وصلت السيارة التي تقلنا إلى المنطقة التي يوجد بها المركز الدعوي بالعاصمة كولومبو..
وأخيرا رست عيوننا عند معالم إسلامية، تبدت بيضاء مشرقة في لباس النساء والبنات المتحجبات ولباس الرجال الملتحين الذين كانوا يعبرون أزقة وشوارع المنطقة.. وسبحان الله العظيم قارئي، (والله على ما أقول شهيد) فبقدر ما بدت لنا ملامح السريلانكيين البوذيين والهندوس كابية بلون غامق يكاد يميل إلى السواد، وعيون موصدة تكاد تنطق بضنك ما، أو حزن ما، أو لعله بكل بساطة انطواء يميز الشخصية السريلانكية ، أقول بقدر ما سجلنا ذلك بانقباض في القلب ونحن البعيدون بآلاف الكيلومترات عن أرضنا المغربية الإسلامية الطيبة، بقدر ما اعترتنا راحة وانبساط نفسي وشعور بالتواشج ونحن نمسح ملامح السريلانكيين المسلمين الساكنين بالقرب من مركز كولومبو، فقد كانت وجوههم، سبحان الله، مجللة بنور رباني وغلالة محبة وهيبة أضفت على بشرات وجوههم انفتاحا مال بها إلى الصفاء والبياض.. فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة.
ودخلنا إلى المركز.. إلى حيث الجناح المخصص للنساء، وهناك وجدنا أنفسنا وسط خليط من اللغات والسحنات والملامح، لنساء عربيات أو أعجميات جمعت بينهن الكلمة الطيبة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وَهَمَّ تلبية دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم “لتبليغ ولو آية”.. فكأننا ولجنا قناة تلفزية مغربية في ساعات ذروتها بين مسلسل مغربي ومصري وتركي وهندي وسعودي.. وتلك من آيات هذا الدين العظيم الذي جعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف، فانخرطنا بما علمنا الله عز وجل من أبجديات اللغة الإنجليزية ومهارات اللغة الفرنسية، ولهجات عربية محلية في تبادل تحية الإسلام والسؤال عن أحوال الإيمان وأحوال الدين فيالبلدان الأصلية، وانتابني شعور غامر بالامتنان لله عز وجل الذي واصل بين القلوب وإن اختلفت الألسن.
ونحن نستأنس بالمكان وأهله، أقبلت نحونا أخت سريلانكية، منفرجة الأسارير جمة الحياء قدمت نفسها على أنها مترجمة المركز، وأنها في خدمتنا حتى نغادر إلى مناطق أخرى للتمرن على جهد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : جهد الدعوة.
ومن جملة ما قالته أنها امرأة متزوجة، وأنها رفقة زوجها كما أزواج سيريلانكيين آخرين يتعاقبون على المركز للقيام بأعمال الترجمة وأيضا لخدمة الزائرين، الوافدين على سريلانكا من كل أصقاع العالم، للقيام بعمل الدعوة، ذلك العمل الذي جعل الصحابيات الفضليات يركبن البحر كأم حرام وقبلهن نساء الدعوة الأوليات اللواتي عبرن قارة آسيا حيث الجزيرة العربية رفقة أزواجهن، ليلجن قارة أخرى قارة إفريقيا، حيث كانت هجرتهن إلى الحبشة، فرارا بدينهن من بطش سفلة قريش..
فهل يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؟؟
والخدمة كما في ترتيب الإخوة والأخوات السريلانكيين مترجمين ومترجمات تشمل أشغال الغسل والتنظيف والأكل، وترتيبات النوم إلخ.. شيء يشبه عمل الخادمات في وسطنا المغربي بل هو عمل الخادمات عينه، تقوم به الأخوات السريلانكيات بكل عفوية وهن المترجمات المثقفات عن طيب خاطر ودون شعور بعقدة الدونية أو ما شاكلها، ولو أن مترجماتنا العربيات دعين إلى عمل مشابه وبنفس حس التواضع والتفاني لوصلت أخبار إساءة معاملتهن والمس بحقوقهن إلى دهاليز الأمم المتحدة وسجل الحدث ضمن ملفات العنف ضد النساء، فالحمد لله على نعمة الدعوة التي تجعل الخدمة تصنف في خانة العمل في سبيل الله ويستوي في البدل، العلية والعوام، المثقفون والبسطاء.
غيرنا ملابسنا وارتحنا قليلا في جو من الحرارة الخانقة التي لم يكن يرطبها إلا المروحيات الهوائية التي لا غنى للبيوت السريلانكية عنها، وأثناء ذلك كانت الأخت السريلانكية في تفان عجيب أكاد أجزم أنه صحابي الصفات تنتقل بين النساء منقبة في الوجوه عن طلبات حقيقية وحتى محتملة لتلبيتها على الفور، وفي كثير من المرات نابت لغة الإشارة وأكثر منها لغة القلوب في تبليغ الحاجات إلى الأخت المترجمة التي كانت تتدفق رقة.. انصياعا.. ويكاد رأسها لا يستقر فوق كتفيها، طأطأة و قبولا لما كان وسيكون من مطالب، حد إحراجنا وإشعارنا بأن مكارم الأخلاق في طبعتها النبوية استقرت عند هؤلاء القوم من إخواننا السريلانكيين أما نحن فما ورثنا إلا القشور.. ويبقى زادنا من الأخلاق مقارنة بهم فقير.. فقير..
ودعني أقول لك قارئي أن التمرن على عيش الدين إحساسا وممارسة، على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم رافقنا بالدقيقة والثانية، فلا حركة ولا سكون إلا على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم جلوسا وأكلا وتواصلا ونوما، وفي كل تلك المحطات أبهرنا عمق تعلق الأخوات السريلانكيات بالسنة النبوية الشريفة وحرصهن على عبادة التفكر في شأنها.وعلى سبيل المثال فإن الطعام يرافق بأحاديث نبوية في السياق مع استحضار فضل هذه النعمة، وإكرام المتفضل عز وجل للعبد برزقه الطعام وتسخير الجسم بكل أعضائه لاستقبال هذا الرزق بعد تسخير الأرض لإعداد هذه النعمة. وحركة التدبر هذه، تشفع بنية التقوي الجسماني لعبادة المولى سبحانه باعتبار أن المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف..
حتى لعق الصحفة كما كان يفعل الحبيب طلبا للمغفرة، والتقاط فتات الخبز بكل عناية وأكله تقديرا لنعمة تيسيره لنا من الله عز وجل.. (في الوقت الذي تزهق فيه ملايين الأرواح في العالم بسببه، إذ يشح الغيث ويتمدد التصحر، ويجف الضرع وتنهب مؤسسات الإغاثة “الإنسانية” ما فضل عن نادي الأغنياء من معونات غذائية.. وفي الوقت الذي يطاح فيه برؤوس زعماء في القرن الإفريقي كأوراق الشجر، حتى سرت النكتة السوداء الشهيرة في إفريقيا بأن أول من يصحو باكرا في إفريقيا يصبح رئيس جمهورية، وذلك لهشاشة الحكم وسيولة الانقلابات المدنية والعسكرية الناجمة عن مشاكل الجفاف وندرة المواد الغذائية)، كل تلك المعطيات الإسلامية الباهرة الحكيمة، تجعلنا نتساءل على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلا نكون عبادا شكورين؟ وهو الشكر الذي تعلمنا أبجدياته الصادقة بين أخواتنا السريلانكيات مما سنفصل فيه لاحقا.
بعد صلاة العصر كان لنا موعد مع شيخ سريلانكي ألقى علينا كلمة دعوية بليغة ومؤثرة في اتجاه إعدادنا للخروج إلى القرى السريلانكية، تلك القرى المنكوبة بإعصار تسونامي.
وسنتوقف في حلقة قادمة عند هذه الكلمة الغنية القطوف، قبل أن نشد الرحال إلى فصول موت مؤجل طرق باب القرى المسلمة إبان الضربة الموجعة لتسونامي وتراجع أمام شموخ عقيدة أبنائها وتشبثهم العجيب بدينهم وهم القلة الغريبة المستضعفة، وللحديث بقية.