نظرات في المسألة النسائية في القرآن الكـريم
أ.د. الشاهد البوشيخي
محاضرة أُلقيت في ندوة المرأة والمجتمع التي نظمتها جمعية النبراس الثقافية بوجدة في أبريل 1999-
بسم الله الرحمان الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيء لنا من أمرنا رشدا. اللهم افتح لنا أبواب الرحمة، وأنطقنا بالحكمة واجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة. اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علما.
أيها الأحبة. موضوع هذه الكلمة هو “نظرات في المسألة النسائية في القرآن الكريم” وهي نظرات تقف عند بعض معالم الموضوع الكبرى، وأسسه التي تؤطر النظر العام إليه، في حدود ما تيسر الوصول إليه.
نظرات تهتم أساساً بما في كتاب الله عز وجل، على أساس أن الخطاب للمسلمين والمسلمات، لا لغيرهم.
والنظرة الأولى من تلك النظرات هي: أن الخطاب في القرآن الكريم للإنسان. أو بمعنى أوضح : هذا القرآن من يخاطب؟ هل يخاطب الرجل؟ هل يخاطب المرأة؟ أم لا يخاطب لا الرجل ولا المرأة. ولكن يخاطب كائناً يجتمع فيه الرجل والمرأة هذا الكائن اسمه : “الانسان”.
إن أول ما نزل من كتاب الله عز وجل في فواتح سورة “العلق”، لا حديث فيه لا عن الرجل ولا عن المرأة، بل لا حديث فيه لا عن الكبير ولا عن الصغير، ولا عن الزمان، ولا عن المكان. وإنما فيه حديث عن كائن بعينه هو المستخلف في الأرض، وهو الذي منه انبثق الرجل والمرأة، وفيه يجتمع الرجل والمرأة هو : “الإنسان”. يقول الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم : {اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم} في هذه الآيات نجد : “عَلَّم الإنسان”، و”خلق الإنسان”، والحديث مع الإنسان.
هذا المنطلقُ، وهذا الأساس، منه تنبثق النظرةُ الشاملة لقضية الرجل، وقضية المرأة، على أنهما لا يشكلان قضية، بل القضيَّةُ هي : قضية الإنسان من حيث هو إنسانٌ، هذا الإنساء هو الذي خوطب، وهو الذي اهتم به القرآن من حيث النَّشْأَة، ومن حيث المصير، ومن حيث الرِّحلة الشاملة ما بين النشأة والمصير، بل وخصَّصَ له سورة هي “سورة الإنسان”، هذا الإنسان : هو المنطلق، وهو أصل النظرة القرآنية لهذا الموضوع كله.
فالخطاب في آيات كثيرة جاء بـ{يا أيها الإنسان} كما في قوله تعالى : {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك}(سورة الانفطار). وفي خطابات كثيرة جاء جمع هذا الإنسان باسم آخر، هو اسم “الناس”، ففي البدء كان الحديثُ مع الإنسان في أول مانزل، وفي التَّرْتيب التَّعَبُّدِي لهذا القرآن كما هو في المصحف اليوم، نجد الخطاب الأول بهذه الصيغة {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون}(سورة البقرة)، و”يا أيها الناس” ليست خطابا أيضاً لا للرّجال ولا للنّساء، ولكنها خطابٌ لهذا الصنف من الكائنات في هذا الوجود..، خطابٌ لهذا الصنف من الكائنات التي هي المُسْتَخلفة والمستعمرة في هذا الكوكب الذي له الموقِعُ الخاصُّ بين الكواكب في هذا الكون، فهذا النداء، وهذا الختمُ أيضا لهذا الكتاب بسورة اسمها “سورة الناس”. فالبدء بخطاب الناس، والختم بخطاب الناس واضح الدلالة على أن الخطاب القرآنيّ مُوَجَّهٌ للناس أساسا، قال تعالى : {قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} هؤلاء الناس هم الذين خوطبوا، ونُبِّهُوا على أنهم جميعاً متسلسلون من أصل واحد، ذكوراً وإناثاً {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة. وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء}(سورة النساء) بثّ منهما.
وهنا ننتقل، وقبل أن ننتقل نلاحظ أمراً في غاية الأهمية في هذه النقطة، هي أنه لا يوجد في القرآن كُلّه من أوله إلى آخره نداءٌ للرجال، ولا نداء للنساء – بالمعنى الفيزيائى الخاص- فليس فيه : يا أيها الرجالُ، ولا يا أيَّتُها النساء، ولا يا أيُّها الذكور، ولا يا أيّتُها الإناث. هناك استثناءٌ صغيرٌ بسيطٌ في نساء النبي عليه الصلاة والسلام في آيتين، فذلك له خُصُوصُ الإضافة>يا نساء النبي< فهذا الخصوص يعطيه معنى خاصّاً. أما النداء لأصل الصنف فلا وجود له في القرآن، لا حديث مع الذُّكُور، ولا حديث مع الإناث، ولا حديث مع الرِّجال، ولا حديث مع النساء، وإنما الحديث مع الإنسان من حيث هو إنسان، والحديث مع الناس من حيث هم ناس، وهذا يقتضي تلقائيا أن كل ما جاء من كليات شرعية في هذا الكتاب أساسيات، تؤطر النظرة الشاملة للموضوع التي نستشفها، ونستنبطها، ونستخلصها من هذا الكتاب العظيم. تلك النظرة التي تؤطرها هذه الحقيقة التي هي المنطلق، وهي أن جميع ما في هذا الكتاب بكُلّياته يتجه إلى الرجل، ويتجه إلى المرأة أيضا على أساس أن الرجل إنسان، وأن المرأة إنسان، وعلى أساس أن الرجل من الناس، وأن المرأة من الناس، وليست شيئاً خارجاً عن الإنسان، أو شيئاً خارجاً عن الناس. فالخِطَابُ الفيزيائِيُّ الخاصُّ منعدمٌ البتَّة في كتاب الله عز وجل للصِّنْفَيْنِ معاً. هذه هي النظرة الأولى.
والنظرة الثانية : تترتب عن النظرة الأولى وهي أن الوحدة البشرية لا تخرج عن سنة الزوجية الكونية، فالوحدة البشرية هل هي الذكر؟ كلا ثم كلا، هل هي الأنثى؟ كلا ثم كلا، هل هي الرجل؟ كلا ثم كلا، هل هي المرأة؟ كلا ثم كلا. الوحدة البشرية مكونة من الصنفين معاً في شكل زوجين، منهما المنطلق، فالزوجية في العربية، والزوجان في العربية ليسا ثُنَائِيَّةً أصلها تَعَدُّدُ الواحد، لا، وإنما شيئان متكاملان يُكَوِّنان شيئا واحداً، فلا معنى لأحدهما من دون الآخر، ولا يمكن أن يستمر النوع البشري بزوج واحد : يعني بواحد من الزوجين، لا سبيل إلى الاستمرار، ومن ثمة فالوحدة البشرية التي منها التكاثر، تكاثُرُ هذا النوع، وتناسُلُهُ، واستمرارُه، وقيامه تبعاً لذلك بوظائفه في هذا الكون، بوظيفة العبادة وما يدخل تحتها من تعمير لهذا الكون، كُلُّ ذَلِكَ مُنْطَلَقُهُ “الوحدةُ الزوجية” الوحدة المؤلفة من الذكر والأنثى، من الرجل والمرأة، لا سبيل إلى فصلهما من بعضهما، وهذه الزوجية أصيلة في الكون، الكون كله مركب على هذه الزوجية، يقول تعالى : {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذّكرون}، ومن كل شيء خلقنا زوجين، فالكون بصفة عامة تأسس على هذه الثنائية المتكاملة، لا الثنائية المتَضَادَّة، ولا المتصارعة، ولا التي فيها التّكرار، كلا ثم كلا، ولا التي فيها التطابُقُ، كلا ثم كلا لا سبيلَ إلى شيء من ذلك.
الثنائية قائمة، والتعدد فيها قائم على التكامل، وهذا التكامل مُفْضٍ إلى وحدة غير قابلة للانفصام، وغير قابلة لأداء الوظائف التي أنيطت بها بغير شِقَّيْهَا. ما أشبهها بما نرى في الكائنات العادية من حبة القمح أو حبة القطاني إلى غير ذلك، من كل الأصناف الموجودة في الكون والتي هي مُكونة من شقين متكاملين، مُتَضَامَّيْنِ، يُنتجان، أي ينتُجُ عنهما في ظروف معيَّنة استمرارُ الجنس، واستمرار النَّوع بكامله.
فهذه الزوجية العامَّةُ التي هي سُنَّةٌ كونية، بها يمتن الله علينا {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبث الأرض، ومن أنفسهم، ومما لا يعلمون}(سورة يس). خلق الأزواج كُلَّها.. إذ الكون مؤسس على هذه الزوجية، في الحيوانات وفي النباتات، وفي الجمادات، بصفة عامة، وما علمنا من ذلك فقد علمناه، وما لم نعلمه فسيرين الله آياته بعدُ في الآفاق وفي أنفسنا، فنحن من ذلك أيضاً، حيثُ خلقنا من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء.. خلقنا من تراب {والله خلقكم من تراب. ثم من نطفة، ثم جعلكم أزواجا}(سورة فاطر). {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا}(سورة الروم)، خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لأداء الوظائف بعد. وظائف الاستمرار، وظائفِ التعمير وظائفِ أداء الرسالة. ببيان شروط ذلك الأداء {لتسكنوا إليها. وجعل بينكم مودة ورحمة. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (سورة الروم). {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة}(سورة النحل). فهذا الاستمرار منطلقه من هذا. والانطلاق من حقيقة أن الوحدة البشرية قائمة على الزوجية يؤسس ويرسخ هذه النظرة التي لا تفصل بين جزأين متكاملين لتُحدث بينهما خصومة أو صراعاً، أو تضاداً. ومَنْ أحْدَث ذلك التضاد أو تسبّبَ فيه فقد تسبب في إفساد نظام الكون، وذلك من اخْتِصَاص الشيطان حين قال {ولآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكَنَّ آذَانَ الأَنْعَام. ولآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}(سورة النساء). وخَلْقُ الله على الشكل الذي هو عليه هو الفطرة، أي : الفطرة التي فُطِر عليها الكون، أي : الكيفية التي أراد الله أن يسير عليها الكون، وهي الدين أيضا {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها. لا تبديل لخلق الله}(سورة الروم). ذلك ما يتجه إليه الشيطان فيأمر بتغيير خلق الله. فالكون مؤسس على نظام قار مضبوط، غاية الضبط، ومسُّهُ بغير ما هو من طبيعته ومِنْ جِنْسه ومِمَّا يهْدي إليه. هو مسٌّ بخَلْقِ الله، ومَسٌّ بالفطرة، ولذلك فهو إفساد في هذا الكون، بلْ أعْظَمُ إفساد.
النظرة الثالثة : تتجلى في أن اختلاف الخِلْقَة تابعٌ لاختلاف الوظيفة، وأن تمايز الخواصِّ مُوذِن بتمايز الاختصاص، أي اختلاف الخِلقة تابعٌ لاختلاف الوظيفة، أي : أن الوظيفة -كما هو ثابت في علْم الأحياء- هي التي تنشئ العضو المناسب. فلحاجتنا إلى وظيفة الشَّمِّ -لأهمية ذلك بالنسبة لهذا الكائن-، خُلق العضو الذي هو “الأنف”. ولحاجة هذا الكائن إلى أداء وظيفة الإبصار احتجنا إلى عضو العين، ولو افترضنا أن عضواً بعينه تعطَّلتْ وظيفته، فمعنى ذلك أن التعطيل مودن بانتهاء وجوده وانقراضه، فالعلاقةُ بين الوظيفة والخلقة علاقة تلازم، فالكيفية التي خُلق عليها الخلقُ -إنساناً أو حيواناً، صنفاً من الإنسان أو صنفاً من الحيوان أو النبات أو غير ذلك- إنما كانت كذلك تبعاً للوظيفة التي رُسمت لذلك الكائن الذي لها خُلق. وكلٌّ ميسَّر لما خُلق له.
فحين قال فرعون لموسى عليه السلام : {قال فمن ربكما يا موسى، قال ربُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيْء خَلْقَه}(سورة طه) وهذه الإضافة في غاية الأهمية، أعطاه كيفية معينة عليها خُلق، لكل خلقُه.. أعطى لكل شيء خلقه ثم هدى. هدى في اتجاهها، هدى في اتجاه الخلق نفسه. وكذلك الشأن بين أمرنا بالتسبيح في قوله تعالى : {سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى}. بحسب نوعية تلك الخِلقة، وبين قوله تعالى {والذي قدر فهدى}، وبناءً على ذلك التقدير كانت الهداية لذلك المخلوق في اتجاه ما قُدِّرَ له تبعاً للخلقة التي خُلق عليها، وسُويَ عليها.
وهذه كذلك نقطة في غاية الأهمية لفقْهِ هذا الكون جُملةً. وفقه ما هو قائمٌ عليه، وما هو قائم ٌبه، وفقه ما يتَّجِهُ إليه، وكيف يَنْبَغِي أن يدبر أمره، وأمرُ من فيه وما فيه. فذلك تابع لهذا التمايز في الخلقة. والأصلُ أن العبثَ منفيٌّ، لأن الله منزه عنه في هذا الكون. هذه الحقيقة يفقهها الربّانيُّون أولو الألباب الذين تأمَّلُوا بالبصيرة النورانية في آيات الاختلاف والتمايز، فَهُدُو لأن يقولوا : {ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك} أي كل شيء خلق لوظيفة وحكمة أمّا الذين لم يُرزَقُوا الفقه النابع من الإيمان بحكمة الاختلاف التكاملي، فيظُنُّون في الاختلاف والتمايز ظنّ الباطل المؤدِّي للتصارع والإفساد وتجريد الحياة من السمو والتكامل الزكيّ المبارك، {ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار}(سورة ص) والله عز وجل يرشدنا إلى هذا الأصل الكبير في آيات كثيرة، وفي سور كثيرة، وإنّ الثنائيات التي هي بمثابة المثاني كثيرة في القرآن، وبالأخص في قسم المفصل. والمفصل -على الأرجح- هو من بداية سورة “ق” إلى آخر القرآن الكريم.
كلما اتجهنا إلى نهاية المصحف الكريم وجدنا هذه المثَانِيَ تظْهَرُ بجلاءو قوة ومن ذلك قوله تعالى : {والليل إذا يغشي، والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى}(سورة الليل). الزمن هو الزمن، وفي الزمن نهارٌ، وفي الزَّمَن ليلٌ {والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى} ولليل وظِيفة لتَسْكُنُوا فيه. وللنهار وظيفةٌ تبعاً لطبيعته ولما خُلق له كذلك، رغم أنهما معاً من جنس واحد، هو جنسُ الزمن، فلليل وظيفة لتسكنوا فيه، وللنهار وظيفة لتَبْتَغُوا من فَضْله، والوظيفةُ نَفْسُها لها ظروفٌ تحُفُّ بها. فالكون كله يسكن في الليل في غياب ضوء الشمس، والكون كلُّهُ يتحرك في وجود الضوء في النهار وإن لم نتحرك، ولابد أن نتحرك.
فهذا النظام العامُّ أسس به القرآن لحقيقة خِلقية قادمة بعد {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى} فخلْقُ الذكر كخلق الليل أو النهار. وخلقُ الأنثى كخلق الليل أو النهار. فهذا التمايز موجود، رغم أن الجنس واحد الذي هو هذا الإنسان، هذا التمايز لأجل التمايز في الوظيفة أيضاً لأن ما خُلق له الذكر مخالفٌ لما خُلقت له الأنثى، وما خُلق له الليل مخالف لما خُلق له النهار في الآية، ومِثْلُها : {والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها}(سورة الشمس). مثل ذلك في الأرض والسماء. فالثنائيات بصفة عامة تتجه في هذه الوجهة لتبين أن التمايز في الكائنات، والاختلافَ الذي يُرى إلى حد التضادِّ، هو اختلاف التكامل الذي سببه اختلاف الوظائف. ولكن هذه الوظائف -كما تقدم- لا تتضاد ولا تتصارع. لكن تتكامل في وحدة وتنوع داخل الوحدة، فهو اختلاف داخل الائْتِلاَف.
هذا نظام الكون العام الذي يسير عليه. ومن ثمة كان السعيُ شتى {وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى} يتجه اتجاهات مختلفة.
فهذا الأصل يؤسس لحقيقة غاية في الأهمية يصرح بها القرآن بعدُ صراحة حين يقول عن الذكر والأنثى وعن الرجال والنساء {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن، واسألوا الله من فضله} (سورة النساء) فالنساء مفضلات على الرجال في جوانب. ولهن الخصوصيَّةُ بحسب الخِلقة. هن مفضلات مرشَّحات في جوانب بعينها، لا يحسنها الرجال ولا يطيقونها، حتى ولوْ أَرَادُوا. والرجال مُفَضَّلُون في جوانب أيضا يحسنونها ويطيقونها ولا يطيقُهَا النساءُ بحسب الخلق. هم مُرَشّحون لذلك، فلو فقهنا هذا الأمر لشعر كل واحد في موقعه بالاعتزاز في كونه خُلق كما خُلق. فالأصل هو الرضى عن الخلقة وعن الفطرة التي فُطر عليها الإنسان، لأن تلك الفطرة تابعة لوظيفة لا يمكن أن تؤديها خلقة أخرى، وفطرة أخرى، فلنفقه هذا فهو من أسس هذه النظرة الكلية الشاملة للمسألة الإنسانية بصفة عامة في هذا الكتاب.
والنظرة الرابعة : في إنسانية الوظيفة النسائية ومركزيتها تأسيساً على ما سبق.
ماذا أقصد بإنسانية الوظيفة النسائية؟ وماذا أقصد بمركزيتها؟
تعلمون أن هذا الكون.. أهم ما فيه هو هذا الإنسان.. هذا هو الخليفة {إني جاعل في الأرض خليفة} (سورة البقرة) له سُوِّيَت الأرض وله رُتِّبَتْ السماء. {خلقَ لَكُمْ مَا في الأرض جميعاً}(سورة البقرة) {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض}(سورة لقمان) الكلُّ مُسَخَّرٌ لهذا الإنسان، خادِمٌ لهذا الإنسان، ليَعْبُدَ هذا الإنسان بِكُلّ ذلك اللَّه جل جلاله. ليؤدِّيَ وظيفته {ومَا خَلَقْتُ الجِنّ وَالإِنْسَ إِلاَّ ليَعْبُدُون}(سورة الذاريات) فسِوَاهُ خادمٌ له، ومن ثمة فهو أهمُّ شيء في هذه الكائنات التي تُرى، إن صلَحً صلح سواه، وإن فسد فسد سواه، وغيره يُعذَّبُ بسيئاته. وغيره أيضاً يُرحم بحسناته {ولو يُواخِذُ اللَّهَ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّة}(سورة فاطر)، لأن ما سوى الإنسان تابعٌ لهذا الإنسان، إذا واخذ الله الإنسان فما الفائدةُ من بَقَاء غَيْر الإنسان، وهو أساساً موجودٌ لخدمة الإنسان؟؟ بلْ إن قيام الساعة على خطورة علاقته الأساسية بفعل هذا الإنسان، وعبادة هذا الإنسان. فالكون يُدَمّر حين لا تبقى فائدة في هذا الإنسان من حيث رسالتُه الأساسية وهي عبادة الله جل جلاله، هذا الإنسان الذي هو الأهمُّ، عندما ننظر إليه. مَن الذي يخالطه؟؟ من له الصدارةُ والأولوية، والأسبقية في صُنْعه البشريِّ العادي؟؟ من له الأسبقية في صياغته وجعله على نمط معين؟ هل هو الرجل أم المرأة؟ الجواب بغاية البساطة، في القرآن الكريم، وفي الواقع المشاهد هو المرأة.
هذا هو قصدي بإنسانية وظيفة المرأة، أي : أنها متخصصة في الاهتمام بالإنسان، والرجل متخصص في بعض ذلك لكي يعين المرأة على أداء وظيفتها الأساسية في تكامل تام، وانسجام تام، بناءً على خِلقته هو التي بها كُلِّفَ وأُنيطت به تلك الوظيفة، وبناء على خلقتها هي التي كُلفت بها وأنيطت بها تلك الوظيفة.
فللمرأة في صياغة الإنسان -إن شخصتُ الأمر- ثَلاَثَةُ أرباع. وللرجل ربُع إن شئت أن أستأنس بحديث رسول الله الذي كان جوابا لسؤال أحد الصحابة : من أحق الناس بحُسْن صحابتي يا رسول الله؟، قال : أُمُّكَ، قال : ثم من، قال : أُمُّكَ، قال : ثُمَّ من، قال : أُمُّكَ، قال : ثم من، قال بعد ذلك : أبوك، أو كما قال . فأعطى للمرأة أي للأم 75% بلغة الوقت و25% هي التي بقيت للأب، هل في الأمر محاباة للمرأة؟؟ كلا، ولكن الغُنْم على حسب الغرم.
إذا نظرنا إلى المرأة في الواقع كما يشير إليها القرآن حين يقول {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} ما حَمَلَه أبوه، أو كما قالت الأعرابية : حملتَهُ خفيفا وحملتُه ثقيلا {حَمَلَتْهُ أمّه كَرْهاً وَوَضَعَتْهُ كَرْهًا} ثم في {وَحَمْلُهُ وفِصَالُه ثَلاَثُونَ شَهْرًا} (سورة الأحقاف) وفي {يُرضعن أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن} (سورة البقرة) نجد أن هناك فترة اسمها “الحمل” لا علاقة للرجل بها ولا حظ له فيها، إلا حظّ الحماية العامَّة، والصيانة العامة ونجد أن فترة الرضاع لا حظ له فيها، وإنما الحظ كذلك خالص للمرأة. وكذلك ما بعد ذلك حتى نهاية مرحلة الحضانة أيضا، للأم الأولوية فيها، بل ولها الأسبقية بالشرع والواقع والمنطق، وهي مرحلة لها أهميتها. بعد ذلك يأتي حظ الرجل بعد أن تتكَوَّنَ الشخصية. وما أعلمُه في حدود ما تيسر لي أن -الولد أو البنت- قبل ست سنوات، يكون أكثر من 60% من شخصيته النفسية، وبنائه الشخصي قد تمَّ وكَمُل، لأن الوليد في هذه المرحلة يبتدئ في التعلم وهو جنين في بطن أمه، ويتعلمُ بعدُ بطرقه الخاصة التي أودعها الله فيه بأجهزته.. أجهزة الاستقبال الخطيرة التي تستقبل معلوماتِ كثيرةً دون أن يُكَلِّمَنا أو يعرف ما يقول. ولكنه يستقبلُ ويُخزّن. وبعد مُدَّة يبتدئ في الإرسال، لا يعلِّمُه اللغة أحدٌ. ولكنه يُخَزِّنُ المعلومات الكثيرة جدّاً.. ليست اللغة فقط. بل يخزّنُ العادات، يخزِّنُ التصرفات، يخزن النظرات يخزِنُ الإشارات، يخزن كل شيء، جهاز خطير، ولذلك قال رسول الله للصحابية التي قالت لولدها ما معناه : تعال عِنْدِي أُعْطِك شيئاً، قال رسول الله : ما أعطيته؟؟، قالت : أعطيتُه ثمرة، أو كما قالت رضي الله عنها. فقال رسول الله ما معناه : لو لم تعطه لكانت كذبة صغيرة أو كما قال ، هذا الأمر يستهان به الآن بدرجة فظيعة، فالأب والأم يظنان بأن الولد الصغير ما زال لا يفقه شيئاً ولا يعرف شيئاً. بينما هو في الواقع يعرف العجب العُجَاب، إن كذبوا سجَّل عليهم الكذب، وإن صدقوا سجل عليهم الصدق، وإن أخلفوا سجَّلَ عليهم الإخلاف، وإن أنفقوا. وإن.. وإن.. فكل ما يراه ويحسُّه يَخْزِنه. وها هنا نُكَتٌ كثيرة يعرفها الآباء عن أبنائهم، في ملاحظة الأبناء على الآباء دون أن يشعروا.
هذا ما قصدتُ بأن المرأة أساساً متخصصةٌ في ما يتعلق بصياغة الإنسان ذكراً كان أو أنثى، هي المتخصصة قبل الرجل، وخُلقت وصُمِّمت على أساس أداء هذه الوظيفة. ولو أراد الرجل أن ينافسها فيها لما استطاع، بل لا سبيل له، فهل يستطيع الرجل الحمل؟! هل يستطيع الرجل الإرضاع؟! لا يستطيع.. وكلُّ هذه المحاولات التي تريد تعويض المرأة في بعض الأمور إنما هي من المضاهاة لخلق الله، إنما هي من المحاولة لإفساد النظام العام للاستغناء عن الوظائف الأساسية، وتعويضها بالوظائف الاصطناعية، وذلك لا يساوي الأصل أبداً، بتصريح وتحقيق علماء الطب، وعلماء التشريح وعلماء البيولوجيا، كل ذلك معلوم، والدليل على ذلك أن حليب الأم -على سبيل المثال- إذا أعطي للطفل خلال ستة أشهر بكاملها بعد الولادة يكون الطفل ملقحاً تلقيحا طبيعيا، فالمناعة للأم تكون للولد طيلة مدة ستة أشهر إن كان يرضع من ثدي أمه، إنه تصميمٌ كونيٌّ قبل مجيء الطفل، هناك نظامٌ، هناك تصميمٌ خاص للوظيفة التي صُنِعَت لها الأثداء، للوظيفة التي صُنِعَت لها الأرحام، إن كل ما صَنَعَهُ الله في المرأة قَدْ صنعه.. لأمر خاص.
الأمر الثاني : نحن نعلم أنه في الفرد، في الرجل أو في المرأة توجد النقطة الأساسية الخطيرة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب كما قال : هذا الشيء الذي هو في الداخل هو الذي يُتَرْجم عنه اللسان، وهو الذي تترجم عنه أعمال الجوارح، فالحسنات تَنْبُتُ في القلب قبل الظهور، والسيئات تنبت في القلب قبل الظهور. ولذلك كانت الحرب ليست خارجية فقط، بل داخلية قبل ذلك {وإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ بالله} (سورة فصلت) فمجرد النزغ ينبغي قَمْعُه بسلاح التذكر والتقوى {إن الذين اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طائفٌ من الشَّيْطَان تَذَكَّرُوا فإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (سورة الأعراف) يجب حربُ الوسوسة في المهد (القلب)، الشيطانُ جاثمٌ على قلب ابن آدم إذا ذكر الله خَنَس وإذا غفل وسوس. فالأصل هو هذا الدَّاخِل {ويَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئا} (سورة التوبة) من الذي سبَّب الهزيمة؟ الذي سببها هو أمر داخليُّ، إعجاب بالنفس، وبالكَثْرَة {أعجبتكم كثرتكم} {أولما أصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} فالإشكال في الداخل، والمسلمون في المنطق العام لا يؤتون من الخارج، وإنما يؤتون من الداخل.
فهذا الأمر مهَّدتُّ به لقول الله عز وجل للنساء : {وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}(سورة الأحزاب) لم هذا القرار؟ لأن النقطة المركزية التي ُتْحدث السلام، أو تُحْدِث الحَرْب، التي تُحْدِث الطمأنينية، أو تُحْدِث القَلَقَ والاضطراب؛ التي تُحْدث الهدوء.. والاستقرار..أو.. إنما هي : “البيت”، فالبيت إذا كان مستقراً، وسَكَنا، كان مسكناً فيه السكون، يَسْكُن فيه القلب ويطمئن، وتَسْكُن فيه النفس وتهدأ، ويسكن فيه الكيان، وتكون فيه السكينة على أساس أن خارج البيت فيه غير ذلك، لأنه كما قال عز وجل لآدم -لأن آدم هو الذي يشتغل بخارج البيت أكثر- {فلا يُخْرجَنَّكُمَا من الجَنَّةِ فَتَشْقَى} أنت يا آدم الذي تشقى، أمّا حواءُ فَلا تَشْقَى، لأن أصلَ وُجُودِ هذا الموقع الطبيعيَّ لها أن تكون بالدَّاخِل، بالبَيْت، ولا يعني هذا أن الرجل لا يستقر بالبيت عند الضرورة والحاجة، وأن المرأة لا تخرج خارج البيت عند الضرورة والحاجة، ولكن التصميم العام والأصل أصل التخطيط، وأصل البناء الذي هو على أساس الوظيفة، إنما ينبغي أن يكون هكذا {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} {وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهليَّةِ الأُولَى} (سورة الأحزاب) {فلا يخْرِجَنَّكُما منَ الجَنَّة فتَشْقَى} لأن هذا لشَّقَاء، الكَدْحَ والنَّصْب والتعب سيكون أساساً بسبب هذا الخُروج للْخَارج، والمرشَّحُ له في أصل الخلقة هو هذا الرجل، فإذن البيت مؤسسة، هذه المؤسسةُ لها داخلٌ ولها خارجٌ، كالإنسان نفسه له داخلٌ وخارجٌ.. ظاهرٌ وباطنٌ، فهناك من هو مختصٌّ أصلاً بذلك الباطن، وهناك من هو مختص بذلك الظاهر، وهما معاً متكاملان، المختصُّ بالباطن يُعين المختص بالظاهر، والمختصُّ بالظاهر أي الخارج هنا يحمي ظهر المختص بالداخل ويعينه إلى غير ذلك. هذا التكامل أين منه المرأة؟.
قلت : المرأة بالنسبة للإنسان هي في المركز، وبالنسبة أيضا للوحدة الإنسانيَّة هي كذلك في المركز، لأن نقطة الانطلاق لابد أن نفهمها، فهنا عندنا البؤرة وعندنا الهامش، وأستسمح إخواني الرجال لأني أكاد أقول -وقد تكون هذه طَفْرَةً- إن الرّجل يكادُ يكونُ أيضاً عارضاً في هذا الكون، يَكادُ يكون ذا وظيفةٍ مُحَدَّدَة، هي التلقيحُ من ناحية، والحمايةُ والصيانةُ من ناحية أخرى. وإلا فالإنتاج حقاً مَوطنُه وتَنْمِيَتُه ورعايته في المرحلة الأساسية إنما تقوم به المرأة. وفي الوحدة كذلك الإنسانية أين وُضعت المرأة؟ وُضعت في موقع خاص، هو نقطة الانطلاق التي هي البيت، وهي ربَّتُه وسَيِّدَتُه، وهي التي تجعله من قبيل جهنم، أو من قبيل الجنة.
وأقول في كلمة خاتمة : إن الخلل الذي حدث، وجعل مثل هذه الندوة تنظم، وتقام أمثال لها من الندوات، ويسيل ويُسال لها مدادٌ كثير، في صحف، ومجلات، وكتب، إنما سببه هجوم حضارة قائمة على رؤىا أخرى مغايرة، غَزَت فتمكَّنَت، فعششت وباضت وفرَّخَت، فأنتجت ما أنتجت فكان هذا التشويش، فلو عُدْنا إلى الأصل، النبع الصافي الذي هو كتاب الله عز وجل، نتدبّر ما فيه، ونفقه أسراره لنؤسس على ضوء ما فيه، حياة جديدة، مستأنفة، لا صلة لها بهذا الوافد الغازي، ولا صلة لها أيضا بالتَّرِكة الفاسدة التي جاءت عبر العصور، لصَلَحَت أحوالُنا وتغيرت إلى الأحسن والأفضل والأنفع. فالتركة الموروثة من القرون التي جاءت بعد خير القرون كالحضارة الغازية إن وُضِعت في ميزان الشرع، يكون التبرؤ من كثير منها وعلى رأس ذلك أوضاع المرأة والأسرة، فما كانت خلال التركة الفاسدة بخير، ولا هي في الحضارة الغازية بخير، وإنما الخير كله فيما اختاره الله عز وجل من الوظائف لكل انسان ذكراً كان أو أنثى {ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشَاءُ ويَخْتَارُ} (سورة القصص)، وأخيرا أختم بقول القائل : لن يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله. والسلام عليكم ورحمة لله وبركاته.