اقتضت الحكمة الربانية اصطفاء النبي الخاتم من أكرم الخلق، واقتضت مشيئته أن يربيه على العزائم لينيط به حمل آخر الرسالات وأكملها إلى الخلق. وقد أشرنا إلى التهييء الرباني للحبيب قبل ولادته ونذكر الآن إعداده له بعد الولادة أو ما سماه المرحوم بالتهييء البعدي
ثانيا : التهييء البعدي
أ- اختيار المرضعات :
وكما اختار الله الرسول ، اختار كذلك له أمه، وتسمى آمنة بنت وهب وهي تلتقي مع رسول الله في الجد السادس، ليكون من المصطفين الأخيار، من جهة الأب ومن جهة الأم، وهذا شيء معروف : فأم موسى كذلك كانت من المختارات {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه}(القصص : 7). ومريم أم عيسى رضي الله عنها، هي أيضا من المصطفيات حيث قال عنها الله تعالى {يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين}(آل عمران : 42) هذا شيء معروف، لكن الذي خص به رسولنا الكريم، هو أن الله تعالى اختار له المرضعات أيضا ولم يختر لنبي ثلاث مرضعات إلا لرسول الله .
وأود أن أنبه هنا إلى أن هذه العادة الحسنة تكاد تغيب عن مجتمعاتنا اليوم، نقولها للنساء والأمهات لقد أصبحت المرضعات هي الصيدليات، فكثر المرضى والبلداء. أما نساء العرب فقد كُنّ يرضعن أولادهن، لأن الولد الذي يرضع من أمه ومن امرأة أخرى تقوى مناعته وتتحسن صحته لذا أنصح النساء بخوض هذه التجربة.
رسول الله لم يختر له الله تعالى مرضعة واحدة هي حليمة فقط، بل أمه آمنة أولا، وثويبة جارية أبي لهب ثم حليمة السعدية رضي الله عنها، وقصتها في السيرة أشهر من أن أذكرها الآن.
ب : شق الصدر :
عندما شب بدأ يخرج مع إخوته من الرضاعة في البُهم يرعى معهم فجاءه ملكان فشقا صدره وأخرجا منه العلقة التي فيها حظ الشيطان منه، حتى يكون الرسول مصفى من جميعالأمراض القلبية من الحسد وحب الدنيا ومن أي شيء آخر، هذا وإن الله قادر على أن يطهره ولكن شق الصدر ورد في السيرة ثلاث مرات، في صباه ، وقبيل بعثته وفي الإسراء والمعراج والله أعلم.
جـ- رعيه الغنم :
إننا لنعجب كيف كان رسول الله يرعى الغنم وعمره لم يتجاوز السنتين أو الثلاثة، وفي بادية بني سعد حيث شظف العيش وقسوة الحياة فيضطر الجميع صغاراً وكباراً للعمل لكسب قوتهم البسيط، ولكن مع هذه القسوة هناك فصاحة اللسان وقوة الجنان والاعتماد على النفس، فلم يولد الحبيب وفي فمه ملعقة ذهب كما يقال بل ولد وفي فمه ملعقة عمل ليقول له الله تعالى فيما بعد {يــا أيها الـمزمل قم الليل إلا قليلا}(المزمل : 1)، و{يا أيها المدثر قم فأنذر}(المدثر : 1)، فترق له خديجة رضي الله عنها، من محبتها له، بعد أن يظهر عليه أثر التعب، فتقول له استرح، فيقول لها : >ولى زمن النوم يا خديجة<، وعائشة رضي الله عنها وهي لا زالت صغيرة شابة، والرسول قد كبر ، ولم يعد يقوى على القيام للتهجد في بعض الليالي، فكان يتهجد وهو قاعد وعائشة صغيرة شابة نائمة، وعندما كان يسجد يدفع برجلها لتفسح له، وكانت تسمع زفيره، وأزيز صدره في الليل، وقالت له : يا رسول الله لم تستكثر من الاستغفار والتهجد وقد غفر الله لك، قال : >أفلا أكون عبدا شكورا<، -اللهم اجعلنا من الذين يعبدونك حق عبادتك.
د- الحفظ من أدران الجاهلية :
إن الله تعالى حفظ رسوله من جميع أقذار الجاهلية، فما سجد لصنم، ولا أكل ما ذبح على النصب، ولم يخض قط فيما كان يخوض فيه غيره من شباب مكة، ويوم أن أراد أن يحضر عُرسا ليصيب حظا من الملاهي طلب من زميل له أن يحرس عنه غنمه لكن الله تعالى أنامه فلم يوقظه إلا حرّ الشمس، ثم حاول ذلك مرة أخرى فأصابه ما أصابه في الأولى قال : >فعلمت أني ممنوع<، فلم يعد في المرة الثالثة.
وذات مرة كان مع عمه العباس ] وفتيان مكة ينقلون الحجارة لبناء الكعبة على أكتافهم، فقال له العباس : ضع إزارك، على كتفك، ليقيك من صلابة الصخر كما يفعل الجميع، فأراد أن يرفع إزاره فتنكشف فخذه، فلم يشعر إلا بضربة قوية أسقطته أرضا ولا يدري مصدرها فشدّ عليه مئزره ولم يتعرّ قطّ، لأنه من الكمال الإنساني أن يكون مستوراً محتشماً، فجرح الحجارة أولى من جرح الهيبة، فماذا نقول للنساء الكاسيات العاريات؟!..
هـ- التجارة :
ولما كانت تسعة أعشار الرزق في التجارة وكانت هذه الحرفة مما يُمكِّن -بالإضافة إلى كسب الرزق- من التعرف على القبائل والشعوب وربط العلاقات وتعلُّم مهارات التواصل والإقناع فإن الله تعالى أراد أن يدرب رسول على التجارة، فذهب مع عمه أبي طالب إلى الشام وعمره اثنتا عشرة سنة وفي رواية تسع سنوات، ثم كانت له تجارة مع أحد أصحاب السائب، ثم كان يتاجر في مال خديجة رضي الله عنها، وقد ظهرت كفاءته فربح ربحا وفيراً بلغ الضعف أو كاد، مع وفور الأمانة وظهور الكرامة.
و- مشاركة في الشؤون العامة لقومه :
نذكر هنا حضوره في حرب الفِجار وكان عمره حوالي عشرين سنة وكان يُنبِّل على أعمامه ولم يُشارك فيها مشاركة فعلية لأنها قامت على ثارات جاهلية وانتهكت فيها الأشهر الحرم. لكن أبرز حدث وأفضله بخصوص هذه المسألة هو مشاركة في حلف الفضول الذي تزعمه الزبير بن عبد المطلب عم النبي ودعا إليه شرفاء قومه وفضلاؤهم فلبى بعضهم منهم محمد بن عبد الله وكان دون الخامسة والعشرين من عمره، ومضمون الحلف إغاثة الملهوف وإنصاف المظلوم والضرب على يد الظالم وهو مضمون يُنافي الحميّة الجاهلية، يقول عنه بعد أن أكرمه الله بالرسالة : >لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أُحِبّ أن لي به حُمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت<.
ز- زواجه من خديجة رضي الله عنها : نموذج البيت المسلم :
ثم هيأ الله له في الأخير امرأة صالحة، هي خديجة. خديجة تعرفون دائما أنها كانت أكبر منه، هي كانت في الأربعين وهو في الخامسة والعشرين، أقول خديجة رضي الله عنها، لم يزوجه الله إياها هباء، بل زوجه امرأة عالمة أولا، امرأة كانت أستاذة، وأستاذها هو ورقة بن نوفل، وورقة كان نصرانيا حقيقيا، كما تقول عائشة رضي الله عنها في حديث بدء نزول الوحي >استحكم في النصرانية< أي نصرانية؟ النصرانية الصحيحة، فكان ينتظر النبي، وكان دائما يقول لها سيبعث نبي وسيبعث من هنا، فكانت دائما تنظر إلى مكة، ويخطبها فلان وفلان وفلان من علية القوم.. لمالها ولجمالها ولشرفها، لأنها كانت تلقب بالطاهرة، وكان لقبه هو الأمين، والطاهرة لا تصلح إلا للأمين، ولهذا جاء في بعض الروايات، في السيرة، أن أحد اليهود مر على النساء، وهن مجتمعات في مكان فقال لهن، إنه سيبعث نبي، فمن استطاعت منكنأن تكون فراشا له فلتفعل، وهي الآن تلميذة ورقة، فأخذت هذه القصة على محمل الجد، فألقى الله تعالى في قلبها ذلك فلهذا كانت دائما تنتظر، حتى سافر في تجارتها ورأت بعض العلامات، فرغبت فيه، وهي التي أرسلت من يخطبه لها. إذن لماذا تزوجها وهو ابن الخامسة والعشرين سنة وهي بنت الأربعين، لكي تكون زوجة وأماً، لأنه حرم من الأمومة، فهي ستعطيه حبين، حب الأم وحب الزوجة، فلذلك كانت نعم المرأة العطوفة الحنونة عليه، وكان هذا من الحكم الكبيرة،
فـوائـد وعـبـر
نحن سنمر فقط على بعض الفوائد.
الفائدة الأولى: هل هناك أمل في دعوة ناجحة بدون تكوين الدعاة الناجحين؟ إذا كان الله يربي الأنبياء، كم ربى رسول الله ؟ رباه أربعين سنة، ليرسله في ثلاثة وعشرين سنة ليحقق خير أمة في ثلاثة وعشرين سنة، إذا طالت مدة التربية. إذن فتربية الدعاة، ليست هي تعليمه القراءة كما يفهم بعض الناس، يفهم آية أو حديثا، والبعض يفهمه خاطئا ويقول إنه داعيةلا، ولكن لا نجاح لهذه الأمة إلا بتكوين الدعاة، تكوينا متينا، وعميقا، تكوينا شاملا كاملا، يعني أن يكون عالما بشؤون الشرع وشؤون العصر خبيراً بالطبائع البشرية، وأن يكون ذكيا نقيا أمينا، طاهرا، قلبه يصلح أن يحمل هذا العبء، لأن الله قال : {إن الله اصطفى}(آل عمران : 33). لماذا نقول التكوين؟ التكوين الجيد يضمن حسن العرض، والأمثلة من سيرة رسول الله كثيرة نذكر منها قصته مع كبير من كبراء قريش وعلمائها اسمه حُصَيْن دعته قريش ليردّ على النبي فدخل عليه وقال : يا محمد أنت تعيب آلهتنا وتضلل أحلامنا وتفعل كذا وكذا وتفرق جماعتنا، وحمل عليه، فلم يغضب رسول الله ، فقال له: كم لك من آلهة؟ فقال له لدي سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء، فقال له: إذا جعت وقحطت، من تطلب؟ قال: الذي في السماء، قال له إذا فزعت من تطلب؟ قال: الذي في السماء،وصار يقول له إذا مرضت من تطلب؟ قال الذي في السماء،.. فقال مادام الذي في السماء يقضي لك كل شيء وهؤلاء الذين في الأرض ما دورهم؟ وهذا يدل على حسن العرض، ثم قال له : يا حصين أسلم تسلم، ودعا له قائلا : >اللهم اهد قلبه<، فأسلم وحسن إسلامه.
الفائدة الثانية : إن الاصطفاء سنة ربّانية {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس}(الحج : 75) فالأعمال الجليلة لا يقدر عليها الضعاف، وأجل الأعمال وأخطرها وأهمها تبليغ رسالة الله تعالى، لذلك اختار الله تعالى لها أكمل الخلق جسما وأزكاهم عقلاً وأنقاهم طويّةً وأطهرهم قلباً، ومهّد له الزمان والمكان، ثم تولاه بالرعاية والتربية وأدبه فأحسن تأديبه طيلة أربعين سنة ليكلفه بمهمة التبليغ لمدة ثلاثة وعشرين سنة، فكان أحسن دَالِّ على الله تعالى وأمهر عارض لسلعته، فهدى الله به الأمة وكشف به الغمّة وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور.
اللهم اجعلنا على سنة حبيبك {قُلْ هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}(يوسف : 108).
ذ. المفضل فلواتي -رحمه الله تعالى