نظرات في الهدى المنهاجي في سورة المزمل
د. الشاهد البوشيخي
سورة المزمل من أول ما نزل على الرسول والمقصود أوائلُها أما أواخرُها أو الآية الأخيرة فنزلت في المدينة المنورة بعد الإذن بالقتال.
وهي ثلاثة مقاطع :
1- مقطع فيه خطابٌ للرسول ولكل مؤمن ومؤمنة من بعده. ماذا عليه أن يفعل مع ربه.
2- ومقطع فيه خطاب أيضا للرسول ، ولكن من جهة خاصة، هي كيف يعامِلُ أعداءَ الله في تلك الفترة، وهُمْ المكذبون بالدين.
3- ومقطع به تختم السورة وهو آية مدنية طويلة فيها خطابٌ للرسول والمؤمنين يتناسبُ مع المرحلة المدنية التي نزل فيها.
إذن كالعادة لا أقف عند معاني السورة، ولكن أذهب مباشرة إلى ما نسميه بالهدى المنهاجي.
النقطة الأولى : لابدّ لحَمْل الأمانة والقول الثقيل من الاستعدَاد اللازم.
ومن اختير لذلك فليودِّع الركون إلى الراحة والإخلاد إلى النوم. لا تزمُّل بعد الحمل، وإنما هو قيامٌ وتشميرٌ.
هذا واضح في مطلع السورة حيث جاء الأمر لرسول الله بقيام الليل : {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا} استعداداً لِمَا ينتظِره من القول الثقيل {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} سنلقي عليك، هذا شيء قادم، فإذن الذي سيحمل أمانة من جنس أمانة رسول الله لابد أن يستعد لها بالزاد المناسب، وكذلك كل مسلم -في الحقيقة- ومسلمة من أمة محمد هو حامل لأمانة الشهادة على الناس بحكم اتباعه لرسول الله ، حامل لأمانة التبليغ لهذا الدين، ولو آية كما جاء في حديث الإمام البخاري : >بلغوا عني ولو آية<.
ليس المقصود أن تعرف كل شيء لتبلِّغ، لا، ولكن ما علمته من كتاب الله عز وجل فاعمل به أولا، ثم اجتهد في أن تبلغه إلى غيرك ثانيا.
فحمل الأمانة يقتضي استعدادا خاصا، والله جل جلاله هو الذي يَختار من يُختار لحمل الأمانة، وهو الذي اختار رسله عليهم السلام، {اللّه يصْطفي من الملائكة رُسلاً ومن النّاس}(الحج : 75) وكما يصطفي الرسل كذلك يصطفي أتباع الرسل أيضا. {وجاهِدُوا في الله حَقّ جهادِه هو اجتباكم}(الحج : 78) لذلك فمطلع السورة يعطيك توجيها واضحا في الآيات الثمانية الأولى، وهو أنك ينبغي حين تشْعُر بأنك مسلم من أمة سيدنا محمد ، وتُحسُّ بقيمة موقعك، وقيمة مكانتك عند الله تعالى، وأنك نائب عن الرسول بصورة من الصور، إذاك ينبغي أن تحْمِل الأمانة إلى الناس كما حملها الرسول لأنه أرسل إلى الناس كافة وقبضه الله عز وجل إليه في وقت مبكر بعد 23 سنة تقريبا من بداية نزول هذا الدين، والإسلام لم يجاوز الجزيرة العربية. فمن يبلغه إلى الآفاق والأجيال؟ لقد كلّف الأمة بذلك بقوله في حجة الوداع : >ألا هل بلّغت اللهم فاشهد، فليبلغ الشاهد منكم الغائب< فهي أمانة باقية.
وهكذا فهمها أصحاب رسول الله ، وفهمتها الأجيال اللاحقة، بدليل الفتوحات التي تلت بعد، وبدليل الانتشار السريع الهائل للنور الإلاهي في الكرة الأرضية في القرن الهجري الأول، إذ أكبر انتشار للنور من الجزيرة العرية كان في القرن الهجري الأول.
هذا الأمر الأول، وإذن فلِيستعد عبد الله وأمةُ الله لتوديع الراحة، وتوديع النوم، للاستعداد لما هو آتٍ.
النقطة الثانية : طريق الاستعداد الفردي اللازم هو خمس عزائم متتالية متكاملة.
هي بالنسبة لجيل التأسيس عزائم يجب أن يعزموها فهي أمور كالفرائض :
أولا : قيام الليل : وفي جوفه يبدأ الإسراء والمعراج إلى الدرجات العلى.
ثانيا : ترتيل القرآن : وهو وقُودُ الرواحل أولي العزم إلى التي هي أقوم.
ثالثا : ذكر الله جل جلاله : وهو قوت القلوب، الواقي من الذنوب المانعة من دَرَكِ المطلوب.
رابعا : التبتل إلى الله جل جلاله : وهو دخول عالم الحرية بتمام العبدية والخدمة المولويّة للمولى جل وعلا.
خامسا : التوكل على الله جل جلاله : وهو ثمرةُ الوصول ومقتضى مشاهدة الربوبية والألوهية في قلوب أهل التبتُّل.
هذه الخمس كلها داخلة في قوله تعالى : {قُمِ اللَّيْل إلا قَلِيلاً نصفَهُ أو انْقُصْ منه قليلاً أو زِدْ عليْه ورتِّل القرآنَ ترْتِيلا، إنّا سنُلْقِي عليك قوْلاً ثقيلاً، إنّ ناشِئة اللّيْل هي أشدُّ وطْئاً وأقْوَمُ قِيلاً. إنّ لك في النّهارِ سَبْحا طَويلاً، واذْكُر اسمَ ربِّك وتَبَتَّلْ إِليه تبْتِيلاً، ربُّ المشرق والمغْرب لا إلَه إلاّ هو فاتّخِذْهُ وكِيلاً}.
قبل أن يأمر الله عز وجل عبده ورسوله محمدا باتخاذه وكيلا وهي الرتبة الخامسة من العزائم، ذكر مسألة الربوبية ومسألة الألوهية، {ربُّ المشرق والمغْرب لا إله إلا هو} لأن الألوهية مترتبة على الربوبية.
والإشكال عند كفار قريش لم يكن في مسألة الربوبية وقلما يكون الإشكال في جانب الربوبية لأنهم يعرفون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي خلقهم وهو الذي يحيي ويميت… مسألة الربوبية تتجه إلى النعم الآتية من عند الله، وإلى الأفعال القادمة من عند الله إلى عباده، سواء أكانت نعماً أو نقماً، ولكن الألوهية بالعكس تتجلى فيما يصدر من العبد تجاه مولاه، تتجه إلى القلوب، ماذا تأْلَه القلوب؟ بم تتعلق؟ هل تتعلق بالله عز وجل أم تتعلق بسواه؟ {لا إله إلا هو} يعني لا مُتَعَلَّق للقلوب إلا به تعالى رغبة ورهبة. هنا كان الإشكال، لأن القلوب كانت تتعلق بالكثير من الآلهة، سواء بشكل سحرة، أو كهنة، أو أصنام، أو أشكال متعددة، ولذلك كان عنوان الدخول في الإسلام >لا إ له إلا الله<. هي كلمة الدخول في هذا الدين. بمعنى أنه يجب عليك بمقتضى هذه الكلمة أن تجعل جميع أعمالك خالصة لله عز وجل لا تشُوبُها شائبة.
أعود إلى النقط الخمس أو العزائم الخمس :
> أولها : قيام الليل، وفي جوفه يبدأ الإسراء والمعراج إلى الدّرجات العلى {قم الليل}.
هذه النقطة، أو هذا الأمر الإلاهي كان في البداية عزيمة بالنسبة لرسول الله وللمجموعة التي آمنت به في أول مرة، رجالا ونساءاً، لأن هذا القيام كان إطاراً للشّحْن بتعبير اليوم، فداخل هذا القيام سيأتي ترتيل القرآن {ورتّل القرآن} ليس خارج الصلاة وإن كان ترتيله خارج الصلاة أيضا مطلوبٌ، لكن الكلام هنا مترتب بعضه على بعض، قم الليل ورتل القرآن في هذا القيام، لأنه بذلك الترتيل يصبح مُيسّراً للدخول إلى قلب ابن آدم، خصوصاً في هذا الظرف الذي هو جوف الليل، وأحسنه الثُّلُثُ الأخير من الليل، الذي ينزل فيه الله عز وجل إلى السماء الدنيا فيقول : >هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟…<(مسند الإمام أحمد.
ذلك الوقت يكون فيه الإنسان عادة قد استراح {إن لك في النهار سبحاً طويلاً} في النهار نَغُوصُ في كثير من الأعمال المتصلة بكل شؤوننا في الحياة، ونأتي تعِبِين، فننام لنستريح، وعندما يستريح قلب ابن آدم يصبح مؤهلا كل التأهيل لكي يستقبل، فحين يكون القلبُ في هذا الوَضْع، الله عز وجل كلف ابن آدم أن يقوم الليل ويرتل القرآن، هذا القيام أقول يكون فيه القلب متفرغا مستريحا مستعدا كل الاستعداد لتقبل النور الإلاهي فتأتي معه معانٍ كثيرة، ويكون فيه الشحن، والتغذية لروح المؤمن، لإدخال كل المعاني التي في القرآن إلى قلب المؤمن، والترتيل يزيدها ويسهِّل دخولها وخصوصاً في الليل حيث يكون الهدوء والسكينة، ولا حركة، ولا كلام إلا المناجاة التي هي أبعد ما تكون عن الرياء، العبد مع ربه فقط.
فلذلك هذا الظرف من أحسن الظروف لتنشيط الخميرة الإيمانية التي ستتفاعل بعد وتنْمُو لتُحْدث ما تُحْدِث بعدُ في قلب ابن آدم، وفي جوارحه وفي مَن حوله، وفي الكون كله بعد.
> الثانية : ترتيل القرآن هو وقود الرواحل أولي العزم إلى التي هي أقوم :
بنو آدم قبل أن يمسَّهم القرآن عاديُّون، يعني طاقاتهم موجودة، لكنها ليست عالية، لكن بمجرد أن يُشْحَنُوا بطاقة القرآن يتحولون تحوُّلاً جذريّاً، يولَدون ولادةً جديدة، يصبحون قادرين على أعمال كثيرة جدا.
والله عز وجل ذكر لنا ذلك فقال : {إن يكن منكُم عشرُون صابرُون يغلبُوا مائتيْن}(الأنفال : 65) عشرون من الصابرين يغلبون مائتين، لكن عشرون من طراز خاص، من هذه الطبقة المتزودة بزاد القيام الليلي والترتيل القرآني، عبادُ الله الذين لا يستقبلُون من غير الله عز وجل، عباد الله المنقطعون إلى الله تعالى، هؤلاء مفعَّلون بالقرآن، مخَصَّبُون بالقرآن، مشحونون بالقرآن، إنّه وقود الرواحل الذين أشار إليهم رسول الله بقوله : >النّاسُ كإِبِل مائةٍ لا تَكَادُ تجد فيها راحلة<(رواه الإمام البخاري). والراحلة الناقة التي تصلح للأسفار الطويلة، والناقة الراحِلة لها أوصاف خاصة تُميزها عن غيرها من النوق، أن تكون ذَلُولاً، صبورة، قوية على الحمل إلى غير ذلك..
فهؤلاء الرواحل هم الذين يخْتارهم الله تعالى للبدايات لعلمه بهم {واللّه أعْلَم حيثُ يجْعَل رسالاَتِه}(الأنعام : 124).
فهذه النقطة الثانية : ترتيل القرآن في غاية الأهمية الآن، ترتيل القرآن له تأثير كبير، بأي شكل كان، ترتيل القرآن مطلقا له تأثير، وقراءة القرآن مطلقا لها تأثير وفيها أجر عظيم قال :>مَن قرأَ حرْفاً من كتاب الله فله حسَنَةٌ والحسنة بعَشْر أمْثالِها لا أقُولُ ألم حرْفٌ ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف<(حديث حسن صحيح رواه الترمذي) يعني إذا قلت ألم أُجِرْتَ ثلاثين حسنة، وهي تُذْهِبُ ثلاثين سيئة، لأن الحسنات يُذْهبن السّيئات.
فالرجوع إلى ترتيل القرآن طريق، بل هو الطّريق لمن له بصيرة.
> الثالثة : ذكر الله جل جلاله : يعني الطريق الثالث أو العزيمة الثالثة ذكر الله، وهو >قُوتُ القُلُوب، الوَاقِي من الذّنُوبِ، المَانِعَةِ مِنْ دَرَكِ المَطْلُوب<.
والمقصود بالذكر ليس الذكْر اللفظيّ، إذا ذكر الذكر فإنه أساسا ينصرفُ إلى ضد النسيان. هذا أصلُه اللغويُّ، وهو في مثل هذه المقامات يقصد به المثلُ المجَسِّم للذاكر والناسي، في هذا التشبيه الرائع : >مثل الذي يذكُر ربّه والذي لا يذْكُر ربّه مثل الحيِّ والمَيِّت< الذاكرُ حيٌّ، والناسي ميّت، ولهذا نهى الله تعالى عن نسيانه، فقال : {ولا تَكُونُوا كالذينَ نَسُوا الله فأنسَاهُم أنْفُسَهُم أولئِك هم الفاسِقُون}(الحشر : 19) أو تكون الحياة بالغفلة؟!.
يمكن أن يذكر الإنسان ما شاء الله من الأذكار وقلبه غافل، يعني غير حاضر، فهو في وضع النّسيان، في وضع الغفلة، وليس في وضْع الذكر.
فإذن المقصود أساساً بالذكر سواء أصاحَبَه ذكْرُ اللسان يعني النطق بالألفاظ أو كان بالقلب، فالمقصود حضور القلب، الله عز وجل حاضرٌ فيه، والعبدُ يفعلُ ما يفعلُ أو يقول ما يقولُ أو يأتي ما يأتي أو يذَرُ ما يذَرُ، في كل تلك الأحوال هو مع الله جل جلاله.
وهذا الأمر ليس بالعسير بإذن الله، يمكن للعبد أن يكون في مهنته وهو مستحضر الله، غير غائب عن الله، في شغله في طريقه، في سياقته، في أي شيء هو مستحضِرٌ للّه جلّ جلاله وما جُعلت الصلاةُ إلا لهذا الغرض {وأَقِم الصّلاةَ لذِكْرِي}(طه : 14) ولذلك لا يُكْتب للعبد من صلاته إلا ما عقَل منْها، أي إلا ما ذكر منها -عَقَلَ = أمْسَكَ- أما ما لم يُمسِك، وكان غائبا، فهذا لا يُكْتَبُ.
ومعنى ذلك أنه يوم تُبْلى السرائر وتُكْشَفُ الأمور -نسأل الله التوفيق والسلامة- ستأتي كثير من الصلوات ناقصة تجد فقط الملائكة سجلت نقطة بعينها، في ثانية في دقيقة والباقي كُلّه ضاع، يعني تجِدُ صلاة لم تُكتَبْ منها إلا ركعة، أو سجدة، والباقي ضاع، أو ضاع نصفها أو ثلثها أو ربعها، لأن الصلاة في أصلها ذكرٌ خالصٌ للّه بدون أي إشراك، فعلى الإنسان بمجرد الإحرام أن يغيب عن الدنيا، حين يكبر وحين يقرأ، وحين يركع، وحين يسجد، وحين يدعو.. إن الصلاة -كما ترون- قائمة على لفظ واحد يتردَّدُ أكثر من سواه، هو “الله أكبر” هذا التكبيرُ هو السِّر.
لأن ابن آدم قد يُكَبّر مع الله سواه، أو يُكبِّرُ سوى الله في قلبه من حيث لا يشعر، يكبِّر الدنيا، يكبِّر المال، يكبِّر الجاه، يكبِّر السلطة، يكبِّر أشياء كثيرة، ولكن الله لا يقْبَلُ منه أي تكْبِير لغَيْره أبداً.
لذلك يتكرر هذا اللفظ كأنه يقيم علينا الحجة أيْ يجبُ أن تُكبِّروا الله فقط ولذلك التكبير يقتضي الذكر، إذا كبرت فعلا، وأعلنت التكبير ينبغي أن تغادر سواه، وتنقطع له في صلاتك حتى تُسلِّم، كأنك تقول للناس : أنا أتيتُ “السلام عليكم”، فهذا الذكر لله جل جلاله هو المقصودُ، وهذا الذكر يُعينُ عليه القرآن لأن القرآن هو الذّكر، وهو طريق الذّكر، وهو الذكر الأعظم {وقَالُوا يا أَيُّهَ الذِي نُزِّلَ علَيْه الذِّكْرُ إنَّكَ لمجْنُون..}(الحجر : 6) فهو الذكر، وبه تتم عملية التذكُّر الحقيقية التي يريدها الله عز وجل منا، فذكر الله مترتب على ما سبق، وإذا حضر هذا الذكر في القلب كان هو القُوتُ، الواقِيَ من الذُّنوب، المانعة من دَرَك المطلوب.
- لماذا الذكر هو الواقي من الذنوب؟
الحديث صريح صحيح معروف هو قوله : >الشّيطان جاثمٌ على قلب ابن آدم إذا ذَكر الله خَنسَ وإذا غَفَل وسْوَس< فلا تحْدُث معصيةٌ في حال الذكر، وإنما تحْدُث في حال الغفلة >لا يَزْنِى الزّاني حِين يَزْنِي وهو مُومِنٌ ولا يشربُ الخمر حينَ يشرَبُها وهو مُومِن<(رواه البخاري) في تلك اللحظة يغيب، ويشتغل بباطله، أما إذا كان حاضرًا كما حدث لأحد السبعة الذين يُظلُّهم الله في ظله يوم لا ظِلّ إلا ظِلُّه قال : >ورَجُلٌ دعتْه امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله<(رواه مسلم) أو كما حدث لأحد الثلاثة الذين انسَدّ عليهم الغار حين قالت له ابنة عمه اتّقِ اللّه ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فتذكّر وقامَ، ولم تحْدُث الخطيئة، فارتفع بذلك الفعل الذي فعل إلى أحد السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، في حديث السبعة، وارتفع في حديث الثلاثة الذين كانوا في الغار إلى درجة التخليص من أعظم أزمة.
لماذا؟
لأن مقاومة الشهوة في عنفوانها، وإمكانها، وشدّة الرغبة فيها، لا يفعله إلا أولياءُ الله، وعبادُ الله المقربون، الذين يخشون الله حق الخشية.
> الرابعة : التبتل إلى الله والتبتل يأتي بعد الذكر، بمعنى أنك إذا أكثرتَ من قيام الليل، وأكثرت من قراءة القرآن، وأكْثرت من الذِّكْر حدَثَ التّبتّل أي الانقطاع لله تعالى، فما عاد المتبتِّل يأْبَه إلا بالله جل جلاله، ما عاد يشعُر بسوى الله، ماذا يسْوى غيرُ الله؟ لا شيء، فلذلك يتبتّل إلى الله جل وعلا، ينقطع له، حيثما كان وأينما كان، هو بالجسد مع الناس، ولكنه في الحقيقة وبالقلب مع الله جل جلاله، بأمره كله مع الله، أتى ما أتى، وترك ما ترك، لا يُحِبُّ إلا الله، ولا يتلقَّى إلا من اللّه، ولا يذل إلا لله.
فهذه الرتبة الرابعة {واذْكُرْ اسم ربّك وتبتّل إليه} ارْق إلى هذا المستوى، وهذا المستوى يُبْلغُ بناءً على الإكْثار ممّا قبله، فهو مُنْبَنٍ على ما سبق من القيام والترتيل والذكر، بعد ذلك كله جاء {وتَبَتَّلْ إليه تبْتِيلا}.
لنَنْتبِه إلى التعبير القرآني فالله تعالى لم يقل {تبتّل إليه} فقط بل أكّد الفعل بالمفعول المطلق المؤكد {وتبتّل إليه تبْتِيلا} أي انقطِعْ لَهُ انقطاعاً تاما كليا.
لأنه إذا بقي في العبد شوائب، أي جهاتٌ، وجوانبٌ، يحْكُم فيها غير الله فَسَدَ أمره، وتتسع تِلْك الدائرة مع الأيام بالشّبهات، والشهوات، فتحْدُث المصائب.
ويؤتى العبْدُ من تلك الجهات غير المصفاة.
لذلك جاءت الرتبة الخامسة : اتخاذُ الله تعالى وكِيلا : كأنها نتيجة التبتُّل والانقطاع إلى الله بيقين وعلى بصيرة وحضور لشهود الربوبية وشهود الألوهية في قلوب أهل التبتّل، بل كانت الرتبة الخامسة هي ثمرة الوصول، أي هؤلاء المتبتلون الذين انقطعوا إلى الله بقلوبهم، ما الذي ينبغي لهم؟! أن يتخذوا الله عز وجل وكيلا لهم في أمرهم كله، عليه يتوكلون وإليه يفوضون.
لماذَا يُتّخَذ الله وكيلا؟!.
لأن كل شيء بيده {ربَّ المشْرق والمغرب لا إله إلا هو فاتّخِذْه وكيلا}.
اتّخِذْه أنت، مطلُوب منك أن يصْدُر منك هذا الفعل : “الاتخاذ” يعني أن تجعله أنت وكيلك. ولا وصول لهذه الرتبة إلا بعد تصحيح وإنجاز العزائم الأربع التي سبقتها : قيام بالسَّحَر، وترتيل خاشع، وذكر متضرع، وتبتل منقطع لله.
فهذه الأمور الخمسة هي طريق الاستعداد اللازم لكل فرد مسلم ومسلمة أراد أن يتحمل أمانة الدعوة، وأمانة الشهادة على الناس، كما تحملهما رسول الله .
ولا يمكن طبعا أن يقوم المسلم بذلك دفعة واحدة، ولكن عليه أن ينطلق بالتدريج مقتحما كل العقبات لتحقيق العزائم الضرورية لنجاح الدّعوة الإسلامية :
إنْ كُنْتَ ذَا رَأْيٍ فكُنْ دا عَزِيمَةٍ
فإنّ فَسَادَ الرَّأْي أنْ تَتَرَدَّدَا
النقطة الثالثة : لابد للداعية إلى الله من أعداء، يهاجمونه ودعوته بكل الوسائل، قولاً وفعلا، كيداً ومكْراً. وذلك فتنة وابتلاءاً من الله تعالى له ولمن معه.
هذه سنة الله الماضية يعني من أول الكلام الذي سمعه الرسول من ورقة بن نوفل >لمْ يأْتِ أحد قَطُّ بمثل ما جِئْت بِهِ إلا عُودِي< وقال : >سَيُخْرجك قومك< فقال الرسول متعجبا : >أوَمُخْرِجي هُمْ؟< هلْ هذا سيحْدُث؟ تعجّبَ رسول الله من هذا.
فالذي يعرف النواميس، ويعرف الدعوات، وعنده شيء من أخبار الكتب سابقا هو الذي قال له هذا الكلام >لم يأتِ أحد قَطُّ بمثل ما جِئت به إلا عُودِيَ وإنْ يُدْرِكْنِي يومُكَ أنْصُرك نَصْراً مُؤزّراً< فهذه العداوة طبيعية لأنها تدافُعٌ بين الحق والباطل.
ولذلك جاء مباشرة بعد المقطع الأول قول الله تعالى {واصْبِر على ما يقُولُون واهْجُرْهم هجْراً جَمِيلا وذرْني والمُكَذِّبين أولي النّعمة ومهِّلْهُم قليلا إنّ لَدَيْنا أنْكالاً وجحِيماً وطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وعَذَابًا ألِيما، يوم ترْجُفُ الأرضُ والجبالُ وكانتِ الجِبَالُ كَثِيباً مهِيلاَ.. إلى قوله تعالى إنّ هذِه تذْكِرة فمَنْ شاءَ اتّخَذَ إلى ربِّه سَبِيلا}.
إنّ هذا المقطع الذي جاء بعد مطلع هذه السورة يشبه المقطع الذي جاء بعد مطلع سورة العلق، فبعد الآيات الخمس هناك جاء مباشرة {كلا إن الإنسان ليطغى} ومثل ذلك أيضا في سورة القلم، فبعد المطلع جاء مباشرة {فستبصر ويبصرون} الأعداء حاضرون، الصادّون حاضرون، المُعرضون حاضرون، المتهِمون حاضرون، المستهزئون حاضرون.
لكن هناك دائما موقف محدد متشابه تقريبا مُسْتمرٌّ وهو كيفية الرّدّ.
النقطة الرابعة إذن هي : أصُولُ الرّدِّ على المعادين خمسةُ أساليب أيضا متتالية متكاملة.
الدعوة إلى الله عز وجل كما كانت زمن رسول الله في بدايتها، ورسول الله يَعْرض الحق على الناس. في تلك المرحلة، ماذا عليه أن يصنع؟! والمخالفون يهاجمونه بالقول، والكيد، وكل شيء.
هاهنا كان الإرشاد يتلخص في خمسة أمور هي أصول الرد على المعادين، متتالية ومتكاملة.
أولُها : الصبر على ما يقولون ويفعلون من أذى، الصبرَ. الصبرَ…
وهو يتطور مع الزمن ففي البداية على الأذى، وفي مرحلة الجهاد يكون الصبر على البذل، بذل النفس {ولنبْلُونّكُم حتى نعْلم المجاهدين منْكُم والصابِرين ونبْلُو أخْباركم}(محمد : 31) الصبر في جميع المراحل، وفي جميع الأحوال، وبجميع أنواعه هو ضامِنُ الخيْر.
ولكن الصبر المطلوب هو الصبر الشرعي، وليس الصبر الشائع بين الناس الذي فيه إدْهان، وفيه التسليم بالباطل، وفيه الرجوع عن الحق، لا. لا.
ولكن عليك أن تعرف الحق وتعمل به وتسْكُتَ، مهما جاءت زعازع، ورياح هوجاء، وعواصف، أُثْبت، فإن النّصر مع الصبر، إذا كان الصّبْرُ كان النصر، وإذا لم يكن صبرٌ ضاع كل شيء : {فاصْبِرْ على ما يَقُولُون}.
ولا يكون الصبر إلا على قول مؤلم، فقد اتُّهم بالجنون وغيره، فاصبر على القول، ومِثْله إذا فعَلُوا فِعْلاً.
الثاني هو الهجْرُ الجميل {واهْجُرْهُم هجراً جَمِيلا} هجرانهم بالإعراض عنهم وعدم أذاهم، هم يؤذونك وأنت لا تُؤْذهم {ولا تُطِعْ الكافِرين والمنافِقين ودَعْ أذَاهُم}(الأحزاب : 48) تحمَّلْ الأذى ولا تؤذهم.
انظر إلى هذه الدرجة الرفيعة التي يريد الله عز وجل أن يرقى إليها المؤمنون بدءا من رسول الله ، فالمسلم يتحمل أذى الخلْق، ولا يؤذي الخَلْق، وهذه درجة عالية، يفعَلُ الحق يعَلِّم الحق، يقول الحق، يتصف بالحق، ويقف عند ذلك الحدِّ فيصبر ويحتسب إذا أوذي، ثم لا يؤذيهم، الهجْرُ الجميل، {أعْرِض عنْهُم وقُل سلام}.
هذا كيف يُعَامَلُ من يعادي من أعداء الله، يعني في المرحلة التي يكون الدِّين فيها يتأسَّسُ، مازال لمْ يعُمّ، مازال لم يصل إلى مرحلة الأمة القائمة بدين الله عز وجل، تلك مرحلة ستأتينا في آخر السورة إن شاء الله.
فإذن أول الرّدِّ الصبرُ، والثاني الهَجْرُ الجميل.
وثالث وسائل الرّدِّ التخويف بالله تعالى الذي يتولى أمرهُم بكَيْدِه المتين، كما تقدم، الذي يُمهل في الدنيا ولا يُهْمل {ومهِّلْهُم قليلا}. يمكن أن نمهلهم ولكن الحساب قادمٌ في الدنيا، بكيده المتين {وأُمْلي لهُم إن كَيْدِي مَتِين} في سورة القلم. وفي الآخرة عذابه المهين الذي منه الجحيم والهول العظيم كما ذكر هنا.
هذا التخويف هو الذي كان الله عز وجل يزوِّد رسوله به، به كان يتمّ الرّدُ بشكل من الأشكال، {وذَرْني والمكذِّبين أولي النّعمة ومهّلْهم قليلا إنّ لَدينا أنكالاً وجحِيماً وطعاماً ذا غُصّةٍ وعذَاباً أليما يوم ترْجُف الأرض والجبال} التخويف بأهوال يوم القيامة، يوم الحساب.
الأسلوب الآخر الرابع هو قصُّ القصَصِ عليهم، المشابهة لحالهم للاعتبار والاتعاظ {إنّا أرسلنا إليكم رسولا شاهداً عليكم كما أرْسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعونُ الرّسُول فأخَذْناه أخذاً وبيلا} وهذا الأخذ الوبيل يمكن أن يقع لكم أيضا، فتجنبوا هذا، احْذَرُوا هذا الأمر.
هذا الأسلوب أيضا من الأساليب التي كان يردُّ بها على الكفار والمشركين والمكذبين بالدّين إلى غير ذلك.
وخامس أساليب الرّدّ : ترغيبُهم في التوبة إلى ربهم قبل فوات الأوان.
وهذا مما يستفاد من قوله تعالى : {إن هذه تذكرةٌ فمن شاء اتّخَذَ إلى ربّهِ سَبِيلاَ} هذه تذكرة لكم، تُذَكِّركم بالعهد الأول، فإن تذكرتُم فمن شاء مِنْكُم اتخذ إلى ربّه سبيلا.
ولم يقل ومن شاء لم يتّخِذ. لا.
يعني بذلك أنه يقول لهم : اذْهَبُوا في هذا الاتجاه، هذا هو الطريق، هذه مجرد تذكرة فاتجهوا فسارعوا، اتخذوا سبيلا إلى ربكم.
النقطة الخامسة : التطور فـي الأحوال يقتضي التطور في الأعمال، دون مسٍّ بالأصْلِ الثّابِت في كل الأحوال :
من أين هذا الكلام؟!
هذا الكلام من بداية الآية الأخيرة وهي آية طويلة {إن ربّك يعْلم أنك…… أن الله غفور رحيم} آية واحدة ماذا فيها؟!
فيها هذا المعنى الذي أتحدث عنه وهو أن الظرف تغَيَّر الآن.
هذه الآية مدنية تعالج قضايا في مستوى وصول المسلمين إلى مرحلة الأمة حيث تظهر أمور أخرى فتكون طائفة من الناس مرضى؛ ويكون صنف من الناس يشتغلون بأشكال من الشغل؛ تقتضيها الحياة بصفة عامة؛ وصنف من الناس يجاهد في سبيل الله ويقاتل في سبيل الله، إذن هناك أمور جَدَّتْ لا في التطور العام لجسم الأمة، ولا في الواجبات الجديدة.
في مرحلة {قم الليل} لم يكن قتال، ولم يكن أشْكالٌ من طلب الضّرب في الأرض وابتغاء من فضل الله، وهو تعبير في القرآن الكريم يطلق على وجوهِ النشاط العامة، وأشْكال الشغل التي يحتاجها الإنسان لتدبير أمر معاشه.
في أول السورة حديثٌ في صورة فرد هو الرسول يدعو إلى الله عز وجل ويجدُ مقاومة ثم إرشاد وتوجيه إلى ما ينبغي أن يُفْعل تجاه الطغيان والعدوان. لكن الآية الأخيرة ظرف آخر، تغيَّر الأمر، ما بقيت الدعوة في تلك المرحلة، تطورت الأحوال، وهذا التطور يقتضي تطوراً آخر في الأعمال. كان القيام قبْلُ واجباً والآن خَفَّفَه الله تعالى {عَلِم أن لن تُحْصُوهُ فَتَاب عليْكُم} النتيجة {فاقْرأُوا ما تَيَسَّر من القرآن} كررها الله مرتين.
الآن صار الكلام للأمة، لجميع المؤمنين، لم يعد الكلام في {قم الليل}، {ورتل}، لم يعُدْ الخطاب خطاباً فرديا، لا.
الكلام الآن للأمة جمعاء، لأن الوضع تغير.
فاقتضى التطورُ في الأحوال التطور في الأعمال دون مسٍّ بالأصل الثابت في كل الأحوال.
بمعنى أن هناك أشياء تتغيَّرُ، وأشياء لا تقبل التغيير.
النقطة السادسة : تكليف الأمة بأعمال تناسب مستواها المرحلي :
الناس في الأمة من حيث الشغل أصناف ثلاثة :
> عاجزون عن الشغل بعُذْر شرعي، كالمرضى ومن في حكمهم من شيوخ وأطفال وغير ذلك وهو الذي تشير إليه الآية {علم أن سيكون منكم مرضى}.
> مشتغلون منتجون وهم الذين عبر عنهم القرآن {يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} فضل الله في جميع أنواع الشغل، جميع أنواع الوظائف، جميع أنواع الأعمال التي تتعلق بالمعاش، فهذا الصنف هو صنف الطبقة التي تنتج، يعني تشتغل.
> منشغلون بالجهاد في سبيل الله، ولم أقل مشغولون، يعني منشغلون عن الشغل الذي يتعلق بالمعاش، هم منشغلون بالجهاد.
كيف صار الأمر؟
الطبقة الوسطى إذن هي العمود الفقري الذي يحْمِل العجزة، ويموِّلُ المجاهدين، بتعبير آخر : كيف تصير الأمة في النهاية؟!
الأمة معظمها هو الطبقة التي تنتج، تشتغل، تكسب.
ويوجد في الأمة طبقة لا تقدر على الإنتاج. لا نقول لا تنتج، الذي يقدر على الإنتاج ولا ينتج يُجْبر على أن يشتغل، أو المطلوب أن نُوجِد لديه الرغبة الداخلية، ولكن لا نعطيه الزكاة.
هذا النوع القادر على الكسب ولا يكسب، الرسول يقول فيه >فو الله لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب فيحمله على ظهره فيأكل أو يتصدق<(رواه الإمام أحمد).
انتبهوا إلى يتصدق، قاعدة قرآنية عظيمة هي {ليُنْفق ذو سعة من سعته ومن قُدِر عليه رزقه فليُنْفق مما آتاه الله}(الطلاق : 7).
الذي لديه الكثير ينفق من الكثير، وصاحب القليل ينفق من القليل، ولكن صاحب القليل يقول كيف أنفق وما عندي ما يكفيني؟
أنْفِق، والأمة عليها أن تكفيك الطوارئ.
إذن ههنا نقطة مهمة فيها توجيه لوضع الأمة. هو أن الطبقة العاجزة عن الكسب مكفولة حقوقها عمليا، الطبقة القادرة على الكسب هي التي تتكفل بها لذلك قال : >أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه<(رواه البخاري) أي أنا أتكفل. يقول هذا بصفته ممثلا للمسلمين.
هذا الوضع الطبيعي لذلك قال أيضا : >والله لا يومن، والله لا يومن، والله لا يومن، من بات شبعان وجاره جوعان<، >لا يومن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبُّ لنفسه<(رواه البخاري) لا يحبُّ أحدٌ أن يبيت جوعان، إذن حتى الآخرون يجب أن لا يبيتوا جوعى.
الآن وضعنا سيء للأسف. وها هنا استطراد فاس المدينة القديمة مثلا فيها الدور الكبيرة والمتوسطة والصغيرة وفيها “المصريات” معنى ذلك أن يتساكن الغني مع الفقير مع المتوسط وإذاك بسرعة تحس بهذا >من بات شبعان وجاره جوعان< والآن التجزيئات على الطريقة الغربية التي تُعَلِّب بني آدم حسب دخولهم المادية فتجزئة فيها كما يقال الفراعنة وتجزئة فيها “القوارنة” وتجزئة فيها “الهوامنة” يعني كل تجزئة من نوع، لا توجد أي تجزئة يسمونها مدن القصدير، هذا الوضع شاذ وينبغي على الذين يشتغلون بالتعمير أو بالهندسة المعمارية أو بالتصاميم المديرية وغيرها ينبغي أن يفهموا هذا الكلام وأن يؤسسوا البنيان على أساس إسلامي على أساس التساكن بين الطبقات الاجتماعية بين الغني والفقير والضعيف والقوي وغير ذلك. كما يحدث في الصلاة. وضع الصلاة أكبر مظهر للحياة الإسلامية في جميع مجالاتها، في العلاقة بين الرئيس والمرؤوس، بين الناس وبين القانون لا أحد يستطيع أن يقول إن عنده مكاناً في المسجد، لا أحد، الذي حضر أولاً هو صاحب المكان وهكذا وهكذا، الناس يصطفون اصطفافاً حسب وصولهم {السابقون السابقون أولئك المقرّبون..}(الواقعة : 10- 11).
هذا الوضع في التساكن أقول شاذ ورثناه عن الغرب ويحتاج إلى تصحيح، ولن يصححه إلا من صُنِعُوا على عين الله، الذين لهم أعْين الوحي، الذين ليست لهم الأعْيُن الزرقاء ولا الأعين الحمراء كما نسميها، ولكن الذين لهم أعين فطرية طبيعية يبصرون بدون نظارات ملونة.
فالأمة المسلمة إذن على ثلاث طبقات :
- طبقة عاجزة عن الكسب عجزاً حقيقيا. فهذه تُكْفل، وهي المرضى ومن في حكمهم من العجزة.
- وطبقة منتجة وهذه هي التي تتولى التكفل، هذه التي تؤخذ منها الزكاة، ومنها تؤخذ الأقوات، ومنها تؤخذ كل الأشياء التي تحتاجها الأمة، لسد حاجة العجزة، وسد حاجة المجاهدين.
- وطبقة حامية للأمة {وآخرون يقالتون في سبيل الله} فلا أمة بدون جيش يدافع عن كيانها، ولا جيش بدون تمويل وتجهيز وإعداد.
النقطة السابعة : أصول صيانة المكتسبات :
حين تصير الأمة بتلك الأصناف الثلاثة تأتي خمسة تكاليف متتالية متكاملة.
لماذا قلت صيانة المكتسبات؟
لأننا عندما وصلنا إلى هذه الدرجة كأنه وقع انتقالٌ من المرحلة التي كان فيها، الإسلام مازال عند فرد أو مجموعة أفراد، بل عند قلة، وهم محاصرون بالقول قبل العمل، مغلوبون، ضعاف، إلى أن صارت الأمةُ أمَّةً لا سيادة لأحَدٍ على أرضها، ولا سيادة لأحد على نفسها، وتضرب في الأرض ابتغاء مرضاة الله ، وتكفل المحتاجين، وتموِّل المجاهدين.
حين وصلنا إلى هذه الدرجة كيف نصون المكتسبات؟
معنى هذا أن القرآن المدني يتجه إلى الصورة التي ينبغي أن تستقر أمور الأمة عليها في الأخير.
وأولها : قراءة ما تيسر من القرآن، سواء في الصلاة أو في غير الصلاة، لاستمرار التزود بالوقود.
وقبلُ كان القيام فرضاً، كان قياما فيه من الثلث إلى الثلثين، أما الآن فاقرأوا ما تيسر منه، {علم أن لن تحصوه} {وعلم أن سيكون منكم مرضى} وعلم أن ستكون لكم أشغال جديدة {وآخرون يضربون في الأرض} لذا ليس لازماً عليكم الآن أن تقوموا الثلث أو النصف أو الثلثين، لا. الآن اقرأوا ما تيسر من القرآن، وقوموا ما تيسر من الليل، حفاظا على قيام الليل الذي كان في الأصل.
هذه هي الأولى قراءة ما تيسر من القرآن يعني في القيام وفي غيره بصفة عامة بمعنى أن القرآن لا يمكن الإنقطاع عنه.
هذه نقطة جوهرية جداً، ولا ننسى ولا ينبغي أن ننسى بحال أن الصلاة فيها قرآن وتبطل إذا لم يقرأ فيها قرآن >لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب<(üü) لابد من الفاتحة، هذا الحدُّ الأدنى والفاتحة خلاصة القرآن {ولقَدْ آتيْناك سَبْعا من المثَاني والقُرْآن العظيم}(الحجر : 87).
فرض علينا قراءة ما تيسر من القرآن فرضا، أن نقرأ هذه الفاتحة سبع عشرة مرة في اليوم، اثنتين في الصبح، وأربعاً في الظهر، وأربعاً في العصر وثلاثاً في المغرب وأربعاً في العشاء.
ومعنى هذا أن هذا هو الحد الأدنى للقرآن الذي يجب أن يقرأ في اليوم.
ومعناه أيضا أن الروح، روح البشر لا تستطيع الاستغناء عن القرآن ولو يوما واحدا أو نصف يوم، فهو قُوتُها، ووقُودُها، وطاقتُها.
ثانيها : إقامة الصلاة لاستمرار الاتصال القوي، واستمرار لوازمه، وعلى رأسها ولاية الله تعالى للمؤمنين، الصلاة صلة بين العبد وربه، وإقامتها وأداؤها على حقيقتها هو جعلها قائمة، وهذا القيام يعني الاستواء الكامل، أي تكون في أحسن صورة، أقيموا الصلاة معناه صَلُّوا على أحسن صورة؛ في الوقت، في الطهارة، في كل شيء، في الركوع تعطيه حقه، في السجود باطمئنان أي الغَيْبة التامة عما سوى الله تعالى {وأقِم الصّلاة لذِكْرِي}(طه : 14) لا إقامة للصلاة، وقد خرج وقتها. لا إقامة للصلاة وليس فيها ذِكْرٌ، ليس فيها حضور. لا إقامة للصلاة وليس فيها طهارة كما تعلمون أو استقبال أو.. ينبغي أن تؤدى على حقها، هذه إقامتها. والصلاة صلة وعن طريق هذه الصلة يأتي تأثُّرُ العبد بربه، تأتي النعم من الله إلى القلب البشري، تأتي الأنوار الإلاهية، تأتي عن طريق هذه الصلة التي في الصلاة لذلك يجب إقامة الصلاة لإقامة واستمرار الاتصال القوي، واستمرار لوازمه، وعلى رأسها ولاية الله تعالى للمؤمنين.
ثالثها : إيتاء الزكاة، لاستمرار صحة الجسد الإيماني كله وقوته وتكافله، لأنه بالزكاة نقضي على تلك المشاكل التي عند الليبراليين أو الاشتراكيين ويتلاحم المجتمع.
وإيتاء الزكاة لا ينبغي أن نفهم منه أن يأتي الفقير إلى الزكاة لا، إن المُزكِّي هو الذي يخرجها ويذهب بها إلى الفقير، أو تتكفل الأمة بإيصالها للفقير، لأن القرآن ما قال >إذا جاؤوكم فأعطوهم الزكاة<، ولكن قال {آتوا الزّكاة}. أنت عليك أن تأتي للفقير بالزكاة، لأن ذلك الحق حق الله، والله قد ملَّكَه للفقير، وليس ذلك من مالك أيها المزكِّي، فحذَارِ حَذَارِ من أكْلِ فلْسٍ أو فلْسَيْن من الزكاة لأنه مال الله ومال الغير.
رابعها الإنفاق في سبيل الله{وأقْرضُوا الله قرْضاً حسناً} وانظروا إلى الترغيب الكبير في الإنفاق بالمال. معناه أن المال أُعْطِي درجتين، كما أعطيت الصلاةُ درجتين في الحقيقة، لأن {اقْرأوا ما تيسّر من القرآن} ترتبط بقيام الليل في أصلها، وإقامة الصلاةِ : الصلوات الخمس.
وهنا الجانب المالي أيضا أخذَ الزكاة، وأخذَ ما بعد الزكاة {وأقرضُوا الله قرضا حسنا} ثم يرغب {وما تقدّموا لأنفسكم} من أنفقَ ما أنْفق لغيْره، إنما أعْطَى نفسه، {وما تقدِّموا لأنفسكم من خير تجدون عند الله هو خيراً وأعظم أجراً} تجدوه عند الله قد تضاعف أضعافاً مضاعفة.
ترغيب في الإنفاق في سبيل الله : الإنفاق طهارة وتزكية، الإنفاق في سبيل الله عز وجل يحُلُّ المشاكل بجميع أنواعها زيادة على أنه بالنسبة للمنفق تزكية له {خُذ من أموالهم صدقة تطَهِّرُهم وتزكِّيهم بها}(التوبة : 103) الإنفاق في سبيل الله لسد الحاجات الطارئة والإضافية أقصد، الحاجات الأساسية تحُلُّها الزكاة، ولكن ما زاد عن الحاجات الأساسية من الطوارئ أو من الأمور التكميلية يحلها الإنفاق.
خامسها وآخرها الاستغفار لمحو آثار الخطايا والأخطاء بعد الانتهاء من كل عمل، وهذه سنة الله أرشدنا إليها وأكرمنا بها، أنه ينبغي أن نستغفر الله في آخر الأعمال ولذلك شرع لنا عندما ننهي الصلاة أن نستغفر الله ثلاثا وهو بعد أن ختم رسالته أخبره الله عز وجل أنه سيقبض وأمره بالاستغفار {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت النّاس يدخُلون في دين اللّه أفواجاً فسبّح بحمد ربّك واستغفره} لأننا مهما أتقنا، ومهما أحسنا، ومهما اجتهدنا، تقع أخطاء >كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون<(رواه ابن ماجة) فنستغفر الله تعالى.
خلاصة هدى الصورة
>1) القرآن هو مصدر الطاقة كلها للصف الإيماني أفراداً وأمة (أفراداً : الآيات الثمانية الأولى) و(أمة : الآية الأخيرة) : بمعنى أن القرآن هو كل شيء. الطاقة الحقيقية التي تملكها الأمة الإسلامية هي القرآن، بشرط تفعيلها وتخصيبها أي العمل بها. إذا عملت الأمة بالقرآن فإن الطاقات الأخرى ستنتظم، ولن نهملها وسنستطيع تفعيلها فالقرآن مصدر الطاقة : والطاقة لا توجد في كلام البشر بل توجد في كلام الله وإذن فالطاقة لها مصدر وحيد بالنسبة للصف الإيماني فبالنسبة للمؤمنين لا يمكن للمؤمنين أن يأتوا بالطاقة من مكان آخر غير القرآن والصلاة إنما كانت كذلك لكونها تتضمن القرآن.
>2) الحاجة إلى الطاقة عند الإقلاع أكثر بكثير من الحاجة إليها بعد الاستواء في السير :
والثماني آيات الأولى تشرح هذا لقد كان فيها تركيز على مسألة الشحن والوقود فقيام الليل كان إجباريا وفرضا وبعدد كبير يعني بثلث أقل شيء وبثلثين أكثر شيء {نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا} {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه} لكن بعد ذلك علم أنه سيكون منكم مرضى علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن ما بقي ذلك التكليف غليظا كما كان أول مرة ما بقيت الحاجة إلى التزود بالوقود والطاقة العالية كما كانت أول مرة فاللحظات الأولى لحظات إقلاع وانطلاق فرسول الله في البداية مؤسس الخير ومن معه في البداية يؤسسونه ولذلك كما عبَّر بعضهم جيل التأسيس يكون دائما محتاجا إلى طاقة عالية وهذه الطاقة تكون عمليا نتائجها واضحة أيضا وذلك واضح في الآية الكريمة {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} بعد ذلك {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} لماذا اختلفت نسبة الطاقة؟ لأن المسلمين الأوائل كانوا يؤسسون فكان شحنهم بالطاقة عاليا. أما المتأخرون فقد صاروا أمة، وصارت لهم أشغال، وكثروا بحمد الله عز وجل فأصبح يكفيهم أن يقرؤوا شيئا من القرآن مع المحافظة على الصلوات الخمس وذلك ما سميته صيانة المكتسبات السابقة.
>3) حسن معاملة أعداء الدين وترك الباب مفتوحا أمامهم يقوي الرجاء في توبتهم
ودائما الكلام في البدايات.
اتمنى لاستادنا المحترم ان يبقيه الله دخرا للبلاد والعباد وان يطيل عمره ويرزقم التوفيق والسدادويحفظه الله للامة الاسلامية والسلام