كأنك غريب أو عابر سبيل
أول المنازل كما ذكرنا هو منزل التوبة، واليوم نتحدث عن مقام ثان أو منزل ثان هو منزل الإرادة أو مقام الإرادة، وقبل أن نُدلِف إلى معنى الإرادة، لابد أن نُذَكِّر بمعنى أساس في حياة المؤمن السائر إلى الله عز وجل في تدينه، وذلك أن العبد السالك إلى الله سبحانه وتعالى سائر في تدينه، ولذلك سماه أهل التربية سابقاً : بالسالك، أو العبد السالك، ولذلك استعمل ابن القيم هذه العبارة فقال “مدارج السالكين” مِن سَلَكَ يَسْلُك أي : سلك الطريق، سافر واستعملها راحلاً إلى ربه، وكون العبد المؤمن سائراً إلى الله في تدينه وحياته معنى أصيل من معاني العبادة في الإسلام، وذلك بمنطوق القرآن الكريم، ومنطوق السنة النبوية، فأما القرآن فمنه على سبيل المثال لا الحصر، قول الله عز وجل {يا أيها الانسان إنك كادح الى ربك كدحا فملاقيه}(الانشقاق : 6)، وهذه العبارة التي استُعمِلَ فيها اسم الفاعل، {كادحٌ الى ربك كدحا} إلى غاية هي {فملاقيه} تدل دلالة واضحة على أن الإنسان في حياته في حالة سير، ليس واقفا، بل سائر، كادح، والكدح هو السير الشاق، سائر ويحمل في سيره التكاليف، إما له، سينال بها الحسنات والأجر، وإما عليه، لا يُطَبِّقُ هذه التكاليف، فهو يحمل وِزرَها إلى يوم القيامة، يحملها وهو سائر -أحبَّ أم كرِه- {يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا} والنبي صلى الله عليه وسلم كَثُرَ عنه تنبيه الصحابة والمسلمين بعدهم إلى يوم القيامة إلى أن المؤمن في هذه الدنيا سائر، راحل، عابر سبيل، كما في وصيته لعبد الله بن عمر رضي الله عنه >كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل<(رواه البخاري)، وأيضاً في حديثه: >ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها<(رواه الترمذي وغيره).
فهذه النصوص من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تدل على أن الإنسان غير مخلَّد في الدنيا، وأنه سائر وليس بواقف ولا ثابت فيها، ما دام كل شيء في بدنه يتحرك، إذ ليس في أبداننا وفي أنفسنا شيء جامد، كل شيء فينا يتغير، يتحرك بتحرك الحياة، دورة الدم في عروقنا تتحرك، نبضات القلب تُعَدُّ وتُحسَب علينا، واحد، اثنين، ثلاثة…
كل شيء فينا يتحرك، يجري إلى غايته، كما تجري النجوم والكواكب في أفلاكها إلى قدرها الذي قُدِّر لها، وغايتها التي رُسِمت لها من لدن العليم الخبير سبحانه وتعالى، مادام الأمر هكذا فإن المسلم إذن سائر إلى الله عز وجل، إذا كان عابدا فهو سالك إليه عبر منازل العبادة، يعني أن الإنسان المسلم حينما يكون ملتزماً بدينه حقا فهو إذن يمضي في حياته سيرا إلى الله، لكن ليس عن طريق العصيان، بل عن طريق العبادة، وواضح أن ديننا يحدثنا كثيرا على أن الحياة العملية في أعمال الإيمان والإسلام حياة سائرة إلى الله عز وجل، وأشهر دلالة في ذلك وعلى ذلك : الصلاة.
سيراً وتقرباً إلى الله عز وجل
صلاة الإنسان عملية سفرية من عالَم الشهادة إلى عالَم الغيب، بل بتكبيرة الإحرام حيث يودع الإنسان -وهذا المفروض، إذ يرفع يديه حذو منكبيه- يودع كل هموم الدنيا وكل مشاغلها ويستقبل عالم الغيب سيراً إلى الله عز وجل عبر معراج الروح يترقى رتبة، رتبة، حتى يكون أقرب ما يكون إلى ربه وهو ساجد، وفي الحديث الصحيح >وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد<(أخرجه مسلم)، “أَقْرَبُ” هذه العبارة تدل على الأقربية، اسم تفضيل، يعني أنه كان في مرحلة قبلها قريباً والآن هو أقرب، قَبْلَ أَقْرَبَ قريب، وقبل قريب بعيد، إذن قبل أن يكبر تكبيرة الإحرام كان بعيدا وحينما كبَّر بدأ يقترب، فإذا ركع صار أكثر اقتراباً، ثم يقترب ويقترب حتى يكون أقرب ما يكون وهو ساجد، إذن الصلاة هي سير وعملية سفرية يسافر فيها الإنسان، إلا أنه سفر من الأدنى إلى الأعلى، “معراج” إلى ربك عز وجل بروحك، >وإن أحدكم إذا صلى يناجي ربه<(رواه البخاري)، ولا يناجى إلا القريب -هذه العبارة النبوية العجيبة-، لأن المناجاة لا تصح لغة ولا واقعا إلا بشرطين، متى نقول فلان يناجي فلانا؟ “النجوى” لا تكون إلا بين قريبين، إذا كان أحد جالساً هنا، والآخر هناك في طرف الجامع يرمي له الكلام فهذه ليست نجوى، النجوى حتى تكون مُحتكّاً به، جنبك لجنبه، حينها تسمى “نجوى” يتناجيان، فإذن هذا الاحتكاك، القرب، التقارب -ولله المثل الأعلى-، فهو اقتراب بالمعنى، اقتراب الروح من مالك الروح، قُربٌ شديد حتى كان أفضل مراحل الاقتراب، >أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد<، فإذن المؤمن إذا صلى يناجي ربَّه، بمعنى أنه يكون قريبا جدا من ربه، هذا الشرط الأول للمناجاة.
الشرط الثاني، أنه لا يتناجى إلا حبيبان، لا يمكن أن يكون اثنين متخاصمين، ولو كانا متلاصقين ويتكلمان بصوت خافت، فلا، نسمي ذلك نجوى، وإنما يتخاصمان، ولو بصوت خافت، فمن شروط المناجاة أن تكون العلاقة الرابطة بين الاثنين المتناجيين القريبين علاقة محبة، وإلا لا يجوز في العربية أن نسمي مثل هذا الكلام مناجاة، يجب أن تكون أنت وصاحبك حبيبان قريبان من بعضكما، وتتكلمان باقتراب، أنت قريب منه وهو قريب منك، وحديث المحبة بينكما، فيسمى ذلك مناجاة، >وإن أحدكم إذا صلى يناجي ربه<، فإذن العبادات كلها كالصلاة، والصيام، والصدقة، والزكاة، والحج، وسائر أعمال البِرّ تُقرِّب العبد من ربه، تجعله أقرب، فأقرب، كلما زاد كلما اقترب، إلى أن يكون أقرَب ما يكون من ربه.
إذن طبيعة الدين الإسلامي هي هذه، سَيرٌ إلى الله وتَقرُّبٌ، وفي الحديث القدسي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >إن الله تعالى قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أُحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينّه ، ولئن استعاذني لأعيذنّه<(رواه البخاري)، عبارة التقرب التي تتكرر تؤدي إلى المحبة، وما يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فالتقرب إذن يوصل إلى المحبة، وبالمحبة تكون المناجاة، >وإن أحدَكم إذا صلى يناجي ربه<.
إنما الأعمال بالنيات
غاية العبادة في الإسلام أن ترحل إلى ربك عبر طريق يوصلك إلى المحبة، هذه غاية العبادة، حقيقة العبادة في صلاتك وصومك وصدقتك وسائر أعمال البِر من أعمال الدنيا؛ لأن المؤمن يمكنه أن يحوّل كل أعماله الدنيوية إلى عبادات إذا استبطن نية السير إلى الله عز وجل >إنما الأعمال بالنيات<، يمكن للمؤمن أن يعبد الله بتجارته، يمكنه أن يعبده بكل أفعاله الصالحات وبتركِه للمنهيات، مُشْتَهَرٌ عند الناس أن العبادة تكون بالأفعال فقط، لا، بل تكون بالأفعال وتكون بالتُّرُوك أيضا، حينما تفعل لله فأنت عابد لله، متقرب إلى الله، سائر إلى الله، وأيضا حينما تترك لله فأنت عابد لله، سائر إلى الله، متقرب لله، ومثال ذلك علماء أصول الفقه خاصة وقد تحدثوا عن هذا المعنى فقعدوا قاعدتهم المشهورة “التّرُوك أفعال إن بنيت على المقاصد” يعني أن الإنسان لما يترك، لا يفعل، إذا بني الامتناع عن الفعل على نية العبادة يكون كفعل العبادة، مثلا شخص تُقدم إليه قنينة خمر -أعز الله مجلسكم- فيرفضها، يقول لا، اسمح لي، لما يرفضها فهو بين أمرين؛ إما أن يرفضها استشفاء أو طبيعة، فلا أجر له، وإما أن يرفضها تحريما فهو كفاعل الخير، وأجره ثابت بإذن الله تعالى، يعني أنه لدينا احتمالين للذي يترك الحرام، من يُعرض عليه الحرام ويقول : أعوذ بالله ويترك الحرام، كانت خمراً، أو زنى، أو غشاً، أو رشوة، أو أي نوع من أنواع الحرام، لما يعرض عليك وتتركه، إذا أنت لم تفعله، فقط لأن الطبيب قال لك لا تشرب الخمر، فلا أجر لك، ولكن لا وزر عليك، لأن النية التي تركت من أجلها الخمر ليست عبادة الله، وإنما تركتها من أجل منفعة بدنك، لو لم تكن تضرك لشربتها، ولكن لأن الطبيب قال لك: لا، فالتارك المأجور إنما هو التارك لله، الذي تُعرض عليه الخمر فيقول : لا، حرام؛ ليس لأن الطبيب قال لي لا، ولكن؛ لأن الله عز وجل قال لي لا، فمن ترك لله فهو كمن فعل لله، يعني من ترك الحرام لله، كمن فعل صياماً، أو حجاً، أو عمرة، أو زكاة لله.
هذا شرح القاعدة التي ذكرت، >التُّرُوك إن بنيت على المقاصد أفعال<، أو >التُّرُوكُ كالأفعال إن بنيت على المقاصد<، فممكن إذن أن يترك الإنسان الحرام استشفاء، أو طبيعة، وأعلمأن كثيراً من الناس يتركون الحرام طبيعة، يعني ليس لأنه يعبد الله، ولكن لا يشرب الخمر لأنه لم يتذوقها، إما بسبب مرورتها، أو حموضتها، أو زعاقتها، لا أقل ولا أكثر، ولو كانت تُلَذُّ عليه لشربها، فإذن هو يتركها لسوء مذاقها، وليس لأنها حرام، فهذا لا أجر له أيضاً، هذا ترك هو والصفر سواء، أما الترك الذي يَتْرُكُ فيه العبد الفعلَ لله الواحد القهار فهو عبادة، مأجور على فعله.
هذا الاستطراد هو لبيان أن المؤمن سائر إلى الله بكل فعله، جميع أفعالك يمكن أن توظفها في سيرك إلى الله وتُقرِّبُك يوماً بعد يوم إلى مقام الرِّضَى ومقام الأنس بالله عز وجل، هذا تقديم لمعنى نريده، وذلك هو بيان معنى الإرادة؛ لأنا تحدثنا عن التوبة وقلنا بأنها هي المرحلة الأولى للعبد السالك إلى الله؛ لأن العبد الذي يسلك طريق الطاعة؛ فهو يسلك الطريق لله، أحبَّ أم كره {يا أيها الانسان} ليس أيها المؤمن أو المسلم، الإنسان -كافر أم مسلم- {يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه}، فإما هذه وإما الأخرى، فأنت تختار بين طريق الطاعة، أن تَسْلُكَ إلى الله عبر مدارج السالكين بين {إياك نعبد وإياك نستعين} كما عبر ابن القيم رحمه الله تعالى، وإما أن تسلك -والعياذ بالله- بين مدارك الشياطين -نجانا الله وإياكم منها-؛ لأن المدارج هي التي ترقي، أنت سائر وأنت تترقى، والمدارك هي التي تنزلك، أنت سائر وأنت تنزل” حتى الدرك الأسفل -نسأل الله العافية-.
مقام الإرادة يلي منزلة التوبة
من هنا إذن يتبين أن المؤمن حينما يختار أن يسلُكَ إلى الله عبر مدارج الإيمان، عبر معراج الصلاح إلى الله، ينطلق من التوبة، وقد بينا ما يسَّر الله، ولكن توبة العبد لا تثبت إلا بشروط -مجموعها مُلخَّصٌ- في منزلة يجب أن يحققها مباشرة بعد توبته الكلية أو الجزئية إلى الله عز وجل، هي درجة “الإرادة” أو منزلة “الإرادة” أو مقام “الإرادة”، سواء كانت توبتك كُليّة أو جزئية؛ لأن التوبة نوعان، توبة كلية وتوبة جزئية، من ذنب من الذنوب.
يمكن أن يكون الإنسان صالحاً يصلي، وقد خلط عملا صالحا وآخر سيئا، فيتوب من السيئ، هذه توبة جزئية، وقد تكون التوبة كلية يعني -والعياذ بالله- أن ابن آدم الذي لا دين، ولا صلاح، ولا صلاة له… كل أمره شرّ، حينما يعلن التوبة إلى الله وباب التوبة مفتوح إلى أن يمنعها الله عز وجل، ممَّ هو معروف في الحديث، يحتاج إلى مثبتات على التوبة؛ لأن الشيطان لعنه الله لا يترك التائب على توبته، فإذا تاب من خمر لابد أن يذكره بها مرة مرة، ويأتي له بشياطين أصحابه يطرقون عليه باب الدار، “مالك يا فلان قد هجرتنا؟” ويقدمون إليه الخمر هدية، حتى يردوه إلى الفساد، حتى إذا رجع أصبح هو من يؤدي ثمن الخمر.
وهذا كثير في المجتمع نعرفه جميعاً في الخمر، وفي الزنا، وفي السرقة، وفي الفساد، وفي سائر أنواع المصائب والموبقات، نجانا الله وإياكم وعصمنا منها.
فإذن حتى يثبت الإنسان في طريق الصلاح ينبغي أن يدخل بسرعة مقام الإرادة لتكون توبته توبة نصوحا، لا يعود بعدها أبداً بإذن الله عز وجل إلى طريق الضلال جزئيا أو كليا إلا أن يشاء الله، هذه الإرادة هي التي اشتق منها الصالحون قبل مصطلحا ما يزال مستعملا إلى اليوم، وهو مصطلح المريد، والمريد الذي نتحدث عنه هو المريد الحق وليس الذي ضل بطرق الضلالات، إنما المريد الذي اتبع الطريقة الحق، طريقة الله عز وجل، وذلك قوله سبحانه : {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}(الكهف : 28).
أدومـهـا وإن قـل
الإرادة المطلوبة إنما هي المبنية أساساً على الاستمرار، لأن المشكل الكبير عندنا في الدين أو في التدين أو في ممارستنا الدينية، هو الدّوام؛ لأن ديننا ليس فيه مشقة، إطلاقا كلما ثقل عليك أمر أو شق عليك أو حرُجَ كانت لك فيه رخصة، لا يوجد في الدين إطلاقا نازلة من النوازل ثقل على صاحبها ولم يعطه الله فيها رخصة، كل الشدائد، كل الضرر، كل الحرج مرفوع وهذا من كليات الشريعة الإسلامية، ومن أصولنا التعبدية، ولكن الصعب عندنا في الدين هو الدوام على الأمر السهل، ولذلك قال الله عز وجل {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} الغداة الصباح، والعشي العشية، وهما رمزان للدلالة على تحول الوقت؛ تحولين كبيرين في أربعة وعشرين ساعة، تحول بروز النهار، وتحول غروب النهار وبروز الليل، بالغداة والعشي، فهما رمزان إذن على سيرورة الزمان وسيرورة الوقت، رمزان دالان على الدوام والاستمرار، فإذن المشكل هو أن تَثْبُتَ على هذا اليسير وعلى هذا السهل بالغداة والعشي.
كيف تَثبُت عليه؟
لا يمكن أبداً أن تثبتَ على هذا السهل القليل إلا إذا كنت مريدا وجه الله، {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي}، ما صفتهم؟ يريدون وجهه، وهذا الأمر من أعمق معاني العبادة في الإسلام، حينما يريد العبد وجه ربه، ووجه الرب سبحانه وتعالى هو وجه الجمال والجلال والكمال، ثبت في الصحاح أن خير ما يصل إليه العبد في الجنة أن يرى وجه ربه، {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}(القيامة : 22)، “ناضرة” بالضاد، ليس فيه إشالة، أي طرية ندية، مثل العود الريان (شجيرة نابتة بجنب مجرى الماء الحلو) يكون عودها ريّان، خضرتها وارفة، نوارتها زاهرة، فتلك نضارة، والوجه النَّضر أو الناضر هو الوجه الطري الذي يمتلئ بالحيوية والشباب والنور، ولكن هذه الطراوة والنداوة التي تكون في وجوه الصالحين يوم القيامة ليست ذاتية، لم تطلع من ذاتهم، لا، ولكن تلك النضارة إنما هي مرآتية لأن تلك الوجوه النيرةكالمرآة، وجه المؤمن يوم القيامة يكون مثل المرآة يضرب فيه نور الله سبحانه وتعالى -وله المثل الأعلى- فيعكس وجه المؤمن نور ربه ويكون نَضِراً ناضِراً بتلك الرؤية {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} لو لم تكن ناظرة إلى ربها لما نَضُرَ وجهها، فهذه النضارة هي بسبب تلك الرؤية السعيدة التي يُثبِتُها في العقيدة أهل السنة والجماعة، ثم بعد ذلك في الحديث النبوي الشريف الصحيح المفسّر لهذه الآية يحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن سوق الجنة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : >إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا<(صحيح مسلم).
بما أن الله عز وجل حرَّم السوق عند النداء يوم الجمعة في الدنيا، وقال علماؤنا من المالكية وغيرهم “كل بيع عُقِد بعد النداء فهو باطل يفسخ، أيّ بيعة وشرية انعقدت، ولو نكاحا أي زواجا، العدول عندما يعقدون الزواج والمؤذن يؤذن يوم الجمعة فذلك الزواج باطل، انتبهوا عباد الله لا يزوج أحد أحداً ولا واحدة عند النداء يوم الجمعة، فذلك العقد باطل، فإذا كان ذلك كذلك، فكل عقود البيع والشراء والمناكحات باطلة أو فاسدة حسب اختلافات الفقهاء، وفي جميع الأحوال سيئة “لن تكون صالحة أبداً”، فالله عز وجل عوّض للصالحين جزاءَ امتناعهم عن البيع والشراء يوم الجمعة، وجعل لهم في الجنة سوقا ينعقد يوم الجمعة، وهذه السوق تعقد في كثبان، يعني في هضاب مثل جبال من الرمل، ولكن هذه الرمال ليست برمال حقيقية بل هي رمال من المسك، قال النبي صلى الله عليه وسلم >فتهب عليهم ريح الشمال< وريح الشمال كناية في ذهنية الإنسان العربي على الهواء الطيب، كما نقول نحن في المغرب “الغَرْبِي”، وفي الجزيرة العربية يقولون “ريح الشمال” كما نسجتها من معلقة امرئ القيس، من جنوب وشموأل، الجنوب تأتي لهم بالحرّ والشوم، والشمال تأتي باردة، فتهُبُّ عليهم ريح الشمال، ولكنها ريح الجنة تأتي بالغربي وبالهواء الطيب فتحثو في وجوههم، رمال المسك وترميها على وجوه الناس الصالحين الجالسين في السوق، فتزداد وجوههم جمالا وبهاء بنظرها إلى الله أولاً، ثم بالريح التي هبت عليهم من لدن الله تحثو في وجوهم المسك والجمال والبهاء، فيعودون إلى أهلهم، فلما يراهم أزواجهم يقلن والله لقد ازددتم جمالا؛ لأنه لا يدخل الجنة إلا الشباب ولو مات الإنسان هَرِماً، فإن الله يبعثه شابا إلى الجنة، فيكون جميلا ثم يزداد جمالا، والله لقد ازددتم جمالا، هؤلاء الناس من الرجال الصالحين الذين كانوا في السوق حتى هم يقولون لنسائهم وأنتن والله لقد ازددتن جمالا، حتى هن يصبحن أكثر جمالا وأحسن بهاء، وهذا كله إنما هو من هذا الخير، وهذا الجمال، وهذه البركة التي تهبُّ على المؤمن بالرضى الذي يحصل له.
إذن نعود إلى الآية {يريدون وجهه} الذي أراد وجه الله عرف ما أراد، ومن عرف ما أراد فإنه حينئذ يقصده، ومن عرف ما قصد -كما يقولون- هان عليه ما وجد، إذن تبين أن المؤمن لِيكون مريدا حقا لوجه الله لابد وأن يعرف ربه؛ لأنه لا يمكنك أن تكون مريدا لله وأنت لا تعرف الله، لا يمكن، في الطبيعة البشرية أن يحب الإنسان شيئا لا يعرفه، فالمحبة لا تتعلق بمجهول، هذا منطق، شيء لا تعرفه إذا لم تكرهه لا تحبه، يقولون في القاعدة : >الإنسان عدو لما يجهل<، فليكون المؤمن محبا لله مريداً له لابد وأن يعرف الله عز وجل، ولا يمكنك أن تعرفه حقيقة إلا بعد أن تذوق من نعمائه وأفضاله وخيراته؛ لأن معرفة الله إنما تقع بتذوق نعمه وأفضاله وإكرامه سبحانه وتعالى، نحن الآن في الدنيا نسير إلى الله عز وجل إما أننا نعرف ديننا في سيرنا إلى الله عن طريق النصوص، الكتاب والسنة “العِلم”، وإما عن طريق التجربة الوجدانية، فأما ما يكون عن طريق النصوص فهو العلم وأما ما يكون عن طريق التجربة الوجدانية فهو المعرفة، ولذلك فرقوا من قبل بين العالِم والعارف بالله فليس كل عالم عارفاً بالله، وقد يكون العالم عارفاً بالله وقد يكون العارف بالله عالما وقد لا يكون.
إذن العلم علم النصوص وكيفيات العبادة، العلم أحد الأمور التي نتعلم بها كيف نعبد الله عز وجل، بالنصوص والاستدلال والقياسات والأقيسة إلى آخره، أما المعرفة فهي إحساس قلبي كما في الحديث : >عرفتَ فالزم<، فالذي عرف أي وجد بذوقه وقلبه معنى رحمة الله، ومعنى فضل الله، ومعنى كرم الله، فرق بين شخص يعد أسماء الله الحسنى كلها، هذا علم، تقول له ما هي أسماء الله الحسنى، يقول لك: الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام، حتى يكمل تسعة وتسعين، وشخص يُدرِك هذه الأسماء، يمكن أن لا يستظهرها مرتبة، ولكنه يدرك ما الرزاق لأنه عندما يجوع ويحس بأنه محتاج إلى الله عز وجل كي يرزقه ثم يحصل له رزق ويطعم هذا الرزق يبدأ يأكله ويحس بالنعمة الإلهية في قلبه، فذلك أدرك ما اسم الله “الرزاق” أحس به وذاقه وشعر بقيمة ومقام الرب الكريم الرزاق سبحانه وتعالى، وبين إنسان مثلاً نسأله ونقول: إذا مرضت من يداويك؟ يقول : الله من يشافيني، وبين أحد مرض حقيقة وذهب للطبيب الأول لم يعطه دواء، وذهب للطبيب الثاني كذلك، للطبيب الثالث، للرابع، حتى يئس وقنط ثم جاءه الفرج من الله وشافاه الشافي الذي لا شفاء إلا شفاؤه، هذا عندما تقول له : من هو الشافي؟ لا يقولها لك بلسانه ولكن يقولها لك بقلبه لأنه ذاق، تذوق من هو الشافي حقيقة، هذه معرفة، >عرفت فالزم<، والمؤمن مطالَب حتى يحصِّل في التدين الأمرين معاً،يعرف الله من خلال العلم، “الكتاب والسنة” شرط أساسي حتى لا يضل في الخرافات والخزعبلات، ثم يضيف إلى ذلك أن يذوق وأن يعرف وأن يسلُكَ إلى ربه وجدانيا؛ لأن ثمار العلم إنما تقع بالقلب، فإن لم تقع بالقلب فلا قيمة لها وذلك قوله عز وجل {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالها}(محمد : 24) فالتدبر الذي قد يبدو عملية ذهنية إنما قيمته لما يعطي ثمارا قلبية، ولا قيمة لتدبر لا يوقظ جِدوة الإيمان في القلب، يصبح حينئذ شكلا بلا مضمون، كالأعراب في إيمانهم، {قالت الاعراب آمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم}(الحجرات : 14) “لما” تنفي شيئاً في الماضي ولكن فيها احتمال أن يجيء ذلك المنفي في المستقبل، أنتم أسلمتم ولكن لم يدخل الإيمان في قلوبكم بعد، ممكن أن يدخل بعد تذوقه، إذا ذقته، والدين الوسط، ونحن أمة الوسط، {وكذلك جعلناكم أمة وسطا}(البقرة : 143) أن يجمع المؤمن، كما عبروا من قبل، بيّن الشريعة والحقيقة، فإنسان اشتغل بالنصوص فقط يتخشب قلبه، -هذه العبارة أستعملها شخصياً-، يصبح قلبه مثل الخشبة، جافاً، خشناً؛ لأن النصوص بدون تطبيق وِجداني، وبدون تجربة قلبية لا تعطي شيئا، كمثل الحمار يحمل أسفارا، وكثير من الناس يحفظون القنانطير المقنطرة من الكتب لا قيمة لهم ولا وزن لهم في الدين من حيث معاملاتهم، لماذا؟ لأن المعاملة تأتي من لين القلوب، من القلوب الرطبة، إذا كان القلب رطبا، تكون المعاملة رطبة، فإذا كان يحفظ والقلب خشن متخشب إذن علمه وبالٌ عليه وحجة عليه لا له، أما إن كان لا يتجاوز ما يحفظ حتى يتذوقه ويعمل به ويُصغِي إلى خطاب الله فيه {يا أيها الذين آمنوا} ويشعر أنه معني في نفسه لأنه فرد من الأفراد الذين آمنوا فيستجيب لله، يستجيب لما يحييه إذا دعاه إليه الله ورسوله، فذلك مرجو له أن يجمع بين نصوص الشريعة وحقيقة التدين التي هي سلوك القلب إلى الله عز وجل.
ذاق طـعـم الإيـمـــان
إرادة الله التي تثبت العبد على توبته لا تكون إلا بتذوق ما الإيمان، يجب على الإنسان أن يتعلم كيف يتذوق الإيمان، يتذوقه بمشاهدة آثار رحمة الله في نفسه وفي الخلق وفي الآفاق، فإذا شاهد ذلك ذاقه حقاً، وإذا ذاق يحب، لأنك حينما تذوق الشيء تعرفه، وإذا عرفته ووجدت حلاوته أحببته، وحلاوة الإيمان التي يتحدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا بعد ذوق، لأن الحلاوة ما هي؟ الحلاوة شعور وجداني، وتجربة خاصة لا تتعدد، معنى هذا الكلام أنه لا يمكن أن تعطي لأحد ما الحلاوة التي وجدتها أنت في الأمور المادية أو في الأمور المعنوية، مستحيل، لابد ليعرف ما الحلو وما درجة الحلو، لابد له من أن يذوقه أيضاً، كما أمثل مراراً، لو أنك أردت أن تشرح ما العسل لشخص لم يذقه قط في حياته فإنك لن تستطيع، تقول له : هذا هو العسل، تلده النحلة، وإنه حلو، اشرح له ما شئت، لن يعرفه إلا في حالة واحدة، يوم تعطيه ملعقة منه ويذوق، عندها سيعرف ما هو العسل؟ قبل أن يذوقه يستحيل استحالة مطلقة أن يعرف ما العسل، وسائر الأمور الذوقية، الحلاوة والملوحة، كل الذوقيات لا يعرفها إلا بعد ذوقها لأن اسمها “الذوق” من هنا قالوا إن الذوق تجربة فردية يعني لا تتعدد لا يمكن أن أشرح لك الذوق ما هو، كما قال الغزالي رحمه الله :
>فكان ما كان مما لست أذكره فظُنَّ خيرا ولا تسأل عن الخبر<،
في إشارته اللطيفة، يتحدث عن تجربته الدينية الوجدانية يقول لك هذه الأمور لا يمكن شرحها، والذي يمكن هو شرح الطريق إليها، كيف تفعل حتى تذوق، لا أقل ولا أكثر، أما أن يعطيك الثمرة، فمستحيل، سِرْ أنت وبيديك اقطف الثمرة، ابك على مولاك، وتب إلى مولاك، وحاول أن تتذوق معنى مولاك في نفسك وفي الحياة، وبعد ذلك تدرك ما أسماء الله الحسنى، ما الرحمان، وما الرحيم، وما الملك، وما القدوس، وما السلام، وما المؤمن، إلى آخر الأسماء، سوف تدركها إدراكا وجدانيا؛ لأن ديننا هكذا طبيعته في الدنيا وفي الآخرة.
الدين تجربة فردية قبل أن يكون جماعية، فردية أولا ثم جماعية ثانيا، ولكن فردية بالأساس كالموت- كما قلت من قبل- لا يمكن أن يموت الناس بصورة واحدة؛ لأن الله عز وجل قال في القرآن الكريم كل نفس ذائقة الموت، فمادام أن الموت ذوق فلا يتعدد، ولن يخبرك أحد كيف مات، مستحيل، ولو كانت الوسيلة واحدة، ولو ماتا بطريقة واحدة، كل واحد الله أعلم بسكرته، ما حجمها، وما شكلها، وما حرها، الله أعلم بما وجد؛ لأن الموت شيء يُتلقى، ويُحس بالإحساس، فرُبَّ ميت في موته وهو يموت يجد ريح الجنة، كما قال الصحابي الجليل : >أَخبِر رسول الله أني أجد ريح الجنة< ضرب في الجهاد صحابي جليل وهو يموت، مازال لم تكتمل موته يقول لصاحبه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقل له إني أشم رائحة الجنة، وربّ شخص وجد غيرها نسأل الله العافية من غيرها.
خـــلاصــة
من هنا إذاً نخلص أن أساس الإرادة أن تعرف، وأساس المعرفة أن تذوق، إذا ذقت أحببت؛ لأنك حينما تذوق نعماء ربك تحب ربك لأنه يُحبِّبُ خَلْقَهُ فيه بنعمائه القابلة للذوق، وحينئذ إذا أحب الإنسان ملأ قلبه الشوق إلى مولاه، فيسلك إليه ذُللا، فرحا مسرورا، يجد شوقاً يحدوه إليه، لا يجد في ذلك لا مللاً ولا سأما، فيثبت بإذن الله عز وجل على طريق الله مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.
——————
(ü) هذه هي الحلقة الثانية من حلقات منازل الإيمان ألقيت بالجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي .
أعدها للنشر : عبد الحميد الرازي