كلمة افتتاح مجالس تدارس القرآن الكريم


كلمة افتتاح مجالس تدارس القرآن الكريم

د. الشاهد البوشيخي

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا.

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علما.

الله افتح لنا أبواب الرحمة وأنطقنا بالحكمة واجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة.

بسم الله نفتتح هذه المجالس المخصصة لتدارس القرآن الكريم : كتاب الله تعالى الذي منه كان المنطلق، وبه كان البدء، وعليه المدار في الأمر كله.

وحصة الافتتاح  اليوم مخصصة لترتيب أمور هي بمثابة، مقدمات ممهدات نصوغها في شكل أسئلة، فنضع السؤال الأول هكذا :

لماذا التدارس وليس الدراسة؟

لماذا كانت هذه المجالس مخصصة للتدارس ولم تكن في صورة دراسة للقرآن الكريم على الطريقة المعروفة المألوفة في دراسة التفسير؟.

لماذا لم تكن إلْقَاءً في شكل محاضرة؟ أو في شكل درس؟. واخْتير لها أن تكون في صورة مذاكرة جماعية، في صورة تدارسٍ جماعيٍّ بين أهل العلم والباحثين من الطلبة والمُهْتَمِّين بعلم كتاب الله تعالى.

لماذا كانت على هذه الصورة ولم تكن على غيرها؟.

ذلك بأن الأجر الأعظم مرتَّبٌ على التدارس، وليس على الدراسة، ففي قراءة القرآن أجرٌ عظيم عند الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >مَنْ قَرَأَ حَرْفاً منْ كِتَابِ اللّهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ، والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، لا أقول ألم حَرْفٌ ولكن أَلِفٌ حَرْفٌ ولاَمٌ حرف ومِيمٌ حَرْفٌ< فمجرد قراءة القرآن عليها أجر عظيم عند الله تعالى، ودراستُهُ وتدبُّرُه في الصورة الفردية فيها أجرٌ عظيم كذلك عند الله تعالى.

ولكن التدارس فيه مشاركة، أي أن الدراسة فيه تحدث من المجموع، وليست من فرد واحد يقول، والآخرون يَسْتَمِعون، وقديما قيل : “مُذَاكَرَةُ اثْنَيْنِ خَيْرٌ من حمْلِ وقْرَيْنِ” أيْ تَذاكُر اثنين خير مما تحْمِله بهيمَةٌ من أسْفَارِ الكتب.

هذا التدارس هو الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >من نَفَّسَ عنْ مومِنٍ كُرْبة من كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللّهُ عَنْهُ كُرْبَةً من كُرَبِ يوم القِيامة، ومن يَسَّر على مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ الله في الدنيا والآخرة، واللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أخِيهِ، ومَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إلى الجَنَّةِ، ومَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الله تعالى يَتْلُونَ كَتَابَ اللّهِ ويَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَة، وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وحَفَّتْهُم المَلاَئِكَةُ، وذَكَرَهُم اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ومَنْ بَطَّأَ به عملُه لم يُسْرِعْ به نَسَبُه<.

أجُورُ التدارس :

نقف عند الجزء الذي يعنينا من الحديث، هذا الجزء يذْكُر أربعة أجور مرتبة على التلاوة الجماعية المصحوبة بالتدارس، والمتْلُوَّة بالتدارس.

- ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله : أيّ قوم كانوا، وفي أي بيت كانوا، وتعظم الأجور أكثر بحسب الأمكنة.

- يتلون كتاب الله : يقرأ واحد والآخرون يستمعون منصتين على قاعدة : >وإذا قرئ القرآن فاسْتَمِعُوا لهُ وأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ<-سورة الأعراف-.

- ويتدارسونه بينهم : التلاوة وحدها، لها أجْرُها المذكور في نصوص أخرى، ولكن التلاوة وبجانبها التدارس، هي التي نجد فيها الأجور الأربعة، التي لا نجدها لمن يتلو القرآن وحده، ويتدبره وحده، ولكن لمن يتلوه في جماعة من المومنين ويشتركون جميعا في دراسة القدْرِ المتلوِّ من كتاب الله تعالى.

والأجور الأربعة هي :

1- نزلتْ عليهم السكينة :

السكينة هي السكون والطمانينة التي تنزل في قلب المؤمن : >هُوَ الذِي أنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ المُومِنِينَ< لماذا؟ >لِيَزْدَادُوا إيمَاناً مع إيمَانِهِمْ<-سورة الفتح-، فإذن بالسكينة يزداد الإيمان، وهذه المجالس -مجالس الذكر عموما- تنزل فيها السكينة، ولكنّ رأْسَ مجالس الذكر م تدارس القرآن الكريم، لماذا؟ لأنه هو الذكر >إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ< >وقَالُوا يَا أَيُّهَا الذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ<-سورة الحجر-، فرأْسُ الذكر القرآنُ، ومجالسه هي مجالسُ الذكر، وأعلى هذه المجالس هي المجالسُ التي يتم فيها التدارس. فلذلك كان لنا الحرص لتكون هذه المجَالِسُ للتدارس، للفَوز بالسكينة التي تنزل أساسا في القلوب، لجَعْلِها تسكن إلى ما جاء من عند الله، وتطمئن إلى أنه هو عين الحق، حيث يحصل لها بذلك اليقين، واليقينُ الإيمان كله >ولم يُقْسَمْ بين الناس شيء أفضل من المعافاة بعد اليقين<-رواه أحمد-. وهو القائل صلى الله عليه وسلم : >إِذَا سَأَلْتُمْ اللَّه فَاسْأَلُوهُ العَافِيَة<، ومعنى ذلك أنّ اليقين يسبق العافية، لأننا إذا تأمَّلْنَا وتدبرنا قليلا وجدنا أن اليقين في حقيقته هو عَافِيَةُ القَلْبِ، هو من جِنْسِ العافية، إلا أنها عافيةٌ خاصة للنقطة التي بها يكونُ الإنسان ذا صورة مُعيَّنة، ذا سلوك مُعيّن، ذا تَصرُّف خاص، ذا تفكير متميز، ذا تعبير معيّن، وذا تدبير مُعَيّن، هذه النقطة هي القلب قال صلى الله عليه وسلم : >ألاَ وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألا وهِيَ القَلْبُ<، واليقين الذي هو الإيمان كله يكون في هذا القلب، فإذا استيقن العبد في قلبه أن ما جاء من عند الله هو عين الحق، صار عبداً لله حقا يأتمر بأمره وينتهي بنهيه ولا يُبَالي بغيره، جعلنا الله وإياكم من الموقنين المعافين، فهذا الأجر الأول وحسبك به.

والأجر الثاني هو :

2- وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَة :

أيْ صارت لهم بمثابة الغِشاء، كغشاء الرسالة، فالرحمة تصير لمن هو في مجلس التدارس بمثابة الغشاء، غَشِيتْهُمْ رحمةُ الله سُبْحَانَهُ وتعالى، وأنتم تعلمون أن القصد من الخلق أن نعبد الله : >ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ<-سورة الذاريات- ولكن القصدَ من العبادة مطلقاً بجميع أشكالها هو أن تَحْصُلَ الرحمة، لأن الرحمة رُبِطَتْ بأعمالنا التي قُبِلَتْ مِنًّا، وحتى مالم نُدْرِكْهُ بِأَعْمَالِنَا اللَّهُ بِفَضْلِهِ ورحمته يُمِدُّنَا به ويَمْنَحُنَا إيَّاهُ بِسَبَبِ الرَّحْمَةِ كَذَلِك، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور : >لَنْ يَدخُلَ أحَدَكُمْ الجَنَّة بِعَمَلِهِ، قالُوا ولاَ أنْتَ يَارَسُولَ اللَّـهِ؟  قَال ولاَ أنَا إلاَّ أن يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ< فعَلَى الرَّحْمَة المَدَارُ، لأن العبادة تؤدي للتقوى : >يا أيها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ والذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون<-سورة البقرة- والتقوى تَسْتجلب الرحمة >واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ<-سورة الحجرات-. وهكذا الخلق القَصْدُ منه العبادةُ، والعِبادةُ القصد منها التقوى، والتقوى القصد منها الرحمة، فهاته الرحمة التي هي بهذه المنزلة، والتي إن كانت حَصَلَ الائْتِلاَفُ، وانْتَفَى الاخْتِلاَفُ، لأنها تُجَنِّسُ الأَرْوَاحَ التي هي جنود مُجَنَّدَةٌ ما تعارف منها ائْتَلَفَ وما تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ، فكأن أصحاب مجالس تدارس القرآن الكريم ينزل عليهم من الله تعالى -بنور هذا القرآن الذي هو نور من أنواره سبحانه  وتعالى- ما يجعل منهم رُوحاً واحدة أو ما يُشْبِهُ الروح الواحدة التي تُؤَدِّي إلى تصْيِيرِ الأجساد وإن اخْتَلَفَتْ كالجسد الواحد، المشار إليه في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : >مَثَلُ المؤمِنِين في تَواَدِّهِمْ وتراحمهم وتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إِذاَ اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى<-متفق عليه- إنما يأتي ذلك نتيجة لِمَاءٍ يَنْزِلُ في القلوب به تَحْيا وبه تُحْيَى، وبه تَسْتَحِيلُ الأجساد المتفرقة إلى أجْزَاء في جَسَدٍ واحد.

وهذه الرحمة لا يتمتع بها اليهود والنصارى لأنهم بسبب نسيانهم بَعْض ما ذُكِّرُوا به أغْرَى اللَّهُ >بَيْنَهُمُ العَدَاوَةُ والبَغْضَاء< أما هذه الرحمة فيقول الله فيها : >ولاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ<-سورة هود- فالمرحومون ينعمون بنعمة الائتلاف، وهي رحمة من نتائج الرحمة التي هي من نتائج الاستماع إلى القرآن الكريم والانصات إليه وتدبره وتدارسه في الصورة الفردية والجماعية، قال تعالى : >وإذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ<.

فالرحمة تتنزل في القلوب مع القرآن، ولكنها في مجالس التدارس تصير بتعبير حِسِّيٍّ تَشْخِيصِيٍّ أخََْبر به الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : >غَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ< أي صَارَتْ كالغِشَاءِ المصنوع من الرحمة الربانية، والرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يطلبون الرحمة >وأدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ< لأن من دخل في الرحمة فاز فوزا عظيما، وفي هذا الحديث بشارة بأنه يدخل في الرحمة كل الذين يتدارسون القرآن حيث تعمُّهُم حتى تصير بمثابة الغِشاء لهم، وأنْعِمْ به من غشاءٍ.

3- وحفتهم الملائكة :

جاءت على الحافة أي الجانب، فمع الجوانب تكون الملائكة وأهل الإيمان، المتدارسُون للقرآن في الوسط، والملائكة من خلفهم تَحُفُّ بهم. وهذا الأجر في غاية الأهمية أيضا وهو يدل على تَرَقٍّ، وإذا تأملنا في هذه الأجور الأربعة نجدها مترقية متكاملة، بعضها يترتب على بعض،  فأن تأتي الملائكة لمجالستك حبا في طعام عندك هي شمت رائحته الطيبة، جاءت تلتمس حِلَقَ الذكر لتستمع لتتقوت لأنها أرواح وما نزل من عند الله هو كذلك روح >وكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ ولاَ الإِيمَانُ ولكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ منْ عِبَادِنَا<-سورة الشورى-.

فللملائكة حواس شم خاصة تشم بها رائحة الذكر، تطوف باحثةً عن حِلَقَ الذكر فإذا وجَدَتْ مثل هذا المجلس حفت به، نزلَتْ وأقامَتْ، وحَفَّتْ به من كل جانب، والجليس أيها الأحبة يتأثر بجليسه :

من خالط العطار* نال منه طيبه

ومن خالط الحداد نال السَّوَائدَ.

وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : >المَرْءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ<، والخليل هو الذي يُصاحَبُ بكثرة. فالملائكة حين تجلسُ وتعاشِرُ مَنْ تُعَاشِرُ، لاَشَكَّ أنَّ أخلاقَهَا ستتسرب يَوْماً بَعْدَ يَوم إلى أخلاق مَنْ تُجالس، ونفسُ القاعدة هاته التي هي النَّيْلُ من طيب بائع العطر، والنَّيْلُ من سَوادِ الحَدَّادِ تنطبق على مجالسة الملائكة.

والملائكة ما هي أخلاقها : >لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ مَا يُومَرُونَ<-سورة مريم- هُمْ خَلْقٌ مؤسَّس أصْلاً على الطاعة والامتثال الكامل لله سبحانه وتعالى، خَلْقٌ لا يعرف المعصية. وبما أننا نحن خلق قد أُلْهِمَتْ نُفُوسنا فجورها وتقواها : >قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا<-سورة الشمس- فلِتَزْكِيَتِهَا ينبغي إجْلاَسُهَا بالمجالس التي بها تتم التزكية ومُصَاحَبَتُهَا لمن مصاحبتُهم به تَتِمُّ التزكية، والملائكة على رأس من يجالسون للتزكية، فهذا الأجر الثالث عظيم لمن تأمله أيضا. أما الأجر الرابع فهو :

4- وذكرهم الله في من عنده :

فهذا رأس الأمر وذِرْوة سنامه، أنْ يُذْكَر العبد عند الله، لا يكون ذلك إلا إذا فعل هذا العبد ما يستحق به أن يُذْكَرَ في المَلإِ الأعلى، إلا إذا ترشح تَرَشُّحاً خاصّاً من جِنْسِ تَرشُّح أولئك الذين ذُكِرُوا في الكتاب، الذين قال فيهم تعالى : >واذْكُر في الكتاب إبْرَاهِيمَ< >واذْكُرْ في الكِتَابِ ادْرِيسَ< >واذْكُرْ فِي الكِتَابِ اسْمَاعِيلَ<  إلى غير ذلك من الذين ذُكِروا عند الله وخُلِّدَ ذكرهم في كتاب الله، لكونهم اتَّجهوا إلى أن يكونوا مثَلاً، بل صَارُوا مثَلاً، نَمَاذِجَ يُحْتَذَى عليها، ويُدْعَى إلى أن يَكُونَ النَّاسُ مِثْلَهَا، ويَقْتَدُوا بها >أُولَئِكَ الذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ<-سورة الأنعام- أي اقْتَدِ بهم واهْتَدِ بِهُدَاهم. فالملأ الأعلى فيه من لا يعصي الله سبحانه وتعالى من الملائكة، وليُذكَرَ العبد في الملإ الأعلى لابُدَّ أن يطهَّرَ من المعاصي.

وإذا تأملنا قصة آدم عليه السلام، فإننا نجد آدم كان مع الملائكة، وحين صدر منه ما صدر تقديرا من الله عز وجل وقَدَرا، وترتيباً لأمر الخَلْق، وأمْر المُلْكِ عامة كَانَ الإهْبَاطُ، لأن الذي يَسْكُن الجنة هو الذي لا مَعْصِية له.

فالذي يذكر في الملإ الأعلى يترشح لهذه المنزلة وإن تعددت المجالس وتعددت حالات الذكر وكثرت، فمرجوٌ لكثرتها بأن يتأهل الذاكر للذكر عند الله سبحانه وتعالى.

وإِذَن فهذه الأجور، كما ترون، كبيرة وعظيمة جدا، ولا تحصل بغير التدارس، فيجب علينا أن نتعاون على تدارس القرآن، ونجتهد في ذلك كل الاجتهاد.

*- أي بائع العطر

لماذا التدارس حسب ترتيب النزول وليس حسب ترتيب التعبد؟

السؤال الثاني : هو لماذا تدارس القرآن الكريم حسب ترتيب النزول وليس حسب ترتيب التعبد الموجود الآن في المصحف؟ إن هاته المجالس التي سنتدارس فيها كتاب الله تعالى لن نسير فيها على الترتيب الموجود في المصحف المخصص للتعبد، وإنما سنسير فيها على ترتيب آخر هو الذي اختاره الله سبحانه وتعالى لتنزيل هذا القرآن يوم كان يَنْزِل لإصلاح الواقع الذي به تم نقل الناس أول مرة من الجاهلية إلى الاسلام واخراجهم من الظلمات إلى النور، الترتيب الذي رسم منهاج الإخراج في ذلك الظرف، وبه تكمن معالم المنهاج الفطري الرباني لمثل ذلك الإخراج في أي ظرف الترتيب الذي به تم تقسيط الدواء وفق طبيعة الداء فتم باذن الله تعالى الشفاء، ومن معالمه الكبرى في أي عملية اصلاح كبرى -كالحالة التي تحتاج إليه الأمة اليوم- يمكن وصف الدواء للداء، فيقع بإذن الله تعالى الشفاء، وهو منهاج لازم أو شبه لازم بمعالمه، ولكنه ليس لازما -بحال- بحذافيره، لتغير الزمان والمكان والإنسان، ولو أنه كان لازما بحذافيره للزم حفظ ترتيب النزول بكل دقائقه، ولكانت الدعوة توقيفية لا توفيقية ولكان التاريخ يعيد نفسه بكل تفاصيله، ولكان وكان.. وما شيء من ذلك بكائن وإنما الذي كان أن هذا الترتيب الذي عليه نزل القرآن أول مرة لم يبق محفوظا بالضبط حسب الآيات التي نزلت أول مرة، والآيات التي جاءت بعدها، وحسب السور التي نزلت كاملة، والسور التي نزلت بعدها، لم يبق ذلك كما نزل أول مرة وحفظ بدلا منه الترتيب الحالي في المصحف الكريم الذي يلزم الأمة التعبد به بعد أن قال الله تعالى لها : >اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا< وقد كان منتظرا من الأمة الثبات على ما رضي الله عز وجل لها، في كل ظرف وحين، والمحافظة على المستوى الذي أوصلها اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما يقاربه، شكرا للنعمة، وتبليغا للرسالة، وأداء للأمانة، وقياما بالشهادة على الناس.

ولكن الأمة للأسف أصابها اليوم ما أصابها، ولو كان الأمر يتعلق ببعض الخروق، وببعض الشقوق في الجدران، أوبعض الثقوب في السقوف والحيطان لكان الخطب هينا، يمكن إصلاحه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن المؤسف أشد الأسف أن التدين في الأمة كاد يكون كما قال الشاعر :

فما كان قيس هُْلكُه هُلْكُ واحد

ولكنه بُنْيَانُ قَومٍ تهدَّما

أجل، تهدم بنيان الدين العام في الواقع. ولاسيما في الجانب الاجتماعي الذي لم يعد يُحْتكم فيه إلى الفقه الاسلامي والأحكام الشرعية، وبعبارة أخرى لا تجد اليوم وزارة الاقتصاد مثلا أو وزارة التجهيز أو وزارة الفلاحة أو وزارة التعليم أو أي وزارة أخرى في أغلب العالم الإسلامي تخطط على أساس المرجعية الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنة بل إن المرجع في الأمور صار أو كاد هو ما لدى “الكفار” بتعبير القرآن، أو ما لدى “الغرب” بعبارة اليوم.

وعليه، ونظرا لتهدُّم الدار، وسقوط عمارة الإسلام في زماننا في جميع الجوانب الاجتماعية، (إذ كيف يمكنك أن تنجُو من إثْم التأمين مثلا إذا حاولت أن تمتطي ولو دراجة نارية، فما بالك بالسيارة والطائرة، وكيف يمكنك أن تنجو من غبار الربا ومن آثام التخطيطات الكفرية في مختلف صورها الاقتصادية والإعلامية والسياسية والسكنية والتعليمية…).

صار لزاما أن نعود إلى أصل الأمر لننظر كيف هدى اللهُ سبحانه رسولَه عن طريق هذا التقسيط والتنجيم لنزول القرآن الكريم، كيف أعطاه المنهاج في الاصل الاول عن طريق جبريل عليه السلام مباشرة به يهتدي ويهدي الناس بما أراه الله.

ذلك المنهاج الذي لم تكن الأمة قبل زماننا هذا محتاجة إليه بهذه الصورة، وبهاته الدرجة التي صرنا نحن محتاجين إليه بها؛ إذ لم يسبق أن وقع هبوطٌ، وبُعْد عن الدين، بهذه الدرجة الموجودة في هذا القرن. وذلك ما جعل الاتجاه العام لدراسة قصص الانبياء عليهم الصلاة والسلام، وقصة الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة التي هي السيرة النبوية يأخذ اليوم وجهة أخرى لدى بعض أهل العلم الذين اضطرتهم ظروف من الخلل أن ينظروا هذه النظرات : نظرات اصلاح الخلل، وجعلَ الكلام يكثر عن السيرة و”فقه السيرة”، بل صارت الدراسات تتلمس المنهاج الأصل الذي بُنِيَ به الأمر من الصفر أول مرة وكأن الامور وصلت إلى ما يشبه الصفر.

فما العمل يا ترى؟.

محاولةً للاجابة عن هذا السؤال الضخم لدى أهل العلم كان هذا الاهتمام بفقه السيرة وبدراسة القرآن وتدارسه من جهة تَرْتِيبِ النزول، ونظام النزول، ليتجاوبا أيضا مع السيرة ويمكن تلمُّس المبادئ والأسس الكبرى التي رُتِّبَ عليها أمرُ إحلال الدين في الواقع أول مرة، لا ليُتَّبع الأمر حَذو القُذَّةِ بالقُذَّةِ كما يقال، يعني حرفا بحرف، (إذ تغير الزمان وتغيُّر المكان يوجب حتما تغير الوَصْفَة). ولكن لِتَبْقَى الاصول الكبرى والمعالم الكبرى حاضرة، أي تبقى هُدًى يهدي، سواء في قصص الرُّسُل أو السيرة، ولذلك قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم >لقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَة لأُولِي الأَلْبَابَ<-سورة يوسف- ورأس العبرة هو فقه المنهاج، ولكل نبي شرعة ومنهاج، يتفقون في أشياء ويختلفون في أشياء. >لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا<.

وما قص الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قصصهم وقص علينا قصصهم، إلا لنتفقه فيما ينبغي فِعْلُهُ حين يُوجَدُ ما يشبه ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بأن يَقْتَدِي، وقد اقتدى في عدد من المواقف صلى الله عليه وسلم بفعل الأنبياء السابقين، اقتدى بيوسف مع اخوته كما تعلمون في موقف الفتح، واقتدى بموسى عليه السلام في العقبة، واقتدى بالانبياء في مناسبات كثيرة بأعمالهم وهداهم >أُولَئِكَ الذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ<-سورة الأنعام-.

وقد أطلت في هذه النقطة بعض الشيء، لغرابتها بعض الشيء. إذ لا نجد بين علمائنا الذين اهتموا بتفسير القرآن الكريم حسب ترتيب النزول -في حدود علمي- غير عالم واحد من المعاصرين، دَرسَه وحاول بيانه وتفسيره وفْقَ ترتيب النزول، إنه الباحث الفلسطيني رحمه الله “محمد عزة دَرْوَزَة”، الذي سمى تفسيره : >التفسير الحديث<، محاولا فيه أن يخاطب الناشئة بلغة اليوم، ولكن الذي يعنيني منه أنه سار فيه على خلاف بقية المفسرين، إذ بدأه بأول ما نزل، وختمه بآخر ما نزل، حسبما أدَّى إليه اجتهاده، ورُبَّمَا فعل ذلك حين رأى أنَّ فلسطين لم يأتها الاستعمار على طريقة الدول الاخرى بل جاء إجلاءً واستيطاناً يهوديّاً، فوقع ما وقع، وضَاعَتْ البلاد والعباد، فتلمَّس المخرج على أساس النزول الأول الذي أخرج الأمة الخيّرة.

وإذن القصد من جعل هذه المجالس : “مجالس تدارس القرآن الكريم” سائرة مع القرآن الكريم وفق ترتيب النزول، الذي أُثِر عن السلف (أنظر كتاب >الاتقان< للسيوطي)، وغيره، هو أن نقف على الهدي الرباني في التجربة الاولى النموذجية الخاتمة، لنعرف كيف صنعها الله عز وجل على عينه؟ وكيف تَمَّ إحلال الدين في الواقع في تلك الفترة وفي ذلك الظرف؟ ما الذي قُدِّم وما الذي أُخّر؟، ما الذي كان إلى جانب الآخر وما الذي كان بعيدا منه؟ كيف كان الاهتمام؟ كيف عولجت المشاكل؟ أسئلة عديدة… كل ذلك نجده إن شاء الله في كتاب الله تعالى ونحن نسير في هذه المجالس، مجالس تدارس القرآن الكريم، ومن هاته الزاوية، فكأنَّ النظر في القرآن إذن ممكنٌ من زاويتين، بتعبير  اليوم : زاوية أفقية، وزاوية عمودية؛ أي زاوية دخل فيها عُنْصُرُ الزمن، وتَضَعُ في حسابها اعتبار الزمن، وزاوية لا تضع في حسابها اعتبار الزمن، بل تتعامل مع النص الموجود كما هو في المصحف الآن. تريد أن تدرس موضوعا فتدرسه في القرآن كله، وكأنه نزل دفعة واحدة، ومرة واحدة. بينما الزاوية الأخرى ترصد التطور الذي طرأ من بداية التنزل إلى نهايته؛ التَّطَوُّر الذي طرأ في المواضيع، والتطور الذي طرأ في القضايا، والتطور الذي طرأ في المنهاج عموما، وفي التصور جملة، وكل ذلك متيسر بإذن الله : النظر نظرة أفقية شاملة، والنظر نظرة عمودية متعمقة.

فهذه النقطة الثانية.

لماذا الحرص على الفهم والاستنباط ووجه العمل؟

أما النقطة الثالثة التي أحببت الاشارة إليها كذلك في هذا المجلس الافتتاحي، فهي لماذا الحرص على الفهم والاستنباط، والحرص على وجه العمل في هذا التدارس، أي أننا سنجتهد في أن يُحْرَصَ في تدارس الآيات على الفهم، أي على بيان المعنى والمراد، ونحرص أيضا على استخلاص ما أمكن من الهدى من تلك الآيات، مفردةً ومركبة، سواء في نسق الآية أو في نسق المقطع، أو في نسق السورة جملة.

ونحرص أيضا على أن نتبين كيفية تحويل هذا الذي فُهِمَ أو استُنْبِطَ إلى عَمَلٍ، يمكن أن نُزَاوله.

لماذا كان هذا الحرص؟

أولا في مسألة الفهم : لأن القرآن الكريم اليوم في الأمة، وإن كان منتشرا بعض الانتشار، ولا سيما في الجيل السابق الذين يحفظون القرآن، فإن ذلك في أغلبه يكون معزولا عن الفهم، وجَلِيٌّ واضح ان الذي لم يَفْهَمْ ماقاله الله تعالى، وما يَطْلبُ منه تطبيقه، كيف يُتَصَوَّرُ أن يطبقه؟ ذلك بأن المسألة في صورة رسالة أرسلها الله إلينا، فإذا لم نفهم ما في الرسالة، فهل نستطيع جوابا؟ لا نستطيع الجواب قطعا. لذلك يجب التركيز على جانب الفهْمِ إلَى جانب التركيز على جانب الحفظ والتلاوة، فالفهم ضروري، وشرط للعمل، وإلا كان العمل منفصلا عن العلم، إذ العلم لا يكون بغير فهم، فلذلك لابد من التركيز على هذا الامر. لإن سببا كبيرا من أسباب الخلل الموجودة في الامة اليوم مرَدُّهُ إلى عدم الفهم أو سوء الفهم، حيث القرآن في واد وفهمه في واد آخر، إما أن المسلم لا يعرف ما هو القرآن. وإما أنه لم يتمكن من تحصيل الشروط الضرورية للفهم الصحيح لهذا القرآن.

هذا ما نستطيع قوله الآن، وسيأتي الكلام عن الشّروط الضرورية للفهم الصحيح، إذ إن الفهم على وجهه الصحيح لايتوقف على أمر واحد فقط، بل على أمور في مقدمتها دراسة الالفاظ القرآنية دراسة موضوعية شاملة في القرآن كله، على منهج معين يُمكِّن من فهم المراد من هاته الألفاظ، بعد استجماع كل نصوصها في كتاب الله تعالى ودراستها على منهج مخصوص.ولكن هذا الامر غير متيسر الآن،  وسيعم يوما إن شاء الله تعالى، وفي انتظار ذلك نجتهد بحسب الحاضر والممكن، فما لا يؤخد كله لا يترك جله. هذا في مسألة الفهم.

أما في مسألة الاستنباط، فإننا في حاجة إلى أن نشغّــل الفكر في أثمن نص، وأخْصَب نص، نشغل الفكر لاستخلاص واستنباط ما يكون هدى لنا في الحياة بصفة عامة، سواء على مستوى التفكير أو على مستوى التعبير، أو على مستوى التدبير، لأن القرآن لم يأت لزمان بعينه، ولمكان بعينه؛ فما استفاده منه أهل ذلك الزمان وأهل ذلك المكان هو وحده الذي يمكن أن يستفاد كلا ثم كلا. القرآن معطاءٌ وقابلٌ للعطاء الكثير في كل زمان وكل مكان، إنما يحتاج إلى التدبُّر والتدارس، واستيفاء الشروط الضرورية اللازمة لذلك التدبر وذلك التدارس إذا حدث ذلك، وحدث تفاعل بين النص الذي جاء من عند الله سبحانه وتعالى وبين ابن آدم الذي يعيش واقعا بعينه، أمكن أن يرى في القرآن ما لم ير قبل أحيانا. ولننظر مثلا في قوله تعالى : >فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلاَم ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصَّعَّد في السماء<، لا جرم أن هذا الاصِّعاد في السماء، بعد حدوث أشكال الاصِّعّاد في الفضاء، صار يدرك إدراكاً جديدا لم يكن ميسراً قبلُ، فهذا التشبيه أصبح اليوم يذاق بصورة مادية، لأنه يحدث الآن اختناق بقلة الأكسجين الذي هو مادة غازية ثقيلة ضرورية لحياة الانسان، تنزل الى الأرض لمصلحة الانسان رحمةً من الله به وليس من الغازات الخفيفة مثل الكاربون الذي يرتفع أو الآزوط لعدم حاجة الانسان إليها أو ضرها له. فكلما ارتفع الانسان قَلَّ الاكسجين وأصيب بالضيق والحرج والاختناق… فضلا عن مسألة السرعة الملحوظة في اللفظ نفسه الذي هو “اصَّعَّد”، لأن هناك فرقا بين صَعِدَ واصَّعَّد، هذا التعبير العربي مشعر بالسرعة في الصعود والمشقة في الصعود، ومع هذه المشقة يحدث هذا الإشكال الذي يقع للمُصَّعِّد.

هناك نماذج كثيرة مثل ذلك، منها قوله تعالى : >ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر<، فقد ثبت اليوم ثبوتا علميا في علم الاجنة التشريحي، أن انتقال الجنين يكون من مرحلة النسيج اللحمي (المضغة) إلى مرحلة العظم الغضروفي (العظم)ثم بعد ذلك يكون كساء العظم باللحم، فيظهر بذلك النسيج اللَّحْمِيِّ العضلي. هذا الأمر ما كان متيسِّراً الوقوف عليه من قبل، بمثل هذا الوضوح، وهو مما يبين الاعجاز في الكتاب أيضا، مما يناسب زماننا هذا، فما كان بإمكان محمد صلى الله عليه وسلم، ولا كان بإمكان جزيرة العرب، ولا كان بإمكان بني آدم في العالم كله اذاك، ما كان بإمكانهم أن يعرفوا هذا، بل العلم الذي بدأ يشرِّح الأجنة ليعرف ممَّ تتكون الاجنة العَظْمية الغضروفية لا يتعدى عمره نحو القرن.

باختصار، التفاعل الخاص اليوم مع كتاب الله تعالى يؤدي إلى النظر من زوايا لم يكن ينظر منها إلى كتاب الله تعالى، فيؤدي ذلك إلى استخلاص هدى لم يكن ممكنا لمن كان في القرن الخامس أو السادس أو العاشر، ولذلك فلا يُرَادُ من هذا المجهود الذي يبذل في التدارس أن يقتصر على المجهود الذي بذله العلماء جزاهم الله أفضل الجزاء في تفسير كتاب الله تعالى قبل، نذكره ونصنفه… -ولا يُفْهَمَنَّ من قولي أن ذلك يُسْتغنَى عنه، كَلاَّ، ثم كلاَّ- ولكن يتجاوزه، بعد استيعابه الى ما تدعو الحاجة إليه، فالظرف الذي أنت فيه هو الذي يجعلك تَدَعُ ما تَدَعُ من ذلك وتأخذ ما تأخذ؛ لأن بعض ذلك كان صالحا في زمانه ومكانه، أو لا يصلح إلا لزمانه ومكانه؛ كان صالحا للقرن الخامس، أو القرن السادس، أو في بيئة الاندلس، أو في بيئة أذربيجان، أو ما أشبه، وبعض ذلك مستمرٌّ حتى اليوم، وبعض ذلك نافع جدا اليوم وإن لم ينفع قبل، وبعض ذلك لم يهتد إليه قبل، ويُهْتَدَى إليه الآن، لوجود ظروف جديدة لم تكن قبل.

فلهذا، الهدف من هذه الخطوة هو تنشيط عقل المسلم، بعد أن يتمكن من الأساسيات، كالذي كان للصحابة رضوان الله عليهم والمسلمين الأوائل. وهو أمران :

أمر اللسان، فهؤلاء كانوا يخاطَبون بالعربية، والقرآن عربي، أنزل بلسان عربي، فمسألة العربية اساسية في فهم كتاب الله تعالى، والقرآن لا يفهم بلسان غير اللسان العربي. فإبقاء العربية ضروري، إذا كنا نريد الاسهام في التدارس الصحيح لكتاب الله تعالى، ومرارا قلنا : إنها لجريمة نكراء هذه التي تحدث في الامة اليوم، وهي الانصراف عن العربية، وصرف ابناء الأمة عن العربية، وشغلهم بلغات غير لغة القرآن، وشغلهم بلهجات لم تصل حتى لدرجة اللغة، إن هذا من باب: >والغوا فيه لعلكم تغلبون< -سورة فصلت- إن هذا من صرف المسلمين الممنهج عن الصراط المستقيم، إن هذا من قعود الشيطان في الصراط المستقيم، نسأل الله تعالى التوبة العامة النصوح لهذه الأمة.

أما الامر الثاني فهو مقام النص، وهو ما يذكر  ويدرس عادة في ما يسمى بعلوم القرآن، فيه أمور لها صلة بظروف النص، من كيفيات الوحي وأسباب النزول وغير ذلك، تعتبر بمثابة مقام للنص، تعين على فهمه إلى جانب سياقه.

فتنشيط عقل المسلم بعد استجماع الأداة هو في غاية الاهمية ليعود العقل للخصوبة وللتفاعل الحي مع كتاب الله تعالى، ويعود إلى الاخذ المباشر، والشرب مباشرة من عين القرآن دون الاقتصار أو التوقف على الوسائط. وإذا لم يتيسر هذا لمجموع الامة فينبغي أن يتيسر على الأقل لنخبة من الامة، حتى إذا واجهها أمر، وما أكثر ما يواجهها، استهدت بهدى الله سبحانه وتعالى، وقدرت على ذلك بإذن الله تعالى. هذا عن مسألة الاستنباط.

وأما مسألة العمل : فلأن العلم لا يراد لذاته، وإن كان العلم لا يسمى علما على الحقيقة حتى ينتج هذا الذي نتحدث عنه وهو العمل، إذ المعلومة إذا استقرت في القلب ولم ينتج عنها عمل، لن يكون لها أثر في الخارج، وكان صاحبها بمثابة أرض جدباء، قد ينفع الناس ولا ينتفع، إنه بتعبير القرآن >كمثل الحمار يحمل أسفارا< الاسفار تنفع كثيرا من الناس، يقرؤون فيها، ويستفيدون، ولكنه هو لا يستفيد، والمطلوب أن يكون هو أول المستفيدين. اللهم اجعلنا أول العاملين بما نعلم من كتابك وسنة نبيك، وإلا : >أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون< إذا كان هذا الامر مفيدا، فليكن مفيدا للذي يحمله أولا، وهذا أصل العلم والزيادة منه مطلوبة في القرآن >وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً< لكن أي علم؟ هذا العلم الذي نتحدث عنه، وينفع، ولا ينفصل عن العمل  بحال، وهو الذي تشير إليه الآية : >أَمنْ هُوَ قَائِمٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، قُلْ هَلْ يَسْتَوي الذِينَ يَعْلَمُونَ والذِينَ لا يَعْلَمُون<، فإن الذين يعلمون هم أولئك الذين تقدموا : >ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه<. العلم هو الذي دفعه إلى هذا العمل، وهذا دليل علمه، إذ ليس العلم هو تكديس الخزائن في الأدمغة، لا، ليس ذلك هو العلم، بل هو ما استقر في القلب من نور، أصله من نور الله، هو نور من نور الله سبحانه وتعالى به يصير للعبد فرقان، ينتج عن التقوى >إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا< وتنتج عنه الخشية : >إِنَّمَا يَخْشَى اللَّه مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاء< فإنه لا يخشى الله أحد مثل العلماء. فالذي يخشى الله جل جلاله هو العالم، وإذن لا انفصال بين العلم والعمل بحال، ومن ثم يجب التحويل السريع للمعلوم في الحال، على أن يتم هذا التحويل إلى عمل ما أمكن ذلك وهذا هو المنهاج الأول الذي ذكره ابن مسعود رضي الله عنه فيما أثر عنه أنه قال : (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهنّ حتى يعرف معانِيهنّ والعمل بهن) يتعلم القدر القليل : يقرأ ثم يفهم ثم يعمل، فالتعلم للعمل، وهو مما هدى اليه الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم : أن يعلم الناس الكتاب والحكمة ويزكيهم أيضا. ولو تأملنا ذلك لوجدنا أن العلاقة تقريبا كالتالي : تعليم الكتاب وهو كأنه تعليم على المستوى النظري، ثم تعليم كيفية التطبيق وهو الحكمة أي السنة، ثم بعد ذلك الاشراف على الممارسة وهو التزكية، هذا عندما تكون التزكية لاحقة وعندما تكون سابقة فهي تزكية للقلب، إذ في آيات سبقت التزكية التعليم، وفي أخرى تأخرت عنها. هناك تزكية القلب والنية، وهناك تزكية العمل والسلوك. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

نظام سير المجالس :

وآخر ما تنبغي الإشارة إليه هو نظام سير هذه المجالس إن شاء الله تعالى؛ سيكون فيها التحضير الجماعي لأن الآيات القادمة تكون معلومة في الحصة السابقة. ويكون الاشتراك في التحضير الخاص وليس العام، بمعنى أننا سنسير على الطريقة التالية إن شاء الله تعالى :

- يكون أولا قراءة لما تيسر من كتاب الله تعالى.

- بعد ذلك يقوم أحد الأساتذة أو الباحثين الذين حَضَّرُوا الآيات موضوع المدارسة من الزوايا الثلاث المتقدمة فيحاول تبيين المعنى مُسْتَنبطاً منه ما تيسر له استنباطه ذاكرا وجه العمل به إن كان هناك مجال تطبيقي للآيات بحسب المستطاع. وهذا الأمر يكون بالتناوب : هذه المرة يقوم به فلان، والمرة الأخرى يقوم به فلان، وهكذا.

- بعد الفراغ من ذلك يبتدئ التدارس الجماعي؛ يسهم فيه من رأى أنه يمكن أن يسهم فيه من أهل العلم من الأساتذة والطلبة الباحثين والمهتمين، من آنس من نفسه أنه يقدر على ذلك، وإلا فهو مستمع، يستفيد مما يجري.

- وبعد ذلك يكون الختم إن شاء الله تعالى بخلاصات لهذا التدارس.

هذا السير بهذه الطريقة مقصود لأنه هو الذي يحقق مفهوم التدارس على وجهه الصحيح وما يستلزمه من مشاركة جماعية، ولأنه يسهل عملية الافادة والاستفادة، وتبادل الخبرة في هذا المجال، فطريقة الإلقاء والتلقي وإن كانت طريقة مفيدة لاشك في ذلك، لكنها لا تسمح بالتعليم السريع. والخصاص الموجود في الأمة اليوم يدفع دفعا إلى أن يكون التعليم سريعا ما أمكن.

وعليه، فسيكون برنامج المدارسة في مجمله إن شاء الله تعالى على الشكل التالي :

نحو 10 دقائق : للتلاوة.

نحو 20 د : لتقديم بيان المعنى.

ونحو 45 د : للتدارس.

ونحو 15 د : للتعليق العام والختم أي نحو ساعة ونصف في مجموع الحصة.

وموضوع المدارسة في الحصة القادمة إن شاء الله تعالى هو فواتح سورة العلق، أي الآيات الخمس الأولى منها التي هي أول ما نزل من كتاب الله تعالى. وبالله التوفيق.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>