحتمل أن تندرج تلك الاستعمالات (المؤنثة) التي نحن بصدد مناقشتها تحتها إن استجابت لها، وهذه القاعدة هي : التغليب، و>هو لغة : إيراد اللفظ الغالب. وعُرفاً : هو أن يُغلّب على الشيء ما لغيره لتناسب بينهما، أو اختلاط، كالأبوين في الأب والأم، والمشرقين والمغربين والخافقين في المشرق والمغرب، والقمرين : في الشمس والقمر، والعمرين في أبي بكر وعمر، والمروتين في الصفا والمروة… ومدار التغليب على جعل بعض المفهومات تابعا لبعض؛ داخلا تحت حكمه في التعبير عنهما…<(الكفوي 281).
والتغليب أنواع متعددة يشمل عدة مجالات في اللغة العربية منها : (1) تغليب العاقل على غير العاقل مثل قوله تعالى : {واللهخلق كل دابة من ماء} والمراد بالدابة مَنْ يعقل ومَن لا يعقل، فغلب من يعقل حيث قال : {فمنهم من يمشي}(النور : 45). لأن مَن للعاقل، ومَا لغير العاقل. (2) تغليب الأكثر على الأقل بأن ينسب إلى الجميع وصف يختص بالأكثر كقوله تعالى : {لنُخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معكم من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا}(الأعراف : 88) أُدْخِل شعيب عليه السلام في قوله : {لتعُودُنّ} بحكم التغليب إذ لم يكن في ملتهم أصلا حتى يعود إليها. (3) تغليب الأشهر كقوله تعالى : {يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين}(الزخرف : 38) أراد المشرق والمغرب. فغلب المشرق لأنه أشهر الجهتين. (4) تغليب المذكر على المؤنث والعكس، وهو المقصود عندنا فيما نتحدث عنه، أمّا بقية الأنواع فقد أوردناها لنوضح أن أي نوع من أنواع التغليب لا يتم إلا بوجود قرينة تسمح بتغليب مفهوم على آخر، والواضح في النماذج التي قدمناها أن من يعقل أقوىممن لا يعقل. والأكثر أقوى من الأقل، والأشهر أقوى من الخافت الذكر. وهكذا بقية أنواع التغليب التي منها تغليب المذكر على المؤنث والعكس. فتغليب المذكر على المؤنث مثل قوله تعالى : {وكانت من القانتين}(التحريم : 12) وقوله : {إلا امرأته كانت من الغابرين}(الأعراف : 83) والأصل >من القانتات، والغابرات< فعدت الأنثى من المذكر بحكم التغليب. وتذكير المؤنث يكثر في تأويله بمذكر كقوله تعالى : {فمن جاءه موعظة من ربه}(البقرة : 285) على تأويلها (أي الموعظة) بالوعظ. وقوله : {وأحيينا به بلدة ميتاً}(ق : 11) على تأويل البلدة بالمكان. وإلاّ لقال >ميتة<.
أما تأنيث المذكر فيتضح في قوله تعالى : {الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}(المومنين : 11) فأنث الفردوس وهو مذكر حملا على معنى الجنة، وقوله : {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}(الأنعام : 16) فأنث عشر حيث جردت من الهاء (يعني التاء في آ خرعشرة) مع إضافته إلى الأمثال وواحدها مذكر (أي الأمثال)(البرهان 348/3- 360- 412- 419 بتصرف).
هذه بعض أنواع التغليب، وهي كلها مقيدة بضوابط معينة تسمح بتغليب نوع على غيره، وفي هذا السياق يقول الزركشي : >جميع باب التغليب من المجاز لأن اللفظ لم يستعمل فيما يوضع له ألا ترى أنّ القانتين موضوع للذكور والموصوفين بهذا الوصف (يعني قوله تعالى : {وكانت من القانتين} فإطلاقه على الذكور والإناث على غير ما وضع له، وقس على هذا جميع الأمثلة السابقة (و) الغالب من التغليب أن يراعى الأشرف (والأشهر).. ولذا قالوا في تثنية الأب والأم : الأبوان، وفي تثنية المشرق والمغرب : المشرقان، لأن الشرق دال على الوجود، والغرب دال على العدم، والوجود لا محالة أشرف<(359/3).
هذا بخصوص أنواع التغليب بصفة عامة، أما ما يتعلق بالتذكير والتأنيث من حيث تبادل المواقع بينهما فإنّ الملاحظ أن ثمة قيداً إضافياًبالنسبة لكل واحد منهما، إذ الملاحظ في قوله تعالى {فمن جاءه موعظة< الآية أن >الموعظة< مؤلة بالوعظ، ولهذا لم يلحق التاء فعلها >جاءه<. كما نلاحظ في الآية : {الذين يرثون الفردوس} أنه أنث >الفردوس< حملا على معنى الجنة، فالقرينتان اللتان سمحت بالتغليب في الحالتين المذكورتين هما مفهوم التأويل في الأولى، ومفهوم الحمل في الثانية. وهذان المفهومان يدخلان ضمن مجموعة من المفاهيم الإجرائية التي يعتمدها المعربون لالحاق الفروع بالأصول، كالتقدير، والتعليق والتعلق، والحمل، والتأويل..الخ وهذا ما لا تخضع له استعمالات التغليب في الأمثلة المؤنثة التي نحن بصدد مناقشتها في اللغة العربية الجديدة. ذلك أن الأمر يقتضي -كما هو واضح في كل الأمثلة التي قدمناها- أن لكل كلمة استقلالها الدلالي ثم غلب عليها غيرها بقرينة أو بغلبة عليه. فهل يتوافر هذا بالنسبة للاستعمالات الجديدة بمعنى هل ثمة ظرف مذكر، وآخر مؤنث، أو اشكال مذكر وآخر مؤنث وهكذا…الخ!؟
تعليق على ما سبق
أشرنا في صدر هذه المقالة إلى أن الأمر خطير إلى درجة المس بأهم المقومات الحضارية : الدينية والقومية، ومن معالم هذه الخطورة ما يلي :
1- أننا نعود الأجيال الصاعدة على تقبل هذه الأخطاء الخطيرة تدريجيا، بحيث تصير في يوم مّا من اللغة ا لمقبولة بلا نقاش. بل قد يجتهد في التقعيد لها على أنها من المتن المعتمد في (التواصل) باللغة العربية، والعربية بريئة من ذلك.
2- أن هذه الأخطاء وما يشبهها وهو كثير، ويزداد يوما عن يوم يعيدنا تاريخيا إلى نقطة الصفر بخصوص نشأة قواعد اللغة العربية، ذلك أن أسباب نشأة قواعد اللغة العربية الأولى قدْ أملتها عوامل قومية ودينية، وهذان العاملان مهددان بالزوال بالنسبة للأمة العربية الإسلامية اليوم، فلا دين يجمع المشاعر، ولا قومية توحد الأهداف بالنسبة لشعوب الأمة العربية الإسلامية. ولذا ظهر التخاذل، وقوي التناحر، واشتد الخلاف بين كثير من الشرائح الاجتماعية المكونة لمجتمعات الأمة العربية الإسلامية. وبخصوص أهمية العامل القومي في نشأة دراسة قواعد اللغة العربية الذي ينبغي إحياؤه ليعود الاهتمام بقواعد اللغة العربية إلى سالف عهده يقول د. حسين نصار >وكانت لغة التفاهم هذه التي نشأت من اتصال العرب بغيرهم، هي التي هددت العربية، لأن هذه اللغة (ويعني بها الا ستعمالات اللغوية الجديدة التي شابها اللحن في ذلك الظرف) استعانت بأبسط وسائل التعبير اللغوي، فبسطت المحصول الصوتي، وصوغ القوالب اللغوية، ونظام تركيب الجملة، ومحيط المفردات، وتنازلت عن الإعراب<(المعجم العربي نشأته وتطور 23/1).
هكذا نلاحظ أن التاريخ يعيد نفسه بالنسبة لاهتزاز نظام اللغة العربية، بل لعل الأمر أسوأ هذه المرة، لأن ثمة برودة في المشاعر وتراجعاً عن المنجز في هذا الميدان عبر التاريخ، ومن ثمة تراجع عن القومية التي بدأ الإحساس بها يتقلص يوما عن يوم!.
أما بالنسبة للعامل الديني في هذا المجال فيقول عنه عبده الراجحي : >من الحقائق المقررة، أن الحياة العلمية العربية (اللغوية) لا تصلح دراستها إلا من الداخل، بمعنى أن معالم نشأتها وأسباب تطورها لا ينبغي أن تلتمس إلا من خلال الحياة العربية..<(فقه اللغة في الكتب العربية 33).
ويقول : >وكان اعتناق العرب للإسلام باعتباره نظام حياة، عاملا أساسيا في تغيير حياتهم.. فتأرجحت أحاسيسهم بين الشعور بالتفوق السياسي، وإثبات الذات أمام حضارة الأمم المغلوبة التي خضعت لسلطانهم، فلغتهم لغة سليمة لا يرضون أن تدنسها رطانة العبيد، ولا لكنة الأجانب، وهم السادة المالكون لزمام الأمور.
وهذا الكتاب “القرآن الكريم” الذي يستمدون منه معالم منهج حياتهم، يرونه في أسلوبه وتركيبه أقوى من أي مستوى لغوي مألوف، ولذا لابد من استكناه هذا الكتاب وفهم أسراره.
فالقضية إذن تتعدى مجرد الحفاظ على مكسب لغوي موروث إلى سبر أغوار كتاب سماوي طارئ، غير معالم الحياة العربية المألوفة، وقلب نظامها أيما قلب<(النحو العربي والدرس الحديث ص 11).
هذا الشعور بالمسؤولية القومية حيال اللغة العربية، وهذا الاهتمام بالسعي إلى الحفاظ على اللغة العربية نظيفة باعتبارها من أهم مفاتيح فهم كتاب الله عز وجل، هو الذي ينبغي أن يعادله الاعتبار حتى لا نتساهل في كل ما يتعلق بقواعد لغتنا، لأن ضياعها يعني ضياعنا قوميا ودينيا. ذلك أن الضبط المحكم لقواعد اللغة العربية ينتج عنه الفهم السليم لكتاب الله عز وجل وهذا الفهم السليم إن حصل ينتج عنه السلوك القويم.
3- خطأ استعمال التذكير والتأنيث وتحريف بعض المفاهيم.
مثلنا لبعض الحالات الواردة في هذا المجال للتفريق بين المذكر والمؤنث ونحن بصدد تعداد وظائف التاء في آخر الاسم بصفة عامةفي الحلقة الماضية (عدد 348) ومن هذه الحالات : الفرق بين المذكر والمؤنث في الصفات، لأن الله تعالى خلق الجنسين معا لتستقيم حياة الإنسان في هذا الوجود. قال تعالى : {خلق الذكر والانثى، إن سعيكم لشتى}(الليل : 4) وعليه فإن المفاهيم ستنقلب رأسا على عقب لو أنثنا المذكر. وذكّرنا المؤنث دون قرينة تسمح بذلك كما يمكن تصوره في بعض الآيات التي مثلنا بها في الحلقة الماضية (عدد 347) كقوله تعالى : {إن امرؤ هلك} وقوله : {وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز..}، فكيف يكون الفهم والواقع لو استعملنا “المرأة” بدل المرء في الآية الأولى، أو المرء بدل المرأة في الآية الثانية…؟!
أما من حيث قيمة دلالة التأنيث فيكفيه أهمية أن يدل على عظمة قدرة الخالق، الذي خلق الجنسين معا، قال تعالى بعد تعداد مجموعة من المخلوقات التي تدل على جلال قدرته {وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى}(النجم : 45) هذا بالإضافة إلى أن التأنيث مقابل التذكير يعتبر آية من الآيات الدالة على وجوده سبحانه، قال تعالى : {ومن آياته أن خلق لكم من انفسكم أزواجاً}(الروم : 21)، والزوجية في الكون بصفة عامة علامة دالة على عظيم قدرته، وأنه سبحانه منزه عن أي نقص قال تعالى : {سبحان الذي خلق الازواج كلها}(يس : 36).
وبكل ما ذكر في هذه الحلقة وما قبلها في هذا المجال، وما لم يذكر، يعتبر المترخص في تغليب التأنيث على التذكير أو العكس بدون قرائن معقولة تسمح بذلك، حاملا لمعول هدم قواعد اللغة العربية لقلب المفاهيم ودوس القيم، والتنصل مما تمت الإشارة إليه من مقومات الحضارة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
د. الـحـسـيـن گـنـوان