أصل هذا الموضوع عبارة عن كلمة ألقاها الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي في جمع من المومنين بمركز جمعية جماعة الدعوة بفاس ولأهميتها الكبيرة في حث المسلمين على التحلي بالأخلاق، اترأت الجريدة أن تنشرها تباعاً تطوع بإخراها من الشريط بعض الإخوة الكرام. وأعدّها للنشر : الأستاذ المفضل فلواتي.
أكمل المومنين إيماناً أحسنهم خلقا
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز مخاطبا رسول الله :{ن، والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وإن لك لأجرا غير ممنون، وإنك لعلى خلق عظيم..}
ويقول رسول الله في حديث أبي أسامة، الذي صححه الإمام الترمذي وحسنه أن رسول الله قال: >أنا زعيم ببيت بِرَبض الجنة لمن ترك المِرَاء وإن كان مُحِقًّا، وببيت في وسط الجنة، لمن ترك الكذِبَ وإن كان مازحا، وببيْتٍ في أعلى الجنة، لمن حسن خلقه<. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا وإياكم بحُسْنِ الخلق، لأن أقرب الناس مجالس يوم القيامة من رسول الله أحسنهم أخلاقا كما قال رسول الله : >أقربُكُم منى مَجَالِسَ يوم القيامة أحَاسِنُكُم أخلاقا الموطَّأُون أكنافًا، الذي يألفون ويؤلفون<، جعلنا الله وإياكم منهم.
وفي الحديث الصحيح أيضا، أن رسول الله قال: >أكملُ المومنين إيمانا أَحْسَنُهُم خُلُقًا<.
ديننا منهج للتفكير والتعبير والتدبير والتسيير
هذا الدين، الذي أكرمنا الله عز وجل به، هو منهاج للفكر يعني للتفكير، ومنهاج للتعبير، ومنهاج للتدبير والتسيير، تدبير شؤون الحياة الفردية و الأسرية والعامة، ومن ثَمَّ، فليس المراد منه، أن يكون مجموعة أفكار توضَعُ في خِزانة العقل، أي في جانب من دماغنا، نضع مجموعة من الأفكار، نختزنها لنُنْفِق منها في ظروف، أوفي أوقات بعينها، وإنما هو توجيهاتٌ ربانيَّةٌ ورحمة مُتَنَزَّلَةٌ من الله عز وجل في كتابه لتَحُلّ فينا قلبا وقالبا، تحُلُّ فينا في الجانب النظري أولا، أي في الفكر وفي القلب، في العقل و في القلب، ثم تتحول إلى سلوك بتعبير اليوم، أو إلى لباس إن شئنا بتعبير القرآن، في قوله تعالى:{ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}(سورة الأعراف).
فإذن الدين في طبيعته، تطبيقي، ليس نظريا فقط، ليس شيئا فكريا، يكون في الفكر أفكاراً معينة، تصورات معينة، ثم نقف، لا ، بل هو أعمال، يعني أنه فكر يظهر في سلوك، يظهر في عمل. وهذا العمل نُعْتَبَر منه، ويُعْتَبَر الدين منه، أي الدين يُعْتبر منه التفكير، ويعتبر منه التعبير، ويعتبر منه السلوك، ويُعتبر منه التدبير، بما أن طبيعة الدين هي هاته، كان أكمل المومنين إيمانًا أحسنهم خلقا، بمعنى أن الذي لَبِس الدين، لاَبَسَهُ الدين، يعني خَالَطَهُ الدينُ فصار لباساً له، فَلَبِسَهُ، هذا الإنسانُ لا شَكَّ هُوَ أحْسَنُ الناس، بل أكمل المومنين على الإطلاق. أي إذا صارت توجيهاتُ الدين بصفة عامة، وتعاليمُه والرحماتُ النازلةُ من عند الله عز وجل، صارتْ فعلا مُمَثَّلَةً فيه نسبة عالية كان من أكمل المؤمنين، أمّا الذي تمثَّل فيه الدين مائة في المائة، فقد كان واحدا هو رسول الله ومن ثم شهد له الله عز وجل بهذا، فقال له : {وإنّك لعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} وشهادة السيدة عائشة ] حينما سئلت عن خُلُق رسول الله كانت من هذا القبيل حيث قالت : >كان خلقه القرآن<. فإذن هو جُْمَلةً يساوي تطبيقيا القرآن الكريم، القرآن حَالٌّ فيه بِمَعْناه، وحَالٌّ فيه بعَمَلِه، وهذا العمل الذي يتكون من التفكير ومن التعبير ومن التدبير، بصفة عامة، عليه مَدَار الإنسان وهُوَ هُوَ الإنسان، أي أنا وأنت لَسْنَا إلا عَمَلاً، نَحْنُ عَمَلٌ فقط، أي عندما نموت نساوي مجموعة أعمال صالحة أو طالحة. وهذه النقطة في غاية الأهمية لأنها مرتبطة بهذه المسألة الأساسية، التي تحدثتُ عنها قبل قليل في مفهوم الدين، وأنه ذو طبيعة تطبيقية، وليس المقصود به الجانب النظري فقط، أبدا، ولكن الجانب النظري يُعتبر أساسا فقط للعمل للآخر، أما الثمرة الحقيقة للدين فهي العمل، العمل المحسوس في مجالات متعددة، وقد تجلت هذه الحقيقة مع سيدنا نوح \ حيث قال : {رب إن ابني من أهلي، وإن وعدك الحق، وأنت أحكم الحاكمين} إذ نجد أن الله وعد سيدنا نوحاً بأن يُنْجِي أهله في الوقت الذي رأى ابنه قد غرق، فيتساءل : {رب إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلي}، وأنت وعدتني بنجاة أهلي، {وإن وعدك الحق}، وما دمت قد وعدتَ فأنت لم تخلف قطعا، ولكن التفويض، أدب النُّبُوّة مع الله عز وجل، ولذلك قال : {وأنت أحكم الحاكمين}، حكمتك عالية، وما فعلته قطعا هو على مقتضى الحكمة، ولكن أريد أن أفهم يا رب، فأجابه سبحانه وتعالى : {قال يا نوح إنَّهُ لَيْسَ من أهلك}، كيف؟ {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْر صالح}، بتعبير آخر : أنت يا نوح عمل صالح، وأهلك هم الأعمال الصالحة، وأصحابها هم أهلك، أي إذا وُجد من طينتك من ليس له عملٌ صالح، فهو ليس من أهلك، لأن العمل الطالح ليس من جنس العمل الصالح، {قال يا نوح إنه ليس من أهلك}، السر {إنه عمل غير صالح}.
هذه أساسا تعني أن الإنسان مجموعة أعمال، استحضر أي شخصية في التاريخ تجد هذه الحقيقة واضحة، إذا ذكرنا فرعون مثلا في القرآن، هل نرى طوله أو قصره، أو غلظه،…أو….لا، ولكن نراه مجموعة من أعمال معينة هي التي تكوِّن فرعون، موسى \ مجموعة أعمال معيَّنة، هي التي تكون لنا شخصية موسى في القرآن ، إبراهيم \… وهكذا… وهكذا…فالإنسان هو عبارة عن مجموعة أعمال، وحتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. في حوار لنبي من أنبياء الله عز وجل مع قومه، هو سيدنا لوط\، قالوا: {لئن لم تنته يا لُوطُ لتكونَنَّ من المُخْرَجين}(الشعراء : 167)، فهم ينظرون إلى الفعل وهو أجابهم بالعمل {قال : إني لعَمَلِكم من القالين}، فلم يقل، إني لكم من القالين، ولكنه {قال إنِّي لِعَمَلِكُم من القالين} حيث أبرز العمل. الذي هو الأساس في الشخصية، وعليه المدار في الحياة والثواب والعقاب، بحيث لو افترضنا أنهم غَيَّروا عملهم لتحوّل البُغْض إلى محبة، ولما قال لهم :{ إني لعملكم من القالين}.
الدين سولك لا دعوى
إن الإنسان في نظرة هذا الدين عبارة عن مجموعة من أعمال حيا وميتا، والعمل أيضاً أساس الرابطة الإيمانية، وبناء كل شيء يتم على العمل، فالدين، إذن، يتجه إلى الجانب التطبيقي بالدرجة الأولى، وهو الذي يطلبه من الإنسان وهو الذي يراد منه، وبعد الموت لن يبقى إلا العمل عند وضع الإنسان في القبر يرجع إثنان ويبقى واحد، يرجع مالُهُ وأهْلُه ويبقى عمله، يبقى العمل الذي عليه المدار. {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}وإن صغر هذا العمل بل وإن كان نية، وإن كان تفكيرا فقط، وإن كان هَمًّا بالشيء، كل ذلك له عند الله أحْرٌ.
إذاً، الدين ذو طبيعة تطبيقية وينبغي أن يظهر هذا الدين في المؤمن، سلوكا لا دعوى، سواء كانت الطبيعة التطبيقية قولية أو إشارية، أو غير ذلك، المهم إن يظهر الدين فعْلا عملا ملموساً.
وذكرت جوانب ثلاثة يتجلى فيها هذا السلوك، وهذا الخُلُق، جانب التفكير، والتعبير، والتدبير.
والجانب التفكيري في غاية الأهمية، لأن استقامة المنهج التفكيري، المنهج الذي به نتلقى الأشياء، ونعالج الأشياء، ونُنْتج الأعمال في لحظة التفكير فيها والتخطيط لها، تؤدي إلى استقامة الفعل وطيب النتائج.
وأهميته تأتي من كونه بداية الانطلاق، ثم بعد ذلك، عندما نريد إخراج ما فكرنا فيه ينبغي كذلك أن يَخْرُج بطريقة مرْضية عند الله تعالى.
ومن ضوابطها الكبرى قول رسول الله : >من كان يومن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت< أنا وأنت نُنْتِجُ فعلا إسمه القول، والقَوْلُ يدخل في العمل في النظرة الإسلامية، فقول الإنسان من عمله، وتَفْكِيرُه من عمله الذي سيؤجر عليه.
القول الصواب يحتاج إلى شرطين : الإذن من الشريعة والحكمة
وينبغي أن نفكر في القول قبل تصديره باللسان إلى المستهلك المتلقي أي المستمع، ينبغي أن نفكر فيه هل هو إذا وَزَنَّاهُ بالشريعة جائز قوله أو واجب، أو مستحب أو على الأقل مأذون في قوله.
نفكر فيه من هذه الجهة، ونفكر فيه كذلك من جهة الصواب ومطابقته للواقع والمناسبة، ونفكر فيه من جهة الباعث عليه، أي أن النية التي تقف وراءه تحتاج إلى التصحيح، هذا أولا.
أما ثانيا فينبغي أن يكون صوابا، وكلمة صواب تعني المطابقة لأمرين: المطابقة للنصوص الشرعية من ناحية، بحيث لا تصادم الشرع. ومن ناحية أخرى المطابقة لمقتضى المقام. إذ لا تتم صوابية الأمر، إلا بالإصابة في الناحيتين، فقد يكون الاجتهاد سائراً حسب مقاييس الشريعة، ولكن صاحبه وصل إلى ما ليس صوابا، لأنه لم يناسب ما ينبغي، ولم يطابق ما ينبغي، أي لم يُصِبْ المفصل بالضبط، فأصوبُ العمل، يقتضي هذين الأمرين.
فإذن الفعل الذي ننتجه، أي القول الذي نقول ينبغي أن يُفَكّر فيه قبل تصديره، يعني نفكر هل هو بخير أو ليس بخير يعني هل يناسب المقام. أو لا يناسب المقام هذه نقطة مهمة قد لا يُلْتَفَت إليها. فما كل كلمة مشروعة يمكن قولها في أي وقت، يعني ها هو الكلام حق، ولكن ليس هذا هو الوقت المناسب الذي ينبغي أن يقال فيه، وهذا أمرٌ صريح في الشريعة. فسيدنا محمد ، الذي هو رسول الله ويتلقى عن الله، ولا أحد منا يمكن حتى أن يقاربه، ومع ذلك حين قال للسيدة عائشة لولا أن قومك حديثو عَهْدٍ بالإسلام، لبنيت الكعبة على قواعد إسماعيل.
ها هو بيت الله الذي اسمه الكعبة، له أساس في الجانب الذي رفعه سيدنا ابراهيم، وفيه جانب كان سيدنا اسماعيل رفعه، والذي يسمى الآن بالحجر، الحائط القصير، الدائري حتى هو من الكعبة، رسول الله أراد أن يرفع البيت على أصله الكامل، ولكن العرب حديثو العهد بالإسلام، في حالة ما إذا مس الكعبة وأحدث فيها ضربا من التغيير، قد تقع فتنة، فدرءا لهذه الفتنة، أوقف هذا الحق والخير، هذا الخير عظيم، ومع ذلك أوقفه، فإذن -وهذا ما يسمى بالحكمة – مطابقة السلوك والتصرف لمقتضى الحال – هو ما أشرح به الصواب.
فإذن “من كان يومن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت”، أمّا إذا اختل في القول شرطٌ من الشروط السابقة، أو لم يتبين لك لا هو خير ولا هو غير خير، وحِرْت فيه، لا تعرف ماذا تفعل، فهنا نطبق القاعدة المعروفة للورع ” اتْرُك أحْسَن” أيْ دَعْ ما يريبك إلى مالا يريبك.
يؤول الأمر في النهاية إلى أن من تمحضت خيريته هو الذي ينبغي إنتاجه وقوله، وما لم تتمحض خيريته يُتْرَك جانبا.
وكلمة سيدنا عبادة ]، تَصُبُّ في هذا المعنى فقد قال : “منذ بايعت رسول الله ، ما تكلمت كلمة، إلا مَزْمُومَة مَخْطُومَة” شاهدوا النقلة التي كانت تتم بسبب الإيمان، يعني قبل ذلك كان يتكلم كما يتكلم الناس، لكن مع مجيء الإيمان أصبح الكلام عملاً وعَلَيْه ثَوَابٌ أو عقاب كما أخبر رسول الله حيث قال لمعاذ : >ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلاَّ حَصَائِدُ ألسنتهم<.
اللسان، خطير… ولخطورته، جعل الله سبحانه وتعالى له قفلين، قفل الأسنان وقُفل الشفتين، حتى لا يفتح عما يقال إلا بعد وزنه والتفكير فيه.
إذن لا وجود للكلمة الحرة التي يمكن أن تخرج وحدها بدون ضابط وتفكير، فإذا كان العقل يسبق اللسان، لا خوف. وإذا كان اللسان يسبق العقل فهناك الخوف. ولذلك فالتسرُّع ليس من خصائص أَتْبَاع هذا الدين جُمْلَةً، لذلك قال رسول الله للأشح ابن عبد القيس إن فيك خصلتين يحبهما الله عز وجل، الحِلْم والأناة، أي السير بتمهُّلٍ.
وهذه النقطة “التمهل” راعتها الشريعة في مناسبات مختلفة، راعتها مثلا في المِشْي، {وعِبَادُ الرَّحمان الذِين يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنا}(سورة الفرقان)، راعتها في تسيير الأمور {وقُرْآنا فرقناه لتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاس عَلَى مُكْثٍ ونزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}(سورة الاسراء). أي وقَسَّطْنَاهُ تَقْسِيطًا. {وقَالَ الذِين كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآن جُمْلَةً واحِدَة،}(سورة الفرقان) مرة واحدة.
لا، التمهل في كل شيء مراعى لسَيْر المتمهل الهادئ، يراعى هذا التمهل والتدرج في جميع الأمور، نعم تأتي ظروف استثنائية تقتضى السرعة في التصرف، ولكن تلك ظروف استثنائية..
فهذا الحال للّسان، فليقُلْ خيراً أو ليصمت، شاهدوا ماذا قيل في هذا الأمر، الذي هو الكلام، ومثل ذلك يتعلق ببقية الأعضاء بصفة عامة.
مطلوب إذن أن يكيف الإنسان سلوكه وفق الدين، يعني يماشى السلوك على حسب الدين في جميع جوانب حياته، لماذا هذا؟ لأن المسلم ليس إنسانا عاديا، المسلم في وضع الشاهد، في وضع الحجة، والحجة لا تقام إلا إذا استجمعت شروط الحجة. المسلم شاهد على الناس، بما أنه من أمة سيدنا محمد فهو من موقع الشاهد على غيره في هذا الموقع. فإذن الشهادة هل هي اللسان فقط؟ لا، اللسان عنده قيمة فقط في التبليغ، ولكن الشهادة الحقيقية تتم بوجود الشخص على هيئة معينة، يعني أنه بمعنى قُدْوة بمعنى أنه ممثل للدين تمثيلا صحيحا، إن لم يكن كذلك يمثل تنفيرا من الدين، والمطلوب أن يكون عنصر جاذبية، المسلم له جاذبيته له مغناطيس بحكم تمثيله للدين بحكم خُلُقه، فإذا كان خلقه غير الخُلُق الشرعي، فهو يصد الناس عن الدين، ويُنفرهم منه، يعني يمنع الناس من الاقتراب من الدين ونحن الآن على المستوى العالمي في هذا الموقع. فمنع بقية العالم الذي ليس في العالم الإسلامي، الذي لم يرث الدين، نمنعه من أن يدخل إلى الدين، بسبب كوننا لسنا ممثلين للدين، لأننا لو طبقنا لحصلت لنا القوة ولحصلت لنا الإمامة، وإذا حصل لنا هذا حصل لنا كمال الإيمان بإذن الله، وحصل لنا العلو وحصلت لنا السيادة ولم نبق في هذا الموقع الذي نحن فيه.
حَمْلُ العلم بدون تطبيق
لمقتضاه حجة علينا
فإذن، إن هذا الدين خُلُقٌ، هكذا ينبغي أن نفهمه، لا داعي لأن نقول : اعرف الآيات الفلانية، واعرِفْ الأحاديث الفلانية واعرف واعرف… أعرِفْ ما شئت، لن تؤجر حتى تعمل، اعْلَمْ ما شئت لن تؤجر حتى تعمل وإلا سيصير ذلك العلم أخْطَرَ شيء عليك، نسأل الله التوفيق.
هذه الفقرة من الحديث النبوي الشريف تبين ذلك بوضوح : >كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبِقها، القرآن حُجَّةٌ لك أو عليك<. إن تحَوُّلَ العلم إلى عمل صار حجة للشخص وإذا لم يتحول إلى عمل صار حُجَّةً عليه، وذوقوا معي كلام رسول الله >اللهم انفعني بما عَلّْمَتِني وعَلِّمْني مَا يَنْفَعُني وزِدْنِي عِلْمًا<
أي ما حَصَل به العلم اجعلْهُ نافعا لي، وعلِّمني ما ينفعني وزدني علما، لأن العلم حقيقة يقتضي اليقين، ولأن العلم لا ينفصل عن السلوك، وإذا لم يوجد سلوك وفق العلم انْتَفَى العلم، فإذا وصلت المعلومة إلى الذهن واستقرت في القلب أنتجت درجة اليقين الذي ينتج الطاعة المطلقة {أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْل سَاجِدًا وقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه، قُلْ هَلْ يَسْتَوي الذِينَ يَعْلَمُونَ والذِينَ لاَ يعْلَمُون}(سورة الزمر). إذن الذي هو قائمٌ آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، هو العالم حقا ولَيْسَ الذي يعرف كذا وكذا من الآيات والأحاديث، وقَرَأ عدداً من الكتب…
المهم هو عملية التحويل. التحويل من الجانب النظري إلى الجانب السلوكي، فكلما تطابقت وكانت مضبوطة، فالعَبْدُ على الصراط، فعلا. ولذلك أثر عن أبي بكر ] أنه لم يكن يأخذ كثيراً من الكلام، من مجلس رسول الله بل يأخُذُ طرفًا قليلا ثم يذهب ليحَوِّلَهُ، ويأتي ليأخذ طَرَفًا آخر، وقد سَمِعْتُم -بدون شك- أن عبد الله بن عمر أُثِرَ عَنْه مثلا أنه قضى 8 سنوات وهو يتعلم سورة البقرة، وهل معنى هذا أنه قضى 8 سنوات وهو يحفظها، فربما يحفظها في أسبوع أو أسبوعين مع التوفيق، لأن بعض الأفراد يحفظون نصف الحزب في النهار يعني 5 أحزاب يستغرق فيها 10 أيام. لكن الفرد يحتاج إلى عدد من التوجيهات الربانية التي تتجلى للفرد في نفسه. وفي أسرته وفي حاله، فهو يتصارع معها لردها إلى واقع، ويجاهد نفسه في ذات الله لكي يحولها إلى واقع خاضع للتوجيهات القرآنية.
إحسان العَمل بالعلم
هو الطريق لنشر الإسلام
فهذا المنهاج للتلقي في حد ذاته، وهذه النظرة، يجب أن نكون منها على بال، أن نضعها أمامنا، وهي أنه لا قيمة لما نعلم ما لم نحوله إلى عمل، وإننا إذا أحْسَنَّا العمل بما نعلم فقد مَهَّدْنا السبيل لنشر دين الله عز وجل، ومهَّدْنا السبيل كل التمهيد لجعل الناس يُقْبلون على الله سبحانه وعلى دين الله، وعلى كلمة الله. وإذا أسأنا التطبيق فساء خُلُقنا، فإننا نَصُدُّ الناس عن طريق الله، ونمنعهم لأننا نمثل ضربًا من اللَّبْس والإشكال. وهذا الذي يحمل الدين لا نرى منه ذلك الشيء، فما العمل؟ فلذلك، كانت أهمِّيةُ الخُلق الذي ألح عليه رسول الله وأنزله تلك المنزلة الرفيعة كما سمعتم. وقال: إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم، تصور إنسانا يصوم أبدا ويقوم أبدا. فله أجر كبير بدون شك، وبفضل الله تعالى يبلغ صاحب الخلق الحسن هاته الدرجة بمجرد حسن خلقه.
حُسن الخلق يشمل كل جوانب الدين
وحسن الخلق، إذا فصلنا فيه قليلا نجد أنه يشمل كل جوانب الدين وعلى رأس ذلك : الإيمان الحسن، لأن الشرك سوء خلق، الشرك الذي هو أكبر كبيرة موجودة في الدين، هو عبارة عن سوء خلق، لأن نعمة الوجود، نعمة تستحق كل شكر فإذا أضفت إليها نعمة الامداد بكل ما تحتاج إليه من هواء نتمتع به، وشمس تدفئنا، ومناظر تعجبنا ومأكولات تغذينا إلى غير ذلك مما لا يُحصى من النعم، فكم تحتاج هذه النعم من شكر؟؟ هل الإنسان أوجدها؟؟ ألا ما أقبح الشرك!!
هل هناك سوء أدب يصل إلى هذا، أن تجعل لله نِدّاً وهو خلقك وحده، {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلهم لعلكم تتقون، الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناءا وأنزل من السماء ماءا…. فأخرج به من الثمرات رزقا لكم، فلا تجعلوا لله اندادا وأنتم تعلمون}(سورة البقرة)، كيف تشرك معه غيره، لذلك قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}(سورة لقمان)، والظلم في العربية هو وضع الشيء في غير موضعه.
الإخلاص لله عز وجل وحده من أعظم الأخلاق الحسنة
وحسن الخلق مع الله يشمل بالدرجة الأولى الإخلاص لأنه هو المقابل للشرك.
ففي صريح القرآن الكريم نجد أن الذي يقابل الشرك هو الإخلاص، وليست اللفظة السائدة التي تسمى “التوحيد”، التي يُتَكَلَّمُ عنها كثيرا. والسبب هو طبيعة هذا الدين التطبيقية، لأن التوحيد يحيل على الجانب النظري ولا وجود له في كتاب الله عز وجل، بينما الإخلاص يُحِيلُ على سلوك قَلْبِيٍّ، الإخلاص ليس فكرةً “قارة” في الدماغ، لا، ولكنه ممارسةٌ للقلب البشري، أي سلوك ممارس وذاك الذي عليه المعول.
لأننا لما نقول لفظة الربوبية عَمَلِيًّا نستحضر ما هو آت من عند الله عز وجل إلى العَبْد من نِعَم لا تُحصى مثل الرحمة، والخلق، والرزق… أي كل أسماء الله الحسنى، التي تفيد بأن أشياء آتيةٌ من عنده إلى العبد، فهذه كلها داخلة ضمن الربوبية أما الألوهية فتأتي من العبد، فهي من عند العَبْد طالعةٌ وصاعدة إلى الله عز وجل، ثَمَّ مكانُها، أي هل قلبُ العبد يتعلق بالله فقط أم به وبغيره. أو بغيره فقط؟ لأن القلب هو محل الاخلاص ومحل الهوى أيضا، ولذلك قال رسول الله : >لا يُومن أحدُكُم حتى يَكُونَ هَوَاهُ تبعًا لما جِئْتُ به<، يجب أن يطوّع الهوى للشريعة. والدرجة الرفيعة في هذا التطويع هي أن تجد حلاوة في ذلك >ثلاث من كن كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يكره أن يعُود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار، وإن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل< أو كما قال ، هذه درجة أخرى تسمى حلاوة الإيمان والسعيد من وصلها.
إذن مقابل الشرك في كتاب الله عز وجل هو الإخلاص، والسبب هو طبيعة هذا الدين العملية التطبيقية لأن الإخلاص هو سلوك القلب وفيه تتجلى العَبْدِيَّة الحقيقية لله عز وجل، والعبودية الحقيقية ثَمَّة. ولذلك هذه المنطقة للقلب، منطقة لا تُرى، وهي منطقة حرام على ما سوى الله عز وجل، >إن الله لا ينظر إلى صوركم وأقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم<. وعلى هذا الشيء كان القلب هو الذي معه “الكلام” لأن الجريمة تنبت نزغا من الشيطان في القلب، في الأول تكون فقط طائفاً من الشيطان أي خاطراً. أو نزغاً ثم بعد ذلك تتحول إلى فكرة، ثم تتحول فيما بعد إلى قول أو إلى فعل، فالإسلام يحاصرها في المهد، الإخلاص يحاصرها في منطقة التلقيح والنشوء في وسط القلب، {وإما يَنْزَغَنَّك من الشَّيْطَان نَزْغٌ، فاستعِذْ بالله}(سورة القصص)، أي انتقل إلى الله بسرعة وأقطع على الشيطان الطريق، فإذا قطعنا عليه الطريق في القلب لم يبق له المرور إلى اللسان ثم إلى الممارسة السلوكية.
فهذا السلوك القلبي وهو الإخلاص من أحسن الخُلق مع الله، تخلص إليه ولا تشرك.
حُسْنُ الخلق في العبادة يشمل
إحسان العلاقة بالله وبالناس
وهناك حُسْن السلوك مع الناس بدءا برسول الله ، وهناك حُسْن الخلق مع النفس..
جميع هذه الصور حسن الخلق : كيف يجب أن تكون في صورتها الممتازة، كلها يجب أن تتحول إلى لباسٍ في القلب، أي الإحسان في العبادة سواء كما قلتُ في التفكير، أو في التعبير، أو في التدبير ولذلك قال رسول الله تعليما لمعاذ ولنا : لا تنسَ دُبُر كُلّ صلاة أن تقول >اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحُسْن عبادتك<. هذا الإحسان في العبادة، كلمة جامعة كالخاتمة، والآخَرَيْن يمهدان لها، هُمَا منها ويمهدان لَها.
فنسأل الله، إن يمن علينا بحسن الخلق، إننا مقصرون في هذا الجانب كثيرا، وهو الجانب المعتبر في الشريعة، هو الذي عنده الاعتبار عند الناس وهو الذي يشاهد عند الناس، المهم من أنت أمامه؟ ماذا قدمت له :
أحْسِن إلى الناس تَسْتَعْبِد قُلُوبَهم
فطال ما استعبد الإنسان إحسان
هذا الإحسان بصفة عامة هو رأس الإيمان، اكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، هذا الإحسان هو المطلوب، يعني أن الإنسان يحاول أن يجاهد نفسه في ذات الله تعالى، لتزكو وتستقيم على أمر الله، تفكيرا وتعبيرا وتدبيرا ويحاول كف أذاه عن الخلق بصفة عامة وهو يكف أذاه بجميع أشكاله عن الناس، ويصبر على أذى الآخرين، ثم ينتج الخير ما استطاع {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا. واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.